كتاب عربي 21

يوحّدهم الاستبداد وتفرقهم الحرية

1300x600

المشهد التونسي مكتظ بالتعبيرات الحادثة بفعل التصادم الكبير الواقع هناك بين مختلف الفواعل السياسية والفكرية في مواجهة المحاولة الانقلابية الجديدة. وهو مشهد قد يتميّز عن بقية المشاهد العربية بسبب خصوصية السياق لكنّه لا يختلف عنها في الأصول المؤسسة للمشهد المكوّنة له.
 
بعد إعلان الانقلاب في 25 تموز (يوليو) الماضي تحت قناع " الحركة التصحيحية " وقعت البلاد في حالة من الصدمة بفعل القرار المفاجئ سواء على المستوى الشعبي أو النخبوي. قليلة جدا بل نادرة هي الشخصيات التي أعلنت منذ اليوم الأول وبشكل علني رفضها للانقلاب وسمّته باسمه وطالبت بإسقاطه بما في ذلك النخب المحسوبة على الثورة. لكن مع مرور الأيام وتخبط المشروع الانقلابي ظهرت المواقف بشكل متصاعد منددة باختطاف السلطة ومنبّهة من عودة الاستبداد ومصادرة الحرية. 

أما اليوم فقد توسّعت جبهة معارضة الإجراءات الاستثنائية التي أقرّها الرئيس المنقلب على الدستور على مستوى النخب الفكرية والسياسية. هذا الطور الأخير يطرح جملة من الأسئلة الإشكالية: لماذا عجزت هذه النخب عن الاتحاد زمن الحرية أي قبل إعلان الانقلاب؟ لماذا تشتت في طور يجب عليها فيه أن تتحد واتحدت في زمن تشتتها؟ أين مكمن الخلل في بنية النخب العربية والتونسية وأين العطب في خطابها؟ 

من الاستبداد إلى الحرية 

تتمثل المعضلة التحليلية الأولى في ضبط أصناف النخب التونسية بما هي نموذج تمثيلي مُصغر عن النخب العربية. فهي تتوزع على مستويات عديدة منها السياسي ومنها الفكري ومنها الحزبي ومنها الحقوقي المدني وإن تقاطعت هذه المستويات وانصهرت أحيانا في تكوين نفس الشخصية الواحدة وفي تحديد خطابها وتوجهاتها ومضامينها.
 
قبل الثورة كانت أغلب النخب خاصة منها السياسية والأكاديمية إما كامنة أو مندرجة بحماس طفولي في مشاريع الاستبداد التي كانت تقتات منها وتحقق عبرها طموحات فردية في الكسب والوجاهة الاجتماعية والترقي الوظيفي. قليلة هي النخب السياسية والفكرية التي واجهت آلة القمع ودفعت ثمنا باهظا من وجودها الاجتماعي والأسري والمهني لكن رغم هذه القلة فقد كان هناك نوع من الاتفاق الضمني أو العلني على رفض الاستبداد والمطالبة بإلغائه وإحلال شروط الحرية والحق في التعبير والممارسة السياسية.

 

لا الإسلامي قادر على فهم اللحظة التاريخية وهو الذي نجح في تجميع كل شروط الانقلاب حوله ولا اليساري يُدرك أن عداء الإسلاميين ليس مشروعا لبناء دولة ولا القومي قادر على أن يبرأ من مرض الزعيم وإدمان الانقلابات والرقص في حفلات الدم ولا اللبرالي مؤهّل لاستبطان شروط الحرية بما هي مكسب أفقي وليست انتقاء طبقيا.

 



لكن حتى بين هذه القلة القليلة لابد من التمييز في السياق التونسي بين النخب المبدئية يسارية كانت أو إسلامية أو لبرالية وبين نخب الشعارات التي كانت كائنات وظيفية تقع في المنطقة الرمادية الفاصلة بين مجال الحرية ومجال الاستبداد. أثثت هذه المساحةَ النخبُ اليسارية الاستئصالية التي كانت مكلّفة بمحاربة التيارات الاسلامية والتوجهات المحافظة طوال أكثر من نصف قرن مع بورقيبة ومن بعده بن علي. كما تحركت على نفس الجبهة التيارات القومية أو العروبية التي كانت ترفع شعارات الثورة والوحدة التحرر والمقاومة ولكنها كانت الذراع الضاربة للاستبداد بعد أن مكّنها من مفاصل حساسة في بنية الدولة والمجتمع.
 
نفس هذه النخب الرمادية هي التي باركت الانقلاب فمهّدت له ودفعت به ودافعت عنه وعملت على توفير أسباب نجاحه تُحفّزها إلى ذلك دوافع مختلفة بقطع النظر عن الطابع الانتهازي الذي يحكم حركتها. فلليسار وفاء لتقاليد الاستئصال وخدمة الاستبداد أما القوميون فمهووسون بنظرية القائد العظيم والزعيم الخالد الذي لا يأتي إلا عبر الانقلابات وبِرك الدم الأحمر القاني فيعيث في الأرض فسادا وهزائم. وحدها النخب اللبرالية الرمادية التي ترى في أنظمة القمع حارسا لثقافتها ومصالحها وولاءاتها الخارجية هي التي أمسكت بقلب منظومة الحكومة وتمكنت من فرض أنماطها الثقافية ومشاريعها الاجتماعية. 

من الانكسار إلى حتمية التأسيس
 
لم يكن الانقلاب في حدّ ذاته إلا إعلانا عن فشل النخب التونسية في حماية المسار الثوري وفي صيانة الأمانة التي سلّمهم إياها شعب تونس بعد أن أطاح بنظام رفعوا هم شعار معارضته عقودا من الزمن. نجح الشعب الفقير " الجاهل " في إنجاز ما عجزت عنه نخبه " المثقفّة " لكنّه وجد نفسه بعد عقد مرير من مشاهد "صراع الديكة " تحت قبّة البرلمان وعلى منابر " إعلام العار " يعود إلى الساحات والميادين لإنقاذ المُنجز الثوري من المنحدر الذي شاركت كل النخب التونسية في الدفع نحوه.
 
هذا العوْد إلى ساحات البدايات بنفس الشعارات هو عنوان فشل النخبة في تأمين المسارات الآمنة للمنجز الشعبي. على عرش هذا العجز يتربع الإسلاميون الذين قدّم لهم شعبهم أعظم الثورات وجاءتهم السلطة على طبق ذهبيّ فانتهى الأمر بزعيم حركة النهضة واقفا على باب البرلمان في منتصف الليل يناجي أقفاله وينشد مفاتيحه من فوهة مدرعة انقلابية.
 
لا مجال هنا يسمح بالخوض في بؤس الأداء السياسي للإسلاميين في تونس وفي كل التجارب العربية التي انتهت بالمجازر والمذابح والفشل الذريع لكن المؤلم أن هذه التيارات لا تتعلم من فشلها بل تمعن في المكابرة والهروب إلى الأمام وعزف أنغام الضحية وهي بذلك تُسرّع في تصفية كل شروط إمكان بقائها في المشهد.
 
رجّة الانقلاب في تونس كانت قويّة وهي وحدها التي كانت قادرة على إقناع الجميع بأن العودة إلى مربّع الاستبداد أمرٌ قد يحدث في طُرفة عين ما لم تُقتلع كل الظروف التي يمكن أن تقود إليه. أول هذه الظروف أو الشروط هي تحقيق القدر الأدنى من تجانس القوى السياسية والفكرية ـ إن وُجدت ـ مهما كانت الوسائل المستعملة في سبيل تحقيق ذلك.
 
لكنّ الثابت اليوم في المشهد التونسي أن نُخبه تُعاني من خلل بنيويّ عميق جعلها حبيسة صراعات السبعينيات الأيديولوجية ورهينة أطماعها الشخصية المغلّفة بالثقافة والفكر وزخرف اللفظ. فلا الإسلامي قادر على فهم اللحظة التاريخية وهو الذي نجح في تجميع كل شروط الانقلاب حوله ولا اليساري يُدرك أن عداء الإسلاميين ليس مشروعا لبناء دولة ولا القومي قادر على أن يبرأ من مرض الزعيم وإدمان الانقلابات والرقص في حفلات الدم ولا اللبرالي مؤهّل لاستبطان شروط الحرية بما هي مكسب أفقي وليست انتقاء طبقيا.
 
تعود تونس إلى نقطة البدء لتواجه أكبر تحدياتها وهو المتمثّل في نحت جيل فكري وسياسي جديد قادر على تجاوز أطروحات نُخبٍ غير قابلة للإصلاح أو الترميم وصياغة منوال ثقافي وفكري يكون وليد سياقه التاريخي ولحظته الحاسمة وهي الثورة أولا والثورة أخيرا.