قضايا وآراء

كورونا والسياسة في تونس: وجهان لبؤس واحد

1300x600
في الوقت الذي تسجل فيه تونس أرقاما قياسية جديدة من حيث عدد الإصابات بفيروس كورونا (تجاوز عدد الإصابات يوم الأربعاء 5921 حالة، ليبلغ العدد الإجمالي 400103 حالات، وعدد الوفيات 14959)، يبدو أن النخبة التونسية -خاصة النخب الحاكمة - غير معنية بهذا الوضع الوبائي، أو على الأقل لا تعتبره أولوية قصوى ضمن صراعاتها/ رهاناتها الحالية. فقد أثبتت إجراءات الحكومة وديبلوماسية الأزمات أننا أمام سياسات فاشلة لم تزد الوضعين الصحي والاقتصادي إلا تأزما.

ورغم ما في كلامه من سخرية سوداء، فإن الإعلامي معز بن غربية كان يتحدث باسم شريحة واسعة من التونسيين عندما دعا "المهربين" (بارونات الاقتصاد الموازي أو غير الرسمي) في إحدى تدويناته الفيسبوكية إلى التدخل للقيام بما عجزت عنه مؤسسات الدولة والمهيمنين على الاقتصاد الرسمي: من جهة أولى إنقاذ حياة التونسيين من كورونا بتوفير التجهيزات الضرورية بأسعار معقولة تحررهم من "عجز" المؤسسات الاستشفائية العمومية ومن جشع المستشفيات الخاصة، ومن جهة ثانية تحسين المقدرة الشرائية للمواطنين بعد الرفع في أسعار الكثير من المواد الاستهلاكية لتغطية عجز الميزانية، أو بالأحرى للتغطية على الخيارات اللا وطنية واللا شعبية التي حددت مواردها ومصارفها، والتي هي في جوهرها مجرد إعادة إنتاج للتوجهات الكبرى للمنظومة القديمة.

سلطة حاكمة.. ولا تحكم

منذ تفشي وباء كورونا، أثبتت النخب التونسية أنها أبعد ما تكون عن تحديات اللحظة ورهاناتها. فمن جهة النخب الحاكمة، يبدو أن الاستثمار في الأزمة قد أصبح هو الخيار الأساسي لرئيس الجمهورية ولخصومه في رئاسة الحكومة ومجلس النواب على حد سواء.

فنحن أمام حكومة يشرف وزير صحتها على إدارة الأزمة وهو في حكم المُقال مع تأجيل التنفيذ - بحكم رفض رئيس الدولة الإشراف على موكب أداء اليمين للوزراء المقترحين بعد مصادقة البرلمان عليهم - حكومة لا يوجد بين وزرائها أو بين حزامها الحزبي أي تضامن أو تنسيق يساعد على الإدارة العقلانية والفعّالة لملف كورونا أو لغيره من الملفات الاقتصادية والاجتماعية.

أما رئيس الجمهورية، فإنه فضلا عن فشله في ملف الديبلوماسية الاقتصادية -وهو فشل متوقع بحكم محافظته على الميراث البشري للمنظومة القديمة في السلك الديبلوماسي وما يعنيه ذلك من غياب الكفاءة وغلبة المعايير غير المهنية - فهو لم يتجاوز مستوى الطعن في أداء الحكومة إلى مستوى البحث عن الحلول؛ إما بتقديم مبادرات تشريعية أو باعتماد ديبلوماسية الأزمة لإنقاذ تونس من سيناريو "الدولة الفاشلة" الذي يتهددها بصورة جدية.

فالرئيس لا يبدو مشغولا إلا بالدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية - وما يسندها من الأحزاب - إلى حدها الأقصى تمهيدا لمشروعه السياسي القائم على الديمقراطية المجالسية والنظام الرئاسي، وذلك لإعادة هندسة الحقل السياسي بعيدا عن توسط الأحزاب ومركزية السلطة البرلمانية.

ولا يبدو الحزام الحزبي للحكومة مشغولا إلا بالدفاع عن مصالح مراكز النفوذ في الداخل وتحسين شروط التفاوض مع الجهات المانحة/ الناهبة لمنع انهيار المنظومة الحاكمة التي لم يتجاوز دورها - منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا إلى الآن - مستوى إدارة التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما فكريا وموضوعيا، وهو واقع تشهد عليه كل الإحصائيات والبيانات الكمية والنوعية.

المعارضة اللا وظيفية.. هل هي أفضل ممن تعارضهم؟

أما من جهة النخب المعارضة، فلا يبدو أنها تمثل بديلا موثوقا للنخب الحاكمة. ورغم عدم تجانس هذه النخب فإنها تمتلك العديد من القواسم المشتركة التي تجعلها أقرب إلى الكيانات "اللا وظيفية" من جهة ما تتطلبه الأوضاع الحالية في تونس. وإذا ما استثنينا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ما زال يُعبّر إلى هذه اللحظة عن وضعية ملتبسة (فهو من ناحية شريك اجتماعي أساسي للسلطة الحاكمة ولكنه يضع نفسه دائما خارج معادلات فشلها، وهو من ناحية أخرى حليف المعارضة القريبة من المنظومة القديمة واليسار الثقافي ولكنه يدعي أنه منظمة وطنية على مسافة واحدة من مختلف الفرقاء)، فإن النخب السياسية المعارضة تبدو عاجزة عن التحوّل إلى قوة اقتراح، أو حتى قوة تعديل للتوجهات الكارثية للمنظومة الحاكمة بعد الثورة.

فالكتلة الديمقراطية - التي ارتضت بدور الحزام البرلماني للرئيس - لم يتجاوز دورها مستوى تخفيف الضغط على رئيس الدولة، واحتلال دور اليسار الثقافي الذي يختزل المنظومة في حركة النهضة وحلفائها ويعجز عن بناء مقاربة الواقع وإصلاحه؛ بعيدا عن منطق الاستئصال الصلب أو الاستئصال الناعم.

ورغم أننا لا ننكر أن حركة النهضة - منذ قرارها الاستراتيجي بدخول الدولة وفق شروط المنظومة القديمة وإملاءات القوى الخارجية التي تكفلها - هي "وتد" من أوتاد المنظومة الحاكمة، فإن اختزال تلك المنظومة في حركة النهضة هو تعبير عن مضمرات أيديولوجية لا علاقة لها بالواقع وبحقيقة القوى التي تحركه من وراء حجاب الأحزاب.

أما المعارضة "التجمعية الجديدة" - بقيادة عبير موسي وإسناد من بعض مراكز القوى في المنظومة القديمة، وبدعم صريح من المحور الفرنسي الإماراتي السعودي - فإنها غير مشغولة إلا بترذيل المشهد السياسي واستهداف حركة النهضة وحلفائها، دون قدرة على تقديم بدائل تتجاوز مستوى التغني بالنظام القديم ومحاولة إعادة تشغيل مقارباته الأمنية في إدارة الملف السياسي؛ تمهيدا للعودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011 أو حتى إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.

هل يمكن إصلاح المنظومة من داخلها؟

لقد أثبتت جائحة كورونا أن التعويل على النخب التونسية الحالية لبناء مشروع وطني حقيقي هو ضرب من أحلام اليقظة. فلا رائحة الموت القادمة من الجهات الأربع، ولا الأزمة الاقتصادية التي تكاد تقضي على مفهوم الطبقة الوسطى وعلى أي إمكانية للحراك الاجتماعي إلا إلى الأسفل، ولا تضخم المديونية الداخلية والخارجية التي تكاد تصل بالدولة إلى حافة الإفلاس؛ كانت قادرة على حمل تلك النخب على "تعليق" خلافاتها والتفكير بمنطق المصلحة الوطنية العليا. وهو ما يطرح سؤالا مركزيا يتعلق بإمكانية الإصلاح من داخل المنظومة الحالية أو حتى بالتعويل على "أشباه البدائل" التي يقدّمها البعض في صورة التجاوز الجدلي لأقفال الدستور وفساد الأحزاب، وهي في الحقيقة مجرد تنويعة من تنويعات عقلها السياسي المأزوم بنيويا (منذ تشكل ما يُسمى بالدولة- الأمة واعتماد سياسات التحديث القسري المتساوق مع الاقتصاد الريعي والبنية الجهوية-الزبونية للنظام) وتأسيسيا (منذ أشغال المجلس التأسيسي وما انبثق عنه من توافقات هشة قابلة للانهيار في كل أزمة دورية لمنظومة الحكم).

twitter.com/adel_arabi21