قضايا وآراء

نصرٌ في لوحة هزائم عربية

1300x600
الخلاصات كثيرة، والاستنتاجات أكثر حول مواجهة الشعب الفلسطيني العدوان الصهيوني على القدس وغزة ومدن الداخل الفلسطيني المحتلة عام 48.. ستكون المرحلة القادمة مزدحمة بنقاش لم يغب منذ سنوات طويلة عن الساحة الفلسطينية والعربية، لفرض رؤية كانت تتسم باليأس الشامل عنوانها: "ما هو جدوى مقاومة غزة" وما جدوى التصدي لقوة الاحتلال الباطشة على الكل الفلسطيني؟

إشارات استفهام حاول تيار أوسلو الفلسطيني فرضها على العقل الفلسطيني منذ أكثر من ربع قرن، ومحاولة إحياء ما سمي بعملية السلام التي رسمت إسرائيل تفاصيلها وفق مقاسها وشروطها، ومكنتها بدعم من الإدارات الأمريكية من تحقيق اختراقات خطيرة على المسار الفلسطيني والعربي؛ الذي كُلل بالتطبيع وبإشاعة أجواء انهزامية تُقر "بتراجع" مكانة القضية الفلسطينية من الأجندة الرسمية العربية، على قاعدة تعميم الهزيمة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن بسحق المجتمعات العربية بالثورات المضادة.

المؤسسة الصهيونية، ومن خلفها الولايات المتحدة وبعض النظام العربي، مصدومون من صمود الفلسطينيين فوق أرضهم، ومن تفنيد أكاذيب صهيونية وعربية حول تخليهم عن أرضهم ومقاومتهم، ومن مآل معركتهم في القدس وبقية فلسطين، ومن حالة التلاحم الجماهيري بين الكل الفلسطيني، لذلك أصبح عنوان المرحلة القادمة إعادة احتواء مقاومة الشعب الفلسطيني، والجهود الدبلوماسية المهرولة نحو المنطقة، لها عنوان متصل بثبيت "التهدئة" وتفريغ مضمون النضال والكفاح ضد المحتل.

بعدما مثلت الهبة الفلسطينية في كل فلسطين علامة مضيئة في هذا الزمن العالمي والعربي الرديء، تتضح مجدداً عدالة القضية وقوة الحق ومنطق التاريخ، بأن حالة الاشتباك مع المؤسسة الصهيونية والتصدي لسياساتها العنصرية القمعية الإجلائية في مدن الداخل الفلسطيني، ومواجهة الوحشية الصهيونية التدميرية على غزة، أعادت فلسطين إلى العالم بقوة الحق والعدالة. والعودة المضيئة لفلسطين في شوارع ومدن العالم كانت بفضل الصمود الفلسطيني بوجه السياسات الاستعمارية الصهيونية.

لذلك، برهنت مسيرة المواجهة الأخيرة مع الاحتلال وتطوراتها الميدانية المستمرة داخل الخط الأخضر على أن السعي الصهيوني للتحول نحو تسويق التطبيع و"الأسرلة" لهزيمة الشارع العربي وهزيمة سكان فلسطين الأصليين قد فشلت بشكل مريع، وأن مفهوم التكيف مع سياسة العدوان المستمر والاستيطان والتهويد ومحاولات طمس الهوية والحصار وتقسيم المجتمع الفلسطيني، عبر الدخول بمساومات فردية جانبية، لم تنجح طيلة العقود الماضية. وما يتأسس على هذه الخلاصة، من استثمار الثقل والوزن والمكانة التي تمثلها قضية فلسطين كعنوان للعدالة والتحرر، ينبع من المواجهة مع آخر مشروع استعماري على وجه الأرض في فلسطين.

صحيح أن الصراع لم يحسم، لا في غزة ولا في القدس وبقية الأرض الفلسطينية، فالمواجهة باقية ومستمرة بعقبات ليست سهلة أو بسيطة مع العدوان المتواصل، لكن لوحة التوازنات اختلت، وما حاولت فرضه المؤسسة الصهيونية من خلال ترديد صدى الهزيمة على مسامع المتصهينين العرب، وتسويق الرواية أمريكيا وغربياً، استحالت ترجمته على أرض الواقع.

يضاف إلى ذلك، رؤية عمق وحجم الحراك والمواجهة التي يشهدها المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والجليل والمثلث والنقب، وتلمس آفاقه كإنجاز يمكن البناء عليه. وإعادة البناء يجب أن تكون وثيقة الصلة بالقدرة على استعادة كسب شرعية الشارع الفلسطيني، وهذا غير ممكن إذا لم يرتبط بفاعلية نضالية، وهي قائمة بالفعل، وناسفة لأوهام الماضي التي كنسها الشارع الفلسطيني بمقاومته. بمعنى أن التجربة السياسية الفلسطينية السابقة، والتجربة الحالية للسلطة الفلسطينية وتمسكها بمبدأ "المفاوضات" والتنسيق الأمني، لم تكن بأي حال من الأحوال تعبيراً عن يأس الشعب الفلسطيني، بقدر ما كانت عنواناً صارخا ليأس السلطة من مقاومة المشروع الصهيوني.

من هنا فإن الحديث مجدداً عن رؤية حل الدولتين، والاستعداد للعودة المفاوضات، يعيدنا للاستثمار المكلف للانتفاضة الأولى 1987، وكيف قاد الاستثمار السيئ لها لكوارث كبرى في اتفاقية أوسلو 1993. التصرف القائم للسلطة الفلسطينية مع المقاومة الفلسطينية، بكل أشكالها، ومع نضال الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر، يأتي امتدادا لسلبيات المرحلة السابقة، ودون أي قطع معها من جوانب عديدة لا تتوقف عند النهج السياسي والتنسيق الأمني والتضييق على الحريات. الإدارة السيئة لمجمل النضال الفلسطيني وقضيته العادلة، تضع مزيدا من الأعباء على كاهل الشعب الفلسطيني.

الفرصة تاريخية بامتياز، في عنوان وشكل المواجهة القائمة، والاستغلال الجيد والفاعل للاستثمار بقوة الحق الفلسطيني، مسنودا بنضال الشارع الفلسطيني والعربي، وبالإعادة المضيئة لفلسطين في عواصم ومدن القارات الخمس. وهذا كان بفضل حالة الاشتباك مع المشروع الصهيوني وفضح أكاذيبه. فمواصلة النضال لدحر الاحتلال وتفكيك منظومته العنصرية، والتركيز على رفض كل مشاريع التسوية البعيدة عن حقوق الشعب الفلسطيني التي أقرتها الشرعية الدولية، والعمل على تعميق وتطبيق مبدأ الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني بكل أبعاده ومؤسساته، مع الإبقاء على تعبئة مستمرة للشارع الفلسطيني للدفاع عن حقوقه التاريخية، هي التي ستمكن أصحاب الأرض والتاريخ والهوية والتراث، من هزيمة نظام الفصل العنصري في إسرائيل.

أما التعبئة المستمرة ضد نضال الفلسطينيين ومقاومتهم، والغرق في نقاش المردود منها، فكان كلفته أعلى، على صعيد الاستنقاع الفلسطيني الرسمي في أوهام أوسلو، واتساع رقعة العدوان وتبديد أوهام السلام المزعوم، أو في الاستنقاع العربي بالتصهين والاستبداد، وشيطنة الفلسطيني ومقاومته، كمبرر لعجز سياسة وجيوش العرب، و"شجاعتها" بحرق شوارع ومدن عربية.

صحيح أنها المرة الأولى التي وصلت فيها صواريخ فلسطينية لمدن فلسطين التاريخية، وصحيح أن ترسانة السلاح العربي المختلط صدأها بدماء عربية ستبقى عنواناً عاجزاً؛ ليس في فهم "جدوى مقاومة الفلسطينيين" بل في فهم جرأة الإقدام على المواجهة المستمرة لحماية كرامة العربي السعيد في مشهدٍ يُطلق عليه نصرٌ في مشهد هزائم عربية كثيرة؛ لن يكون أولها الابتهاج بإحكام الاستبداد وسيطرته، ولا آخرها الاحتفاء بذكرى "الهولوكوست" في مدينة عربية تتصهين بسياسة راكعة تطالب مباركة التلمود لهزيمتها.

twitter.com/nizar_sahli