قضايا وآراء

مستقبل الإسلام السياسي بلمنطقة العربية: بين الاتجاه الفردي والاتجاه الأعظم

1300x600
في دراسة أعدها الدكتور وليد عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك، لصالح عمادة البحث العلمي والدراسات العليا في جامعة القدس المفتوحة- مركز الدراسات المستقبلية وقياس الرأي في عام 2015، حول مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة العربية، يفرّق في ما بين الظاهرة الدينية في شكلها الوجداني الغيبي المجرد، وما بين الظاهرة الدينية المجسدة في سلوك سياسي واقعي يمكن قياسه وهو ما تركز عليه دراسته.

(1) تراجع التدين السياسي

تشير الدراسة إلى أن الحركات الدينية التي كانت تفسر كل الظواهر في التاريخ القديم تراجعت مع صعود الفلسفة والثقافة اليونانية، إلا أن الحركات الدينية عادت في العصور الوسطى وأسست إمبراطوريات مسيحية وإسلامية وبوذية، إلا أن الإمبراطوريات الدينية عادت وتراجعت لعدة أسباب:

- ظهور الحركات والاكتشافات العلمية مثل كروية الأرض ودورانها حول الشمس... الخ، والنظريات الفلسفية، تلك الاكتشافات والنظريات أتت على تفسيرات الكنيسة وهشمتها فتراجع الحضور الديني السياسي.

- تنامي ظاهرة العنف الديني، حيث إن الحركات الدينية أنتجت ثلاثة أنماط من العنف الديني؛ أولها عنف تجاه الأديان بعضها ضد بعض (مسيحية ضد الإسلام، وإسلامية ضد اليهودية، وبوذية ضد الإسلام، والعكس)، وثانيها عنف داخل الأديان والحروب بين الطوائف من ذات الدين، وثالثها تجمع الأديان كلها في حرب مفتوحة ضد التيارات العلمانية من الملحدين واللا أدريين... الخ.

أشارت الدراسة إلى تراجع دور الدين كباعث على الحرب بعد أن كانت البواعث الدينية هي مركز الحروب وأساسها لنشر الدين والعقيدة والدعوة الدينية، لكن هذا النمط من الحروب قد تراجع، إذ إن الاتجاه التاريخي للحروب من بين 1763 حربا دونت على مدار التاريخ 3500 ق. م، يشير إلى 123 حربا دينية، بنسبة تمثل 7 في المئة فقط من إجمالي الحروب.

أشارت الدراسة إلى تراجع دور الدين في التبادل التجاري، إذ أن حجم التبادل التجاري على سبيل المثال بين 57 دولة في منظمة المؤتمر الإسلامي بلغ حتى 2009 تقريبا 16.7 في المئة، وأن حوالي 80 في المئة من التبادل التجاري للدول الإسلامية تم مع غير المسلمين.

كما تشير الدراسة إلى تراجع دور الدين في تشكيل النظم السياسي، إذ أنه لا يوجد في العالم الا عدد محدد من الدول الثيوقراطية المحكومة من رجال الدين كالفاتيكان وإيران.

لكن في المقابل، تشير الدراسة إلى أن هناك نموا لظاهرة التدين السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي، وظهرت ذلك في نمو الأحزاب الإسلامية وتمددها في المنطقة العربية، ونمو الأحزاب اليهودية المتدينة في الكيان الاسرائيلي، وظهور المحافظين المتدينين في الولايات المتحدة ووصولهم للسلطة في عهد بوش، وتنامي دور حزب بهاراتيا الهندوسي في الهند حتى وصوله للسلطة، وتنامي الثقافة الكنفوشية في الصين، وتنامي المسيحية في أغلب المجتمعات الأوروبية وأفريقيا وروسيا وبعض دول آسيا.

وتشير الدراسة إلى أن صعود حالة التدين السياسي في بداية السبعينيات يعود لردة فعل الشعوب على العولمة المتوحشة، كما يصفها الكاتب، إذ أن العولمة جعلت الشعوب تبحث عن هويتها وتمايزها، وهو ما استفادت منه الحركات الدينية السياسية لإعادة الصعود، رغم أن كل المؤشرات تشير لتراجع التدين السياسي في كل الصعد، وأن المؤشر العام يشير لتراجع حركات التدين السياسي. إذ لا يمكن الحكم على حالة صعود التدين السياسي لمدة نصف قرن، ما دام الاتجاه العام والطويل يشير إلى تراجع ظاهرة التدين السياسي.

(2) صعود الإسلام السياسي ومؤشرات التراجع

أشارت الدراسة إلى أن ظاهرة صعود الإسلام السياسي في فترة السبعينيات، والذي جاء على معظم مظاهر الحياة العامة وظهور ما يعرف بالزي الشرعي، والكتاب الديني، والبنوك الإسلامية، والأحزاب الإسلامية، والمدارس والجامعات الإسلامية... الخ؛ جاءت نتيجة مجموعة من الأسباب أهمها أسباب اقتصادية مثل الفقر والبطالة، وأسباب اجتماعية كردة فعل على حملات التغريب، وأسباب سياسية نتيجة للاستبداد السياسي والقهر والاحتلال الإسرائيلي وفشل الأنظمة الاشتراكية في المنطقة.. كل تلك العوامل أدت إلى صعود الإسلام السياسي.

لكن الدراسة إشارات إلى أن صعود الإسلام السياسي بدأ يتأثر ويتراجع لعدة أسباب أهمها:

1- الانقسام المذهبي ونزعات التشرذم والتطرف. ويشير الكاتب إلى أنه في عام 1979حدثت مجموعة من الأحداث أدت إلى التأثير على صعود الإسلام السياسي وبداية تشرذمه وتراجعه، وهذه الأحداث هي:

- قيام الثورة الإيرانية والتي شكل نجاحها بداية لوجود النزاع الطائفي والمذهبي في المنطقة.

-معاهدة كامب ديفيد والتي أدت إلى ظهور التيارات الجهادية والجماعات التكفيرية.

-اجتياح السوفييت أفغانستان وبروز ظاهرة المجاهدين العرب، والتي أدت لحالة من الارتباك بين مساندة أمريكا الداعم الأكبر لإسرائيل ومناصرة المجاهدين.

- كما أن الربيع العربي أدى إلى مزيد من التشرذم والارتباك في جسد التنظيمات الإسلامية، إذ ارتفع عدد التنظيمات الإسلامية قبل عام 2010 من 73 إلى 81 تنظيما، ليرتفع بعد الربيع العربي العدد نتيجة الانقسامات من 99 إلى 104 تنظيما، مع الإشارة إلى أن سوريا وحدها كان فيها 23 تنظيما إسلاميا.

2- وجود المؤسسات العسكرية في الحياة السياسية. أشارت الدراسة إلى أن المؤسسات العسكرية في العالم العربي تؤثر بشكل كبير في المشهد السياسي، ولما كانت هذه المؤسسات تعادي الإسلام السياسي في أغلبها، فهذا يعني أن الإسلام السياسي سوف يواجه عقبات كبيرة في المنطقة نتيجة هذا الاختلاف والتنافر مع المؤسسة العسكرية، وبالتالي سوف يؤثر ذلك على إضعاف الإسلام السياسي.

وفيما يلي مؤشرات نفوذ المؤسسات العسكرية في المنطقة العربية:

- تولي السلطة بالقوة أو القسر، إذ شهدت المنطقة العربية 49 انقلابا عسكريا ناجحا منذ 1949 حتى 2011، وعشر محاولات انقلابية عسكرية فاشلة.

- الإنفاق العسكري الكبير، إذ تعتبر المنطقة العربية الأعلى إنفاقا في المجال العسكري مقارنة مع الدخل القومي لتلك البلدان. فقد بلغ الإنفاق العسكري العربي 4 في المئة من الدخل القومي العربي، وهي النسبة الأعلى عالميا.

- ارتفاع نسبة الفساد إلى مرحلة ما فوق المتوسط في المؤسسات العسكرية العربية.

- ارتفاع نسبة مؤشرات العسكرة في الدول العربية، وذلك بمقارنة الإنفاق العسكري بما يتم إنفاقه على الصحة والتعليم وعدد أفراد القوات المسلحة بالنسبة لعدد السكان.

3-رفض الأنظمة العربية للإسلام السياسي. ترفض معظم الأنظمة العربية الإسلام السياسي، وإن كانت تعامله بأشكال مختلفة من العداء، إلا أن بعض هذه الأنظمة تضع جماعة الإخوان، رائدة الإسلام السياسي، على قوائم الإرهاب، في حين تضع كل الأنظمة العربية الجماعات الجهادية على قوائم الإرهاب، وكذلك التنظيمات الشيعية السياسية والعسكرية في المنطقة.

4- التخلف العميق في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعربية، وانعكاسه على قدرة الإسلام السياسي على التطوير الذاتي، إذ ذكرت الدراسة عدة مؤشرات على هذا التخلف، مما خلق وضعا عربيا معقدا، هذا التعقيد يدفع حركات الإسلام السياسي إلى الإحجام عن المشاركة في تولي السلطة، في ظل هذا الفشل والتعقيدات المركبة في البيئة العربية وخصوصا بعد التجربة الإخوان في مصر.

5- رفض القوى الدولية الكبرى لحركات الإسلام السياسي، إذ تقف الولايات المتحدة موقف معادي لمعظم الحركات الإسلامية، وكذلك الأمر بخصوص الدولة الروسية وخصوصا بعدما حصل معها في أفغانستان والشيشان، وكذلك الأمر في الصين التي تنظر بعين القلق لمحاولات الانفصال الديني في المقاطعات الغربية، والتي تمارس بعض فصائل الإسلام السياسي هناك العنف ضد السلطات الصينية، فيما يبدي الاتحاد الأوروبي قلقا من تصاعد الإسلام السياسي وإمكانية تنامي الحركات الفاشية الغربية كردة فعل على صعود الإسلام السياسي في أوروبا وتزايد نشاطه.

كما أشارت الدراسة إلى نقاط ثلاث مساندة للإسلام السياسي في المنطقة العربية وأهمها:

1- الوجدان الديني في العالم العربي، إذ لا تزال الشعوب العربية ترى إن الدين أمر مهم في حياتها بنسبة 80 في المئة.

2- فشل التيارات العلمانية في المنطقة العربية بجميع توجهاتها في تقديم نموذج عربي ناجح وجاذب، إضافة إلى غياب الشخصيات الكاريزما الحديثة والذي يجعل الشعوب تبحث عن الشخصيات القديمة من التاريخ الإسلامي.

3- التأثير النفسي الكبير الذي تركته التنظيمات الإسلامية في مقارعة العدو الإسرائيلي، مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في 2006

وخلصت الدراسة إلى أن المؤشرات التي تدفع نحو تراجع التنظيمات الإسلامية ستزداد بمعدل 126 نقطة لصالح 26 نقطة تصب في صالح هذه التنظيمات.
وستكون الحركات الإسلامية في أضعف لحظاتها في الفترة ما بين 2020 و2022.

(3) هل تحققت توقعات الدراسة على أرض الواقع؟

يمكن الجزم بأن نتائج الدراسة تتحقق على أرض الواقع من خلال رصد نتائج الانتخابات البرلمانية في المنطقة العربية:

- في الأردن فقدت الحركة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين) 50 في المئة من كتلتها التصويتية في 2020، إذ حصدت 85 ألف صوت في حين كانت حصدت في 2016 أكثر من 160 ألف صوت.

- في المغرب والذي يقود فيه حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحكومي للدورة الثانية على التوالي، خسر في مطلع هذا العام 2021 انتخابات جزئية في منطقية الرشيدية جنوب شرق المغرب، إذ حصل على الترتيب الثالث ليخسر 65% من كتلته التصويتية خلال أربع سنوات، ليحصد 9201 صوت مقابل 26252 في 2016، وهذا قد يدلل إلى انحسار كبير لشعبيته في الانتخابات القادمة ويهدد عودته إلى رئاسة الحكومة للمرة الثالثة.

- في تونس حصدت حركة النهضة في الانتخابات الأخيرة (2019)؛ 52 مقعدا من أصل 217 مقعدا، فيما كانت قد حصدت في الانتخابات السابقة (2014) 69 مقعدا، بتراجع بلغ 25 في المئة من عدد المقاعد.

- حصدت حركة حدس الحركة الإسلامية في الكويت 2020 على ثلاث مقاعد من أصل 50 مقعدا، فيما حصلت في عام 2016 على أربعة مقاعد، بنسبة خسارة بلغت 25 في المئة، فيما عجزت الحركة السلفية للمرة الثانية على التوالي في العودة إلى مجلس الأمة الكويتي.

الأيديولوجيا لا تسقط بالضربة القاضية ولا تسقط بطريقة السقوط الحر المباشر، وإنما تتراجع على طريقة انزلاق المتدرج، مما يؤشر إلى أن خلاصات الدراسة لا زالت قريبة لما يحصل على الأرض في المنطقة العربية بخصوص مستقبل الإسلام السياسي.

السؤال الأهم هو ما بعد الإسلام السياسي، إذ أن ضعف الإسلام السياسي وانحساره لا يعني أن الأنظمة المستبدة أصبحت في حماية وحصانة من التغيير وأن عمرها سيكون أطول، فما دامت بواعث الإصلاح موجودة فإن التغيير والتحول السياسي أمر لا بد منه، وهو مسألة وقت فقط.

إن بوادر ظهور علامات انحسار الإسلام السياسي يعني ظهور قوى أخرى تتولد وتتناسل أو ترث قيادة الشارع وتدير دفة نضال الشعوب، وذلك بأشكال وتنظيمات وفلسفات مختلفة، وهذا ما سوف نناقشه في المقال اللاحق.