كتب

الحوار الإسلامي-المسيحي أثقال الماضي وإشكاليات الراهن

الحوار بين الأديان للتخلص من عبء التاريخ وأثقال الماضي جرّاء الحروب الصليبية- (عربي21)

الكتاب: "الحوار الإسلامي-المسيحي وإشكالية التواصل بين الجماعات الدينية"
الكاتب: علي بن مبارك
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2020
عدد الصفحات: 246 صفحة

1 ـ الحوار بين الأديان للتخلص من عبء التاريخ وأثقال الماضي جرّاء الحروب الصليبية 

أججت خطبة البابا أوربان في القرن الحادي عشر مشاعر المسيحيين وحمّستهم للحروب الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمن وأسست لممالك مسيحية على ضفاف شرق المتوسط. ولكن لا تزال ندوبها مرسومة في الذّاكرة الإسلامية إلى اليوم. فغدت نموذجا أقصى للحروب "المقدسة" التي تخاض باسم الدين لتحقيق غايات سياسية أو مادية. فقد كانت أوروبا وقتها تريد "تدوير" احتياطي محاربيها الزائد عن الحاجة ليدرّ عليها المال وليجلب إليها الثروات. 

ومن ثمّة بنى أوربان استراتيجيته بناءً ثلاثيا. فجعل الآخر ـ المسلم كافرا يفسد في الأرض ويغتصب المقدسات فيستأثر بنعم الله التي أنعم بها على المسيحيين. وجعل المسيحي المؤمن صاحب الحق السليب وبالغ في وصف هذا "الحق". فـ"كنوز الشرق" تستحق المغامرة والتضحية. فغرس في المسيحي صورة نمطية عن المسلم المخادع والهمجي والشهواني، لا تزال أصداؤها ترنّ في مخياله إلى اليوم. ولا شك أن لهذا الآخر ـ المسيحي، بدوره، ندوبا نفسية متولدة عن الصدامات الكثيرة التي جدّت على مدار القرون الخوالي. 

والمتأمل في الشأن الديني اليوم يقف على مفارقة جوهرية، فبقدر ما تحث الأديان،  التوحيدية خاصة، على التسامح والتحابب والسلم، يمثل الصدام بينها أكبر مصدر للتوتر بين الجماعات أو الدول. وغالبا ما يكون هذا الصدام مفتعلا تصطنعه منظمات أو دول ذريعة لتحقيق غايات أخرى، اقتصادية أو سياسية في الغالب. فتعول على ذلك الموروث الثقيل وتحفر في الذاكرة وتغرس المشرط في الندوب القديمة لتأجج الحروب أو تعصف بالاستقرار. 

ولكن بقدر ما يحرّك الجنون المستثمرين في الحروب يدفع العقل العقلاء إلى تجاوز هذا العداء وإلى ردم الهوة بين الأديان أو تدفعهم المصالح المشتركة إلى ذلك. فالعالم اليوم أضحى قرية صغيرة  تتشابك علاقتها وتتداخل مصالحها فتقتضي سلما اجتماعية. ولا بدّ لهذا المتأمل متى تجرّد من كل خلفية وأزاح من على كتفيه عبء التاريخ وأثقال الماضي أن يستغرب لهذا العداء والصدام، فلهذه الأديان هدف واحد هو ملء الكون عدلا وتسامحا وسموا روحيا وإعلاء للمعبود الواحد الذي هو الله. فكيف ترتكب أبشع الحروب بين عُبّاده باسمه؟

يطرح كتاب الحوار الإسلامي ـ المسيحي وإشكالية التواصل بين الجماعات الدينية للباحث على بن مبارك هذه القضية. فيدرس الحوار بين الإسلام والمسيحية. 

فبين معتنقيهما أكثر من تقاطع على مستوى الأفراد والجماعات في أسيا وإفريقيا وأوروبا وبين الدول مصالح مشتركة. والعيش معا يقتضي قبول الآخر والتواصل معه واحترام حقه في الاختلاف ونبذ كل أشكال التعصب والاستعلاء أما فرض التماثل وإقصاء فمولّد للصراع والعنف والكراهية.

2 ـ الحوار بين الأديان ذلك المفهوم الواضح حدّ الغموض

لقد وطن الإعلام آذاننا على الاستماع إلى عبارة "الحوار بين الأديان" مما جعل العبارة من المألوف غير المفكّر فيه. ولكن حالما نتدبّر المسألة نكتشف، مع الباحث، إشكاليات عديدة لم نكن ننتبه إليها، يتعلق أولها بدلالة هذا الحوار نفسه، فهل يقتصر على عرض الآراء أم هو تبادل للتجارب والأفكار والمواقف أم يتعدى الاستماع ليؤثر في السلوك تجاه الآخر، فتكون له وظيفة نفعية تتجسّد في الواقع؟ ولا شكّ أن الماضي شهد كثيرا من المناظرات والجدل بين المسلمين والمسيحيين. فهل ارتقى هذا التواصل إلى ما نقصده اليوم بالحوار بين الأديان؟ 

ويتعلّق ثاني الإشكاليات بالزوج [المسيحي ـ الإسلامي] فالمزاج العام يميل إلى الاطمئنان في استعمال المصطلحين في هذا السياق وكأن التصنيف إسلامي أو مسيحي يشير إلى كتلتين تتمتع كل منهما بالانسجام التام والتناغم. ولكن حالما نتدبر الأمر تعترضنا مطبات ومصاعب. فقد اختلفت المذاهب الإسلامية في الرؤى وتفرّعت إلى سنة وشيعة وإباضية ودروز وتفرّع السنة الذين يعرّفون أنفسهم بمتبعي سنة رسول الله السائرين على منهجه، إلى مذاهب متباينة، نقتصر على ذكر أكبرها كالمذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي.

وتفرّع الشيعة الذين يعلنون اتباعهم لسنة الرسول وآله المأخوذة من عترته الطاهرة حصرا، ويعتقدون بحق علي بن أبي طالب في قيادة الأمة الإسلامية وزعامتها بعد وفاة الرسول وبحق أبنائه المعصومين من بعده. ومن أشهر مذاهبهم الإمامية والزيدية والإسماعلية. 

وبين هذه المذاهب والفرق اختلافات جوهرية في فهم الشريعة والفقه وأصوله وفي تصورهم للخلافة والعصمة. وعليه، يتساءل الباحث: كيف سينخرط المسلمون في هذا الحوار وهم منقسمون حول التصورات والأهداف والآليات ولم يحسموا أمر الحوار بينهم؟ 

وينقسم المسيحيون بدورهم إلى طوائف عديدة. وشهدت كل طائفة انشقاقات بدورها وتحولت إلى طوائف فرعية. منها خاصّة الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا أسقف روما وبحسب تقليدها الكنسي خليفةً لبطرس تلميذ يسوع المسيح. ومنها الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية المنشقة عنها في القرن الحادي عشر، ومنها الكنيسة الأرثوذكسية المشرقية التي لا تعترف إلا بشرعية المجامع المسكونية الثلاث الأولى. ومنها الكنائس البروتستانتية التي تعتقد أنّ الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هديّة مجانيّة ونعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا، وبالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح. فلا تعترف بالمهام التي تناط للبابا ولا تمنحه القول الفصل فيما يتعلق بتفسير الكتاب المقدّس معتبرة أن لكل امرئ الحق في التفسير. ولعلّ هذا التشرذم أن يمثل أول مراتب صعوبة الحوار بين الديانتين.

3 ـ دلالة الحوار في الكتب المقدسة

يعمل الباحث على رصد المفارقة بين ما تنصّ عليه الشرائع وما يتحقّق في الواقع. فيعود إلى دلالة الحوار في الكتب المقدسة قبل أن يتدخل العامل البشري، السياسي خاصّة، ليجعل الدين عامل فرقة  وقطيعة. 

ففي النص القرآني تأكيد لحق الاختلاف ومشروعية التعدد. ذلك كان منطوق الآية 13 من سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أو الآية 22 من سورة الروم "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" أو الآية 118 من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" ويخلص بعد قراءته لهذه الآيات ومقارنته بين تأويلات المفسرين إلى شمولية الحوار في الدين الإسلامي، وإلى أنّ المسلم مطالب بمحاورة الآخر دون أن يكون وصيا على الحقيقة أو أن يكون باسم الرّب. فهو هدف ومنطلق وسلوك وشكل من أشكال الوعي بالذات وبالآخرين. 

 

عانى اتحاد الكنائس في الألف الثانية من صدامات دموية تناقض إرادة المسيح. فنشأ الحوار ، بين مختلف طوائفهم في القضايا الخلافية ذات الصلة بتفسير الكتاب أو بالممارسات الدينية أو المواقف من العقيدة. وتم تشجيعه خلال النصف الثاني من القرن العشرين بشكل خاص ووُسّع ليشمل الحوار بين المسيحية واليهودية، إذ تعتبر الكنيسة الحوار مع اليهود جزءًا من الحوار المسيحي.

 



لذلك مثّل الإسلام دعوة إلى الحوار الذاتي من خلال الحثّ على التفكّر والتدبّر ومثّل في الآن نفسه مطلبا إنسانيا لفهم الآخر واحترام اختلافه وعدم حمله على تغيير قناعاته بالقوة. وكثيرا ما حث النص القرآني على التطبع بثقافة الحوار ودعا إلى المجادلة بالتي هي أحسن حيث لا إكراه في الدين وحيث تتم الدعوة بالحكمة والاعتدال كما في الآية 125 من سورة النحل: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". 

وبحث عن جسور للتواصل المرن السلمي مع أهل الكتاب فجاء في الآية 64 من سورة آل عمران "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".. أما في الواقع فقد واجه هذا الانفتاح وصاية الفقهاء والمفسرين والأصوليين أو توظيف الساسة.

ويعرض من المتن المسيحي حوارات الرب مع أنبيائه من خلال الكتاب المقدّس ويلمس منه بعده الإنساني الذي تم طمسه من قبل أوصياء الناموس بعد أن جعلوا النصوص مغلقة. فالمسيح جاء ليواصل سنن القدامى معلنا: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ." (مت 5: 17) ويجد المسيحية في عمقها مشروعا حواريا. فقد كان يسوع المسيح يخرج إلى القوم الذين لا يؤمنون بالرب محاورا إياهم مبشرا بملكوت الرب. وينتهي علي بن مبارك إلى أنّ الحوار من المنظور المسكوني الفاتكاني نتاج لحركة تصحيحية طورت مقولات اللاهوت المسيحي وعدّلت مواقف أصحابه.

4 ـ عقبات على أرض الواقع

ويذكر الباحث أنّ المسيحيين أدركوا حاجتهم إلى حسم اختلافاتهم بعد الصدام العنيف بين طوائفهم. فقد عانى اتحاد الكنائس في الألف الثانية من صدامات دموية تناقض إرادة المسيح. فنشأ الحوار ، بين مختلف طوائفهم في القضايا الخلافية ذات الصلة بتفسير الكتاب أو بالممارسات الدينية أو المواقف من العقيدة. وتم تشجيعه خلال النصف الثاني من القرن العشرين بشكل خاص ووُسّع ليشمل الحوار بين المسيحية واليهودية، إذ تعتبر الكنيسة الحوار مع اليهود جزءًا من الحوار المسيحي. 

ثم أدركت المجتمعات الغربية لاحقا أهمية الحوار مع المسلمين، لأسباب اقتصادية واجتماعية، خاصة بعد قيام دولهم الوطنية المستقلة وبعد أزمة النفط سنة 1973 وعسر اندماج المسلمين المهاجرين في المجتمعات الأوروبية بعد الاستقلال، ثم تأكدت حاجتهم إليه أكثر بعد تحول الإرهاب إلى ظاهرة عالمية تضرب أوروبا قبل أن تضير بالدول العربية.

بيّنٌ إذن أنّ أوّل مراتب إشكاليات الحوار الإسلامي المسيحي تجسيده على أرض الواقع. فلنفترض أننا ضبطنا أهدافه لننطلق فيه فعليا، فستتعلّق عقبتنا الأولى بتحديد أطراف هذا الحوار، فمن له أهلية الكلام باسم الطوائف المسيحية المختلفة أو المذاهب الإسلامية المتعدّدة؟ فهل لهذه الأطراف القدرة على فرض مخرجات الحوار في الواقع؟ وهل يتعلّق الأمر بالأطراف الدينية فحسب؟ 

صحيح أن المسلمين لم يجتمعوا على رأي واحد فكانوا أحوج إلى حوار داخلي. ولكنّ الحوار بين الأديان لدى الطرف المسيحي ظلّ خاضعا لمنظور مجمع الفاتيكان الثاني الذي لم تستطع التخلص من هاجس الأمومة. فالمسيحية عنده وجدت لتحتضن كل البشر. والحوار عندهم لم يبرح ثنائية الحق والضلال. فكان يتنزل في إطار شهادة الإبلاغ عن مضمون الحقيقة وسبل الخلاص. فكان الحوار من هذا المنظور يتقاطع كثيرا مع مفهوم التبشير. 
 
ينتهي الباحث من خلال هذا المدخل الإشكالي إلى جملة من المصادرات من أهمها أنَّ: 

ـ في أصل الأديان انفتاحًا على الحوار والتواصل، ولكن أتباعها عملوا على إغلاقها لأسباب غير دينية. فكثيرا ما يستغل الساسة حماسة المتديّنين واندفاعهم ليجعلوا منهم حطبا لمعاركهم.

ـ الحوارَ ليس واحدا، فهو مختلف باختلاف أطرافه وأهدافه ومستوياته.

ـ هذا الحوار لا يتحقق من خلال اللاهوتي فحسب. فيمكن أن يتحقق من خلال الثقافي والسياسي والفكري. 

ـ الكثيرون يحرصون اليوم الحرص على إعادة فتح هذه الآفاق تفاعلا مع الوضع الراهن. ومهما كانت غايات هؤلاء فلابد من دعم هذا الحرص ولابدّ من إشراك السلط التنفيدية في هذا الحوار لمسؤوليتها في ما ينشا من صدام هنا أو هناك..