قضايا وآراء

لبنان: الغضب الساطع آتٍ

1300x600
بعيدا عن الخطاب السياسي المتدني والمسافر بين قصور الرئاسات وبيوت الأحزاب جاء، زلزال الدولار ليؤكد أن الغضبة الشعبية باتت على شفير حرق الأخضر واليابس، وأن الثورة الاجتماعية التي لطالما تحدثنا عن قدومها باتت أمرا واقعاً يجلس في أحاديث اللبنانيين منذ وقت التمهيد لرفع الدعم القادم، حيث سيحلق البنزين إلى قرابة الثمانين ألفا، وتصبح الأدوية مثل الأحجية في رحلة البحث عنها من صيدلية إلى أخرى ولا مجيب، أما الطامة الكبرى فتتجلى في فاتورة اشتراك المولدات الكهربائية التي تحلق بما يقارب خمسمائة ألف ليرة للعشرة أمبيرات، أي ما يقارب 77 في المئة من قيمة الحد الأدنى للأجور، والتي أصبحت بدورها مؤشر الفضيحة التي تتفاقم يوما بعد يوما، عاكسة معها مؤشرات ستكون عنوان الثورة الاجتماعية القادمة.

مؤشرات قاتلة ودولار بلا سقوف

إن أصدق ما يمكن الحديث عنه هو مشهد من أحد محلات السوبرماركت لمواطنين يتنازعون كيس الحليب من أحد الرفوف أو مواطنين آخرين يتصارعون على غالون مدعوم من الزيت في مشهد مخجل لكل المعنيين، حتى اللحوم أضحت لمن استطاع إليها سبيلا.

أما الأكثر خجلا فهو الحديث عن أن الحد الأدنى للأجور الذي وصل إلى ما يوازي 67 دولارا شهريا، ووضع لبنان على خارطة أرخص أنواع العمالة عالميا وبات على مقربة من أفغانستان وأنغولا، وقريبا مع سعر دولار بلا سقوف قد نصل إلى إثيوبيا، وربما يتربع العامل اللبناني الحزين في أدنى مرتبة عالميا، حيث تستمر لغة الانهيار من قطاع إلى قطاع بفعل الدولار المتفلت والذي بلغ 10 آلاف ليرة للدولار الواحد، ولا زال المؤشر يدلل إلى طريق الارتفاع بفعل عدة عوامل:

أولها الخلل البنيوي في الاقتصاد نتيجة معظم السياسات المالية والاقتصادية، وثانيها يتضح من خلال حاجة الدولة اللبنانية إلى دفع أجور موظفيها، علما أن الدولة لا تقوم بجبي الضرائب والرسوم في ظل تعليق للمهل، ولديها ما يقارب 300 ألف موظف بين عسكري ومدني عليها دفع أجورهم شهريا، وهي أجور مقومة بالدولار وتصل إلى ملياري دولار، أي 12 ألف مليار ليرة لبنانية يجب على الدولة تأمينها.

وللتذكير، فإن عملية طبع العملة وتعاظم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ما زال مستمرا حتى وصل إلى 30 تريليونا، بعد أن كان خمسة تريليونات عند بداية الأزمة. كذلك إن استنفاد الاحتياطات أو ما تبقى منها في تراجع، وعدم التوازن الحاصل هو ما يؤدي إلى هذه القفزات في سعر صرف الدولار، حيث بات التضخم في الكتلة النقدية أداة انعكاس في سوق الدولار.

رصاص سياسي

إضافة إلى تلك الأسباب، العنوان السياسي العريض في الحكومة المفقودة لا يرى أفقا لكي تبصر النور، خاصة عندما تسمع أزيز الرصاص السياسي ينتشر، لا بل ويبشر كل من موقعه بقدوم الثورة وليس آخرهم الوزير جبران باسيل حيث قال في بيان له: "بالعين المجرّدة إن دولة الرئيس سعد الحريري غير جاهز لتشكيل الحكومة لأسباب خارجية معلومة كنّا قد امتنعنا عن ذكرها سابقاً إعطاءً لفرص إضافية". وأضاف: "أيّها اللبنانيون إن حكومتكم الموعودة مخطوفة، ولن يكون ممكناً استعادتها سوى برضى الخارج أو بثورة الداخل"، وتاليا هل أفلح الخارج في إقناع الجمهورية الإسلامية بالمساعدة في حلحلة ما للوضع الحكومي في لبنان؟ وهل استطاعت المملكة العربية السعودية بلورة إبعاد بعض الأطراف عن دخول الحكومة؟ وهل استطاع الفرنسي من خلال مبادرته خرق الجدار؟ وهل استطاع القطري خلق دينامية للحوار؟ وماذا عن الروسي الذي أدلى دلوه دون جدوى عبر نائب وزير خارجيته السيد بوغدانوف؟ لكن لا حياة لمن تنادي، حيث صراخ ملفات المنطقة المعقدة والمربوطة حصرا بالمفاوضات الأمريكية الإيرانية، وهي بداية الحل برأي الكثيرين.

ماذا بعد كل هذا وخطاب بكركي الناري.. لم يبق إلا الشارع والغضب

إن علة الارتباطات الخارجية لكل الأطراف وغياب الحلول السياسية وتجدد العقد لا بل استفحالها، مضافا إليه دولار قد يتجاوز منطقيا بفعل الطلب عليه العشرة آلاف ليرة للدولار الواحد، وبطالة تفوق 60 في المئة معظمها في الشباب، وعجز في ميزانية الدولة الحالية والتي تعد ولم ولن تُقر بفعل عدم الدعوة إلى جلسة حكومية طارئة، مع عجز ميزان المدفوعات الممزوج مع قلة التحويلات إلى الداخل اللبناني، وصولا إلى التضخم في أسعار السلع الذي فاق 400 في المئة لبعض السلع وربما أكثر.. كل ذلك يترافق مع سياسة النهب، حيث سحب الدولار من المصارف على سعر المنصة الذي لا يشكل سوى 39 في المئة من القيمة الحقيقية للدولار، وللأسف لا كابيتال كونترول في الأفق. أما التقارير الصادرة عن البنك الدولي والأسكوا فحديثها يطول عن نسب الفقر والجوع الذي ينهش اللبنانيين ويجعل من براداتهم وأمعائهم صماء خاوية، في مشهد يبعث على الذهول من عدم نزول اللبنانيين إلى الشارع!!

إن الغضب الساطع آتٍ لا محال خاصة بعد خطاب سيد بكركي الأسبوع المنصرم حيث قال: "لا تسكتوا عن الفساد وعن فوضى التحقيق في جريمة المرفأ، ولا عن السلاح غير الشرعي وغير اللبناني، ولا عن سجن الأبرياء، ولا عن التوطين الفلسطيني ودمج النازحين، ولا عن مصادرة القرار الوطني ولا عن الانقلاب على الدولة والنظام، ولا عن عدم تأليف حكومة وعدم إجراء الإصلاحات". وكأني بالخطاب إشارة لحركة الناس القادمة.

فبحسبة بسيطة يدرك الجميع أن الانفجار الاقتصادي والمالي الاجتماعي والمعيشي قادم في بلاد باتت مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا أدل على ذلك من كلام رئيس التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط: "كانت هناك فوضى مصغّرة ولكن عند زيادة ارتفاع الدولار سيكون هناك فوضى أكبر"، سائلا: ماذا سيفعل العسكري عندما يصبح راتبه حوالي الـستين دولارا؟!

إن المؤشرات الإقليمية والدولية لا توحي بشمعة في نهاية النفق اللبناني، أما المؤشرات السياسية والاقتصادية الداخلية لا تشير إلا إلى الشارع، حيث الفوضى والغضب الساطع آت. وتقول الحقيقة: "إن الثورة تولد من رحم الأحزان"، فهل في العالم كله أكبر من حزن اللبنانيين منذ انفجار "بيروتشيما" حتى دولار بلغ خمس خانات (10.000 ليرة) للأسف!! والخوف الأكبر مما هو آت.