قضايا وآراء

حين هتف الثوار بتطهير الإعلام

1300x600
في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات (7 شباط/ فبراير 2011)، كان الهتاف المميز في ميدان التحرير "الشعب يريد تطهير الإعلام"، كان المشهد المميز أيضا هو جنازة رمزية انطلقت من نقابة الصحفيين إلى ميدان التحرير تحمل نعشا رمزيا لشهيد الصحافة أحمد محمود (مؤسسة الأهرام) والذي قتله قناص شرطة يوم 29 كانون الثاني/ يناير 2011 في شرفة منزله المطلة على مبنى وزارة الداخلية بينما كان يلتقط صورا للثوار المحاصرين للوزارة.

طافت الجنازة الرمزية أرجاء الميدان، مصحوبة بتلك الهتافات، وتم تخصيص هذا اليوم على منصة الميدان - التي كانت لا تزال بدائية - للمتحدثين من الصحفيين والإعلاميين، وكان الذي يدير اللقاء صلاح عبد المقصود، وكيل نقابة الصحفيين في ذلك الوقت، وكنت شخصيا أحد المتحدثين في ذلك اليوم عن ضرورة تحقيق رغبة الشعب المصري في تطهير الإعلام.

كان الشعب المصري وبالأخص طلائع التغيير فيه يدركون دور إعلام نظام مبارك في تضليل الشعب، وتسطيحه، وصرفه عن القضايا الحقيقية إلى موضوعات زائفة بهدف إشغاله فيها عن حقوقه، وليسكت على ظلم النظام (الأمر الذي عاد بصورة أبشع بعد الانقلاب العسكري). كان الناس يرون الحقائق بأعينهم ثم يفاجأون بعكسها في وسائل الإعلام، وحتى حين اندلعت الثورة وامتلأ ميدان التحرير بالثوار فقد كانت كاميرات التلفزيون المصري المطل على الميدان تنقل صورا للهدوء والسكينة على كوبري 6 أكتوبر، وكأن شيئا لا يحدث في الميدان!!
كان الشعب المصري وبالأخص طلائع التغيير فيه يدركون دور إعلام نظام مبارك في تضليل الشعب، وتسطيحه، وصرفه عن القضايا الحقيقية إلى موضوعات زائفة بهدف إشغاله فيها عن حقوقه، وليسكت على ظلم النظام

لم يكتف الثوار في ذلك الوقت بترديد هتاف الشعب يريد تطهير الإعلام"، بل نصبوا ملصقا ضخما مليئا بصور من الصحفيين والإعلاميين من رجال عهد مبارك الذين ينبغي تطهير الإعلام منهم، فهؤلاء الذين كان يصفهم الشعب بـ"سحرة فرعون". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتشرت الدعوة للتطهير داخل المؤسسات الإعلامية الحكومية ذاتها التي لم تكن تعرف سوى التسبيح بحمد النظام.

وصلت الثورة إذن إلى قطاع الإعلام، وكان مشهد طرد نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد من النقابة يوم 7 شباط/ فبراير مشهدا ثوريا بامتياز. لقد كان النقيب الحكومي يحاول تهدئة مشاعر زوجة الصحفي الشهيد أحمد محمود، ويبلغها أن النقابة ستدفع تعويضا لها، وهو ما أثار حفيظة الصحفيين الحاضرين، فهتفوا في وجهه "اخرج برة"، أي إلى خارج النقابة، وظلوا يطاردونه ويدفعونه بأيديهم خارج النقابة فعلا، فخرج منكسرا، ولم ينس الرجل هذا المشهد بعد ذلك. وعلى الفور اختار مجلس نقابة الصحفيين صلاح عبد المقصود نقيبا بالإنابة ليكمل ما تبقى من فترة النقيب، وليأتي بعده الصحفي ممدوح الولي القريب من الإخوان نقيبا للصحفيين لأول مرة في تاريخ النقابة، حيث كان المنصب حصريا لأشخاص موالين للنظام الحاكم حتى وإن أظهر بعضهم قدرا من الاستقلال الظاهري.

تكرر مشهد الطرد لرجال مبارك في مؤسسة الأهرام مع رئيس تحريرها أسامة سرايا أيضا، والذي كان يقوم بتهريب وثائق وهدايا في صناديق خارج المؤسسة، وحين اكتشف بعض الصحفيين المنحازين للثورة ذلك، فقد منعوا خروج تلك الصناديق، واستدعوا الشرطة العسكرية لمصادرتها، وتم طرد رئيس التحرير بلا عودة للمؤسسة.

وقد تكرر ذلك أيضا في مؤسسة روز اليوسف بشارع القصر العيني المدخل إلى ميدان التحرير، حيث تم طرد رئيسها كرم جبر في مشهد ثوري أيضا. وحاول الصحفيون تكرار الأمر في وكالة أنباء الشرق الأوسط (وكالة الأنباء الرسمية) مع رئيسها عبد الله أبو الحسن، والذي حماه عمال المؤسسة حتى خرج إلى بيته دون عودة للوكالة أيضا. ووصلت التحركات الثورية إلى مؤسسات الأخبار ودار التحرير، ودار الهلال أيضا، ولم يغب عن هذا المشهد الثوري مبنى ماسبيرو حيث قنوات تلفزيون النظام وإذاعاته، لقد شهدت ردهة المبنى اعتصاما لعدد من الإعلاميين (ثوار ماسبيرو) استمر حوالي أربعين يوما، وكانت مطالب المعتصمين هي تطهير المبنى من رجال مبارك، وطاردوا كلا من رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون أسامة الشيخ ورئيس قطاع الأخبار عبد اللطيف المناوي ، وهربت مديرة التلفزيون نادية حليم ، ولم يعد هؤلاء للمبنى بعد ذلك. ولكن نظام السيسي أعاد الاعتبار لمكرم محمد أحمد بتعيينه رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام، قبل أن يزيحه من المنصب ويعين بديلا له هو كرم جبر، كما عين عبد الله أبو الحسن وكيلا للهيئة الوطنية للصحافة.
اضطرت الصحف القومية (الحكومية) وقنوات التلفزيون الرسمي إلى مجاراة الثورة والثوار بعد رحيل مبارك، ولكن ذلك لم يكن عن قناعة وإيمان بالثورة وإنما نفاقا لها، وتنافس من تبقى من رجال مبارك في الإعلام في ممالأة الثورة

اضطرت الصحف القومية (الحكومية) وقنوات التلفزيون الرسمي إلى مجاراة الثورة والثوار بعد رحيل مبارك، ولكن ذلك لم يكن عن قناعة وإيمان بالثورة وإنما نفاقا لها، وتنافس من تبقى من رجال مبارك في الإعلام في ممالأة الثورة، مثل رئيس تحرير الأخبار ياسر رزق، والذي كانت صورته ضمن الصور المرفوعة في الميدان بهدف تطهير الصحافة منها. وحتى سمير رجب، الصحفي الأقرب لمبارك، حرص على ممارسة نفاقه مع الرئيس مرسي، فحضر لقاءه مع القيادات الصحفية في الأسبوع الأول لوصوله إلى القصر الجمهوري، ولكن الرئيس مرسي رحمه الله خاطبه بـ"رجل كل العصور" وجعله أضحوكة للحاضرين.

واصلت الثورة نضالها لتطهير الصحافة، عند اختيار رؤساء المؤسسات الصحفية الكبرى في عهد الرئيس مرسي، حيث كان أحد شروط الاختيار هو احترام ثورة 25 يناير، وتم بالفعل التخلص ممن تبقى من رموز نظام مبارك في الإعلام. ورغم المساعي الحثيثة للمجلس العسكري للإبقاء على بعض الأسماء، إلا أن مجلس الشورى (ذا الأغلبية الإسلامية) رفض ذلك تماما، وكانت تلك من المعارك الخفية بين الإخوان والمجلس العسكري في تلك الفترة.

لقد اهتمت الثورة بقضية حرية واستقلال وسائل الإعلام ليصبح إعلام الشعب وليس إعلام النظام، فضمنت ذلك في دستورها الصادر عام 2012، ولكن المسارعة بالانقلاب على الثورة بعد شهور من صدور الدستور لم يمكن أبناء الثورة من إصدار القوانين الناظمة للإعلام في ثوبه الجديد وفقا لنصوص ذلك الدستور، كما أن المسارعة بالانقلاب حالت دون تحقيق خطوات أخرى كثيرة في إطار معركة التطهير التي بدأت ولكنها توقفت عند مراحلها الأولى.
بعد مرور 10 سنوات على ثورة يناير، من الصراحة أن نعترف بأن معركة التطهير مضت بخطوات أقل مما ينبغي، بما في ذلك التطهير من الفساد المالي والإداري، ومجددا أصبح الإعلام إحدى الثغرات الرئيسية للانقلاب على الثورة ذاتها

بعد مرور 10 سنوات على ثورة يناير، من الصراحة أن نعترف بأن معركة التطهير مضت بخطوات أقل مما ينبغي، بما في ذلك التطهير من الفساد المالي والإداري، ومجددا أصبح الإعلام إحدى الثغرات الرئيسية للانقلاب على الثورة ذاتها، حيث لم يتمكن أبناء الثورة الحقيقيون من إدارة المؤسسات الإعلامية التي ظلت بيد شخصيات باهتة، أو غير مؤمنة أصلا بالثورة وإن أظهرت عكس ذلك، وكان الأفضل قصر التعيينات في المناصب القيادية على المؤمنين حقا بالثورة، والذين كان لهم دور بالفعل من قبل في مواجهة نظام مبارك، وهم كثيرون ويتمتعون بمهارات صحفية وإعلامية عالية تؤهلهم لإدارة تلك المؤسسات.

لقد تغلبت فكرة الإصلاح التدريجي على فكرة التغيير الثوري فاستغلها من يجيدون التلون، وقدموا أنفسهم باعتبارهم أنصارا للثورة والتغيير، وأنهم ضحايا لنظام مبارك. وفي ظل حالة استقطاب ألقت بظلالها أيضا على كل القرارات في تلك الفترة تمكن هؤلاء من تصدر المشهد الإعلامي، وحين واتتهم الفرصة لإظهار مواقفهم الحقيقية فإنهم لم يتورعوا عن الانحياز للانقلاب العسكري منذ لحظاته الأولى، باستثناءات قليلة حافظت على نقائها وانتمائها للثورة وقدمت استقالتها فور وقوع الانقلاب، وقد ربح هؤلاء احترام الكثيرين، بينما خسر المنافقون مجددا حيث لم يأمن لهم النظام الجديد، وأبعدهم عن مواقعهم رغم كل محاولات التملق من ناحيتهم، وهذا أحد دروس الثورات.

twitter.com/kotbelaraby