كتاب عربي 21

صقر قريش وبقرة عمتي

1300x600
صبّحتنا عمتي هاربةً من بيتها النائي في رؤوس الجبال، فهي تقيم في قرية بعيدة وراء الحدود، على ذرى الجبال لا يبلغها إلا النجيبات المراسيل، لا تذوّب الشمس بياضها الصخري، فثلجها ملح لا يذوب، وذراها موشحة بالخمار الأبيض في كل فصول السنة، وهم يعصرون ماءهم من السحاب، وكانت قد خاصمت زوجها وخلعت نفسها منه، وشمست إلى بيت أخيها، ولم تكن قد رأت تلفزيوناً من قبل.

كانت حزينة، ولم تحدثنا بسبب خلافها مع زوجها، وتعلقت ببعض حكايات المسلسلات، حتى إنها سَلَت عن خلافها مع زوجها حيناً، فقلت لها: هل تعلمين يا عمتي أنَّ هذا الرجل في مسلسل الفصول الأربعة، هو نفسه صقر قريش فاتح الأندلس؟!

شقَّ عليها الأمر، فبسّطنا لها المسألة، وقلّبنا الصوّر، وحللنا الرقم إلى عوامله الأولية بلغة الرياضة، وأحضرنا المجلات الفنية، حتى فقهت، ثم قالت نادبة وهي تضع يدها على فمها، فالروح تُنزع من الفم: "ببو".. "ببو".. أحق ما تقولون؟

ثم قالت: واثكلاه.. احلف.

حلفت لها وقلت وأنا أقلّب الصور: هو هنا ملتحٍ وهناك حليق، وهو ممثل اسمه جمال سيلمان انظري واقرأي، أنت تقرأين كتاب الله وتفكّين الحروف.

لكنها لم تفقه قولي، وبدا الأمر عسيراً على الفهم وثقيلا على الهضم.

قلت: هذا ممثل فحل يختار أدوار البطولة التي تناسبه، وبعض الممثلين مثل ربات الخدور يختار لهم المخرج أدوارهم وأنساخهم وليست لهم الخيرة من أمرهم، ومثل العذراوات الخفرات، وإذن العذراء صمتها.

تدخل أخوتي وبسّطوا لعمتي معنى فنِّ التمثيل، حتى إنهم تنكروا وأدّوا بعض التمثيلات، وتطوع أخي الصغير فوضع أصبغة على وجهه ولبس طرحة، حتى غدا امرأة، ونطق بجمل مصرية حلوةٍ فاكهة، فضحكت عمتي، ولم تكن تعلم أنَّ المرء ينكر نفسه كما يغيّر ثيابه، وبقيت مشدوهة، مذهولة، وكأنها خينت أو خُدعت، وشعرت أن ثلوج الجبال ذابت وخشيت من طوفان مثل طوفان نوح.

أحضرتُ لها المجلات، وقلت انظري، افحصي، فحدّت النظر في الصوّر، فحصحص الحق، فكأني طعنتها في ظهرها وخذلتها، وقالت يا ليتني ما عرفت.. كيف يرضى رجل فتح الأندلس وبنى فيها تلك الأمجاد وكسر الفرنجة بأن يقنع بدور رجل مسكين يستدرُّ الشفقة؟

بل إن أخي المشاغب أرى عمتي صورة ممثلة لبست شخصية رابعة العدوية شهيدة الحبِّ الإلهي وهي تؤدي دور راقصة مبتذلة تبيع جسدها بالساعة في فيلم آخر، وتذوب في حضن ممثل أدّى دور صلاح الدين الأيوبي، فأغمي عليها.

أخذني الحماس، فقمت بأمر يسميه الفقهاء تحرير الأحكام، فقلّبت صور المجلات الفنية، وأشرت إلى ممثل أدّى دور القعقاع بن عمرو التميمي، وهو بألف فارس، فقلت إنَّ الرجل أُسعف إلى المشفى لأنه بقي ساعة تحت الشمس متخوِّذا بالخوذة، وإن هذا الممثل الذي أدّى دور عنترة بن شداد حامي القبيلة ولغ في شرف نساء القبيلة كلهن بعد نجاح دوره، فلم تسلم منه معجبة، وتبارت المعجبات في الحج إلى سريره.

قالت تقصد: زيارة خيمته في المعركة شكرا له.

قلت لا: سريره يا عمتاه.. سريره.

وأخذت عمتي غاشية، ولم نستطع أن نجاهر بالفعل المنكر الذي وقع في المسلسل، ولم تصدق، ثم أبرزت لها صورة ممثلة حسناء يضرب في حسنها المثل وقلت انظري يا عمتي.

قالت: هذه عروس.. ما أجملها.

قلت هذه العروس هي زوجة هذا الرجل، وهذا الرجل يصوّر زوجته وهي تقبّل هذا الرجل، فشهقت عمتي ووضعت يدها على فمها تمسك روحها من النزوع، وقالت: وكيف يقبل أن تخونه زوجته وهو ينظر إلى عاره؟

قلت يا عمتي هل سمعت بالمافيا الإيطالية، فهزّت رأسها، ولم أعرف هل هي هزّة إجابة أم هزة رفض، فقلت لها هذه عصابات ترتكب كل أنواع الجريمة لكنها تحرّم أمرا واحد بين أفرادها: وهو خيانة نساء العصابة، وهذا الرجل هو الذي يصوّر زوجته ويبارك لها حسن تمثيلها، فالمافيا أشرف منه.

قالت: لم أفهم.

قلت: يقولون في تبرير الحيلة، وتحرير الوسيلة أنها من أجل صدق اللحظة الفنية، والفن معركة وهو يحتاج إلى تضحية، والمقاتل في المعركة يضحي بروحه في سبيل وطنه وأهله ودينه، وقد ضحت هذه المرأة الباسلة في سبيل الفن بجسدها والجسد أدنى من الروح، الجسد ما هو إلا إناء للروح يغسل إذا توسخ ويلتئم إذا جرح.

قالت: من أجل ماذا؟

بدأ اخوتي يشفقون علي ويعطفون عليها أيضا، فهي مسألة عويصة، ونهتني أمي عن تعكير صفو عمتي، لكني تابعت قائلا: إنها تضحي يا عمتي بجسدها من أجل صدق الرسالة.

وأبرزت لها صورة ممثلة جميلة، وقلت: هل تعرفين خالد بن الوليد.

قالت: ومن لا يعرفه؟ هو سيف الله المسلول صاحب جملة ليس في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة من رمح أو طعنة من سيف.

قلت: هذه سيف الشيطان المسلول، ليس في جسدها موضع شبر إلا وفيه طعنة من مخرج أو ضربة من ممثل.

لم تفهم عمتي العبارة، وبقيت حائرة. وقلت لها إنَّ بعضا من رؤساء الدول ممثلون واستعرضت لها بعضهم في الصور، هذا رئيس أمريكي وهذا أوكراني وقد يكون رئيسنا القادم ممثلا. وأبرزت لها صورة "صقر قريش" وهو يرقص مع راقصة بالعصا.

قالت مستنكرة: يولون المشخصاتية ويسوّدونهم!

قلت: يا عمتي تعلمين أنَّ الحرب خدعة، والممثل رجل يحسن الخداع والكذب، لذلك فهم يختارون المخادعين، ورؤساؤهم مخلصون لشعوبهم فهم يمثلون الدور الطيب مع شعوبهم والدور الشرير مع أعدائهم، على النقيض من رؤسائنا.

قالت: ولمَ نقتدي بهم ولا نقتدي بأجدادنا وأبطالنا؟ كفارنا كانوا يتورعون عن الكذب فكيف بالتمثيل الذي كله كذب؟

قلت: رؤساؤنا يا عمتي ممثلون لكنه يمثلون دورين: دور الطيب أمام الكاميرا ودور الخبيث وراءها، وبتوليتنا ممثلا تكون لنا أمال في أن يتذكر جملة طيبة حفظها لأمير المؤمنين أو شعرا كريما يحض على مكارم الأخلاق حفظه للمتنبي، فيرعوي ويتعظ أما الرئيس الحالي فهو إما عسكري مملوك أو ملك صعلوك.

أردت أن أسهل الأمر عليها فقلت: يبدو أنَّ فيلم عمر المختار أعجبك؟

قالت: إن عمر المختار لم يحسن الوضوء، ولم يسبغ الماء، ولم يبلغ الماء مرفقيه.

هتف أخي: إنه معذور فليس..

وضعت يدي على فم أخي قبل أن يقول إن أنطوني كوين ليس مسلما، وقلت: عمتي عمر المختار كان يعيش في الصحراء وقد أجاز الإسلام التيمم إذا فقد الماء، والرجل يقتصد في الماء، وقد نهينا عن الإسراف.

عاد أبي من البراري البعيدة بعد أن حصد محاصيل سنابله، وعلم بما حصل، فغضب منا أشدَّ الغضب، وكان أبي يجلس معنا متفرجاً على التلفزيون، لكن لم يكن معنا بفكره وعقله، فهو في البراري البعيدة، يحسب الصادر والوارد، وأجور عمال الحصاد، ومقدار الزكاة، وأسماء مستحقي الصدقات، ويقيس سكة السحاب الحديدية، وكانت تحيد عن أرضه، فيقول ما هذا إلا لذنب اقترفته. ويختلس النظر بين الحين والآخر إلى الشاشة، فيسألنا عما جرى، فنلخص له الأحداث، ونعزل الأخيار عن الأشرار، وكنت بين الحين والآخر أتباهى بغاية المسلسل وقصده، وعيوب حبكته، وما أخفي من القصة وما أعلن، وأسماء الممثلين. وشرحت له مرة أسرار مسلسل عمر، واقتربت منه، وقلت: الجدران لها آذان، وهمست في أذنه بمكر صنّاع المسلسل وأحابيلهم، فأصغى إليَّ، وقال إنه كان يستشعر بما قلته، وأني وضّحت له الأمر، وقلت: إن الناس احتجوا على مسلسل "غرابيب سود"، وفرحوا بمسلسل عمر، لكن مسلسل عمر فيه عسلٌّ مغشوش بالسمِّ، وبينت له موضع السمّ.

كنت قد كشفت سرّ التمثيل لابن عمي دلّو أيضاً صبياً، عندما شاهدنا فيلم سميرة توفيق "الغجرية العاشقة" صغاراً، في أوائل السبعينيات، فقلت لدلّو، وكنت أنا الذي أختار له الأفلام التي يشاهدها وكنت فقيهاً في الصور والأفلام: هل تعلم أنَّ المجرم الذي يخطف ليلى في الغجرية العاشقة هو نفسه أبو علي بطل فيلم "الفهد"!

فتعجب واضطرب، وابتعد واقترب، وقال غير مصدق وهي يقلّب الصور في ذهنه ويقيم الموازين بين صورة بطل يثور على الدولة، ورجل يخطف النساء من أجل المال: احلف.

حلفت له، ولم يكن قد جرب عليَّ كذباً، أكدت له وذكرت له اسم الممثل، حتى إنه ملتح في الفيلمين، فقصد بوستر الفيلم على بعد شارعين، وعاد حزيناً جداً، كأنه طعن في ظهره، وقال: خسئ. والله ما عدت أشاهد له فيلماً أبداً، سقط من عيني.

التقينا بعد سنوات مصادفةً في الشام، قريباً من فندق الشام بنجومه الخمسة، فأخرجت من جيبي بطاقة وتصنّعت أني أنظر فيها وقلت له اقترب يا دلّو، واختلسْ النظر إلى زجاج الفندق ستجد أبو علي بطل فيلم الفهد والغجرية العاشقة، ذلك الذي خطف ليلى، جالساً، لقد مضى زمنه وكسد سوقه، الفهد تحول إلى هرّة منزلية.

فنظر إليه وقال: كسد سوقه لأن الخطف صار شائعاً، ثم قال: فعلاً هذا هو، يستحق أن يخزي ويذلَّ، لقد سقط من عيني خاطف النساء.

هاجر دلّو إلى قرية عمتنا في رؤوس الجبال، خوفاً من خطف الفتيان إلى العسكرية، وأقام هناك وتزوج ابنة عمتي وحسن حاله، وترقى في الشرف والعلوم، وعاش في أهنأ عيش وأرغده.

بعد شهر دقَّ زوج عمتي باب بيتنا ومعه شفاعات وسعايات، كأنه يريد أن يخطب زوجته من جديد، وكان معه أولاده وبناته، واستفاقت عمتي من غُمتها، وقفت محتجبة وراء الباب، اعتذر من عمتي أمام الباب، وعلمنا أنَّ سبب خلافهما أنّها علمت أنَّ أخته استقرضته ألف ليرة، فاعتذر منها وعندما علمت عمتي بالأمر تغضّبت عليه ونذرت ألا تكلمه، وخلعت نفسها منه.. كيف يعتذر من أخته، وفي بيتنا بقرة يستطيع أن يبيعها ولا يكسف أخته، وفي أذنيها قرطان ذهبيان، وفي يدها أسورة من الإبريز يستطيع أن يبيعها، وقالت من يخذل أخته التي من لحمه ودمه يخذل زوجته التي يستطيع أن يطلقها بكلمة.

نزل زوج عمتي من الجبال وراء الحدود ومعه أخته التي حلفت لعمتي أنَّ أخاها أقرضها المال، وعانقت عمتي وقبّل أبناؤها يدها، وأخبروها أنَّ البيت قد تحوّل إلى مقبرة وطلول في غيابها، وأنَّ الحياة تغيّرت عليهم، وأنّ بقرتها تشتاق إليها، وقد صامت عن الأكل، وهزلت، فضربت بيدها اليمنى على ظهر يدها اليسرى وقالت: قضي الأمر.

وجدت نفسها بين أمور؛ إما أن تغفر لزوجها كذبته البيضاء، وإما أن تعيش مع الكذب كل يوم في التلفزيون في بيت أخيها، وهو بيت أبيها، وقد وجدت ممثلة دور رابعة العدوية في حضن ممثل دور صلاح الدين الأيوبي، وقد تلقى ممثل دور عمر بن الخطاب يسهر في خمارة البلد، فقالت معاجزة: ويميني.. كيف أكفّر يميني؟

فتلا الشيخ، وهو ابن عمي دلّو الفهد، وكان قد تفقه في العلوم وصلُح أمره، وجاء شفيعاً مع زوج عمته قوله تعالى: "كَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ".

قالت عمتي متمنّعة: سأعود من أجل البقرة، إنها الوحيدة التي لا تكذب عليَّ، ودموعها صادقة.

تراضى الجميع، واحتفلنا وذبحنا وأطعمنا الجيران، وقبلتنا عمتي واحداً واحداً، وقرأنا الفاتحة، ووجدت أبي يدسُّ مبلغاً من المال في متاع عمتي عن جنب وهي لا تشعر، بكت عمتي وهي تودعنا، وزفّت إلى زوجها مرة ثانية، وبكى أبي هو يودّع أخته التي تورعنا عن كشف خدعة مسلسل عمر لها فخشينا أن تلفظ روحها كمدا وحسرة، وكفكفت دموعه بمنديل رأسها الأبيض، وزغردت أمي وأخواتي وجاراتنا، وركبت معهم إلى بيتها في رؤوس الجبال، ولم تعد إلى زيارتنا أبداً، إما شفقة من أن تغرق في دموع أبي ولوعته، وإما خوفاً من الغرق في طوفان نوح الثاني.

twitter.com/OmarImaromar