كتاب عربي 21

لماذا يزحف الكوندور؟ (حكايات أمريكية-1)

1300x600
(1)
لا تحاول أن تحدد موقفي من أطراف الصراع الأمريكي، فلن تجدني أبداً مع طرف ضد طرف، لا في الحالة الأمريكية ولا في غيرها.

هناك كلام كثير في هذه المرحلة عن العلوم البينية والخروج من التصنيفات القطعية، وهناك نظريات متعددة عن السيولة والهيولة، وهناك كلام قديم ومتجدد عن صراع الانقسام داخل الفكرة الواحدة، وهو الصراع الذي يفضي إلى التطوير إذا تزاوج الطرفان وأنجبا برغم الاشتباك والعراك طرفا ثالثا يمثل المستقبل. والصراع نفسه قد يؤدي إلى التدمير إذا تصادم الطرفان في صراع إزاحة وتناحر.

(2)
هذا الموقف الذي يذكرني برواية موزيل "رجل بلا صفات" لا يعني أبدا أنني بلا موقف، لكنه يعني أن لديّ موقفا أكبر يصعب حشره في قوالب التنميط الضيقة الموروثة من قبائل الدوجما العتيقة وعنجهيات الأيديولوجيا الشمولية وكائنات اليقين المطلق.

ولمحاولة تبسيط هذا الموقف الصعب، قد تكون الحكايات طريقة لطيفة، فالإنسان عموما يحب الحكايات، وأبدأ بحكاية قصيرة عن تعاطفي ذات يوم مع "قوّاد":

كنت أقف على الضد من مسؤول إعلامي كبير وصبيانه الذين سيطروا على مساحة الإعلام والإنتاج الدرامي، وفجأة دخل على الخط "كاتب أمني" كان مسؤولا في إحدى المجلات "الإثارية" وكشف عن فضيحة أخلاقية للرجل الثاني في الجهاز الإعلامي الحكومي، وبدأ على الملأ نشر ما يعرفه الناس في السر، والذي يتلخص في أن المسؤول الإعلامي كسيده يعمل قوّاداً، ويقدم فتياته لأثرياء المرحلة مقابل مكاسب، بعد أن كانت خدمة للوطن!

أعجبني الكشف، فالفضيحة في أحد تعريفاتها "عمل فني" كما قال فيدريكو فلليني، لكنها عندما تتحول إلى "عمل أمني"، فإنني يجب أن أنتبه لطريقة وغرض الاستخدام، حيث ندخل في مساحة "الحق الذي يراد به باطل"، وأنا لا أحب أن أكون جنديا في الباطل، يسارع بضرب أعداء الوطن لمجرد أن "حضرة الضابط قال"، كما كان يفعل أحمد سبع الليل في فيلم "البريء"، وكما كان يفعل كاتب الشخصية نفسها في حياته بوعي زائف مرتبك بين خضوعه مرة لتعليمات أمنية، وتقليده مرة لأفكار أدبية وأعمال سابقة أعجبته من دون أن يؤمن بها!

للاختصار أقول إنني لمست في نفسي شعورا غريبا بالتعاطف مع القواد كلما وضعته في مقارنة مع الشخصية الأقذر التي فضحته؛ ليس من أجل الأخلاق، لكن لأهداف "صراعية" تلعب بها أجهزة أقذر على مستويات أخطر.

وهذه المشاعر "الارتدادية" العجيبة تكررت كثيراً واستوقفتني بعد تعاطفي مع بلطجي خارج عن القانون كان يدعى "طارق إمام"، كنت أسمع عن سلوكه الإجرامي المستفز، وعن استخدامه لنفوذ والده الذي كان مساعداً لوزير الداخلية، لكن الصراع وصل إلى داخل البيت بين الكبار، فتم الأمر بتصفية ما أسماه الإعلام إياه "بلطجي مصر الجديدة"، وتحركت فرقة من الداخلية بقيادة رئيس مباحث العاصمة فادي الحبشي، ليس للقبض على البلطجي الخارج عن القانون، لكن لتصفيته وتصفية والده معه. فقد تضمن التسليح آر بي جي وصاروخا صغيرا لهدم جدران المسكن نفسه، ولما خرج والد البلطجي إلى الشرفة حاملا راية بيضاء معلنا الاستسلام ورغبته في تسليم نجله، تم قنصه، وهربت الأم بقميص نومها إلى بيوت الجيران.

وبدا واضحا أن الداخلية التي كانت تحمي البلطجي أثناء بلطجته تريد القضاء على نفوذه لأسباب "صراعية" لا علاقة لها بالانتصار للقانون ووقف البلطجة، ولما فتشنا في التفاصيل، كان واضحا أن بلطجة طارق إمام مجرد حجر صغير في جبل البلطجة الذي يمارسه النظام وقياداته.

(3)
هذا التعاطف "الانعكاسي" لا يعني أبدا الموافقة على "البلطجة الصغيرة" والسماح بها، لكنه يعني ضرورة الانتباه للبلطجي الأكبر الذي يتخذ مظهر مكافحة البلطجة بينما هو يمارسها بعنف أشد ولأغراض أخبث وأطول. وإذا أردتم مثالا شهيراً لهذه الفكرة ستجدونها في كتاب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عن الإرهاب، فهو يحكي عن محاكمة قرصان أمام الإسكندر الأكبر، فلما قرّعه الإسكندر على إجرامه وعمله بالقرصنة، قال قولته الشهيرة: تسمونني قرصانا وتحاكمونني لأنني أسرق بمركب صغير، أما أنت فيبجلونك ويطلقون عليك لقب الإمبراطور لأنك تسرق بأسطول كبير..

هذا الفهم له أمثلة بسيطة عن التعاطف اليومي مع "بائع تين شوكي" يخالف القانون ويعطل المرور للدرجة التي تدفع "النظام" لمطارته (حتى لا يشوه صورة الوطن)، وعن بائعة الخضار التي تخالف تسعيرة الحكومة، وعن بوعزيزي الذي يعمل بدون ترخيص، وعن "جان فالجان" الذي يكسر زجاج واجهة المخبز ليسرق الخبز للأطفال الجياع!

نحن (أنا وأنتم وآخرون) ندافع أحيانا عن مخطئين، لكن هذا لا يكون أبداً للدفاع عن الخطأ في ذاته، بل للتنبيه إلى الخطأ الأكبر والمخطئ الأظلم، وكشف الماكينة الجهنمية التي تصنع الأوضاع الخاطئة بحجة الحفاظ على النظام. وكما كتبت كثيرا عن الفرق بين تجفيف المستنقعات وجهود الدولة العظيمة في اصطياد البعوض، أقول إن محاسبة النظام مقدمة على محاسبة ضحاياه. ومن هنا أنتقل إلى مسافة أقرب لقراءة المشهد الأمريكي بنظرة عميقة، من دون انجرار إلى معالجة سطحية خادعة تحط فيها الديمقراطية في الكونجرس تطلع من الناحية الثانية صباع كفتة يتغذى عليه المواطن المنحرف، ويشفى من أمراض العنصرية وأعراض الفقر والتضليل وجنون الارتياب.

(4)
علمنا الأمريكان قصة الضابط الرحيم والضابط القاسي، وأخبرونا أنها لعبة داخل النظام، يلعبها الضابطان (باتفاق أو بدونه) ضد المتهم، والحقيقة التي لا يجب أن ينساها المتهم هي أن الضابطين معا في منظومة واحدة مهما اختلفت اللغة وطريقة الحصول على الاعترافات، وكذلك فإن النضج الأمني للشرطة الأمريكية قد يدفعها للتعاون مع مجرم وتلبية طلباته والسماح له بالهروب حاملا أموال الدولة إذا كان يختطف آخرين ويهدد بقتلهم مثلاً، فحياة الناس مقدمة في النظام الدستوري الأمريكي الذي ينفق الكثير من أجل إنقاذ قطة عالقة في برج أو ناطحة سحاب.

لكن هذه الصورة "الأمريكاني" تسقط فجأة إذا تعارضت مع برستيج وأمن النظام، وقد قرأنا كثيرا عن فواجع الحرية ومخالفات الدستور الأمريكي ضد ملايين الأمريكيين بعد تفجيرات 11 سبتمبر. لقد مارس النظام نفسه العنصرية والأفكار اليمينية المتطرفة ضد مواطنين أمريكيين لمجرد أنهم مسلمون أو "أغيار"، لذلك فإنني لا أهتم بتصرفات عضو في منظمة يمينية يكرر الهراء العنصري، قبل أن أهتم بذلك في المنبع، لأن ضبط السوق العنصري في أمريكا وفي غيرها لن ينجح على طريقة مطاردة الموزعين الصغار للبضاعة، بل عن طريق وقف الإنتاج في المصانع الكبرى، عن طريق محاسبة النظام الذي ينتج الازدواجية في المحيط الدولي كله، فيعامل الفلسطينيين بمكيال والإسرائيليين بمكيال آخر، ويحتقر شعوب ودول العالم الثالث كله ويحصرهم في مطبخه كخدم تابعين لا يتساوون في الإرادة والحقوق مع غيرهم من الأسياد البيض المهيمنين!

وهنا تحضرني المفارقة التي صاغها أديب إسحاق في هذا البيت الذي صرنا نتعايش معه بدهشة أقل واستنكار موسمي ضعيف الصوت:

قتل امرئٍ في غابةٍ، جريمةٌ لا تُغتفَر    وقتل شعبٍ آمنٍ، مسأَلةٌ فيها نظر

وهو البيت الذي يلخص نظرة السياسة الأمريكية للصراع في فلسطين.

(5)
لا أريد أن أبتعد كثيرا عن الحكايات، لذلك سأبتعد بقدر ما استطعت عن الحديث السياسي المباشر في الصراع الثنائي بين الديمقراطيين والجمهوريين، وهو ما يشبه صراع ساديو ماني ومحمد صلاح في ليفربول، صراع زعامة وإجادة وألقاب، لكن من أجل نفس الفريق ومن أجل تحقيق نفس المكاسب والأهداف، لكن الصراع يظل في حدوده الفردية والشخصية، لأنه ليس صراعا في قضايا عامة تستهدف تغيير اللعبة أو الفريق أو مصالح القاعدة الجماهيرية للفريق، وهذا أمر يشكل خطورة على الفريق ويؤثر على مزاج جماهيره إذا زاد عن حده وأضر بمصلحة الفريق..

مش عارف إيه اللي فكرني بصراع "مو/ ماني"، ربما السيولة ومبدأ "اتصال الظواهر" كما حكيت في بداية المقال، لكن المثال الذي أريد أن أعرضه عليكم للتأمل يخص قرار العدالة الأمريكية بإعدام القاتلة السيكوباتية ليز مونتجمري، وهو قرار مثير للجدل والنقاش في دولة يعفو رئيسها عن قتلة محترفين ارتكبوا جرائم حرب في العراق.

فمن الناحية الشكلية يبدو الحدث خطيرا لأنه يأتي بعد 67 عاما من آخر حالة إعدام لامرأة، ويأتي في ظل دعوات عالمية وأفكار تناهض عقوبات سلب الحياة، لأسباب بعضها نابع من وقائع مؤلمة في التاريخ الأمريكي نفسه، بالإضافة إلى ذلك فإن الظلم الاجتماعي والتربوي الذي وقع على ليزا ماري مونتجمري يجعلها أقرب للضحية منها إلى القاتلة. نعم هي قتلت واختطفت الجنين الذي انتزعته من رحم الأم القتيلة، لكن هناك حديث طويل موثق من جانب الدفاع عن إصابتها بخلل عقلي منذ الطفولة، وأنها عاشت طفولة معذبة في بيت من الجحيم العائلي حيث تعرضت للاغتصاب طيلة سنوات من جانب زوج أمها، ولما شكت لأمها، كذبتها الأم وأشهرت في وجهها مسدسا وهددتها بالقتل، فهربت من بيت الجحيم إلى ضياع مجتمعي أوسع تعرضت فيه لعلاقات وزيجات مسيئة وفاشلة انتهت بعملية استئصال رحم وندوب نفسية عميقة. ولما تعرفت على القتيلة في إحدى غرف الدردشة جرى الحديث عن الأطفال والحمل، ويبدو أن العقدة النائمة استيقظت، واستغلت المريضة السيكوباتية اتجار صديقتها في الكلاب وحددت معها موعدا وهي تخطط للحصول على الجنين لتربيه في حالة من الاضطراب؛ تشبه الدور الذي قامت به الفنانة بوسي في فيلم "آخر الرجال المحترمين"..

حدثت جريمة القتل ببشاعة، ولا شك أن كل من يتعرف على الجريمة سيشعر بالغضب ويستنكر ويتمنى موت هذه السيدة المريضة عدوة الحياة وأمثالها، لكن بعد فترة من الحادث ومع اتخاذ مسار التحقيقات، فإننا لا يجب أن نخضع لانطباعات لحظة القتل، فلا بد من دراسة أعمق، ليس بغرض إعادة إحياء بوبي جو ستينيت لولادة طفلها واستكمال حياتها، لكن بغرض حماية الحياة العامة نفسها. وهذا يبدأ بتخفيف الضغوط والأمراض النفسية، ومكافحة التحرش والاغتصاب والخلل العائلي المنتشر في المجتمع الأمريكي، والذي غرس دوافع الحقد والقتل في نفس المدمنة المعذبة التي جمعت بين صفتي الجانية والمجني عليها.

(6)
لحظة وقوع أي جريمة فإننا نحتاج أكثر إلى الضابط (ممثل الأمن والضبط)، ونحتاج إلى إدانة الجريمة واستنكار الفعل المجرم ومناصرة الضحية، لكن عمل الضابط هو البداية وليس كل شيء، فبعد ذلك تأتي الإسعاف، وإذا كان القاتل قد أصيب يجب على الطبيب علاجه بنفس المهارة والإخلاص التي يعالج بها المصاب الطيب. وكذلك يفعل المحامي والأخصائي الاجتماعي، ويضمن القاضي محاكمة عادلة، وننتبه إلى حقوق السجين القاتل في محبسه، وصولا إلى تنفيذ العقوبة التي تستهدف الأمان الاجتماعي أكثر من رغبات الانتقام.

فقد يكون المجرم بريئا، وقد يكون أداة في يد عصابة أكبر وأخطر ينبغي على الأجهزة الوصول إليها، وقد يكون مريضا بفيروس يدفع الناس إلى القتل، وبالتالي فإن علاجه سيكون بوابة حماية المجتمعين من ملايين القتلة المحتملين إذا أصابهم نفس الفيروس، الذي قد يكون اسمه الظلم أو الفقر أو التمييز العنصري أو التنمر والاحتقار أو الجهل.. إلخ.

لكن لماذا يكتفي الطغاة في مواجهتم لما يرونه أخطاء بالوقوف عند مرحلة ووظيفة الضابط، ولا يقوم الباقي بوظيفته؟

هذا سؤال لأنظمتنا المتخلفة وللأنظمة التي تدعي التقدم في العالم كله، فالنظام الأمريكي برئيسه ومؤسساته (مثلا) لم يشعر بالخجل من العفو عن قتلة محترفين، طالما أن جرائمهم "اليسيرة" كانت ضمن مهام عمل للنظام (ماكينة القتل المركزية)، مقابل "قاتلة فردية" تعرضت هي نفسها للقتل الاجتماعي المسبق من جانب نظام يقدم نفسه للعالم في صورة طائر الكوندور القوي الذي يحلق عالياً في السماء ويرى الصورة من عليائه، ويستطيع أن يتعرف على ماركة الملابس الداخلية لمعارضيه في أطراف الأرض. لكن يبدو أن النسر الذي يتفاخر بأقماره الصناعية وبرامجه التجسسية وسطوته على العالم، لا يرى إلا الفرائس، أما في المساحات الإنسانية ومشاكل البيوت وحياة الناس، فإن الكوندور يتحول إلى ثعبان زاحف كل مهمته الحفاظ على كنز الذهب الذي تدور حوله الأسطورة الأمريكية، وبالطبع فإن مهمة الحفاظ على الكنز تستوجب سرعة توجيه اللدغات المميتة لكل من يتجرأ على الاقتراب من الأماكن المحظورة.

سنواصل الحكايات، فالأسطورة الأمريكية ثرية ومسلية ومليئة بالمواعظ والدروس.

* عقيدة أدافع عنها:

الشعوب مهما ضلت.. ضحايا لحكامها.

tamahi@hotmail.com