كتاب عربي 21

رحم الله جلبار نقاش

1300x600
فقدت تونس خلال عام 2020 عددا واسعا من أبنائها الذين برزوا في مجالات متعددة، سواء بسبب إصابتهم بفيروس كورونا أو بعوامل مختلفة. آخر هؤلاء مناضل يساري سيحتفظ التاريخ باسمه هو جلبار نقاش، الذي قال عنه الرئيس قيس سعيد "عاش ثابتا مؤمنا بالثورة ومات وهو مؤمن بها أيضا".

عندما شاع الخبر تأثرت معظم الأطراف بوفاته، وشهد الكثيرون بوطنيته ونضاله وعلو أخلاقه، رغم أن الجيل الجديد من الشباب لا يعرفه ويجهل أنه كان من الذين واجهوا النظام منذ ستينيات القرن الماضي. فهؤلاء ذاكرتهم التاريخية ضعيفة، لقد مسح نظام ابن علي الكثير من الزوايا والشخوص، ثم جاءت السنوات العشر الأخيرة لتزيد من طمسها أو بالأحرى بعثرتها.

كان شابا تونسيا من أصول يهودية، تأثر بالفكر الماركسي، وانخرط في حركة اليسار الجديد، فتصدى مع رفاقه لهيمنة الحزب الدستوري على الدولة والمجتمع، ورفض زعامة بورقيبة والحكم الفردي. تعرض للتعذيب عندما كان الباجي قايد السبسي وزيرا للداخلية، وجدد اتهامه له عندما قدم شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة بعد أن أصبح السبسي رئيسا للجمهورية. تم نقل الشهادة مباشرة عبر التلفزيون، واكتفى الرئيس بنفي علمه بممارسة التعذيب أثناء تحمله المسؤولية. حصل ذلك بفضل الثورة. 

سُجن مثل العشرات من أبناء جيله، ومن داخل زنزانته أرّخ لتجربته السجنية، وخوفا من أن يكتشف الحراس مذكراته ويقوموا بمصادرتها، نجح في تسجيل يومياته على أغلفة السجائر التي يتسلمها من عائلته في كل زيارة. لهذا السبب صدر كتابه بعد مغادرته السجن تحت عنوان "كريستال"، وهو نوع السجائر المفضل لديه. في هذا الكتاب قدم شهادة صادقة وعميقة عن عالم السجون، ففضح من خلالها جزءا من المنظومة القمعية التي تم إرساؤها بعد الاستقلال مباشرة.

لم يكن يساريا جامدا أو سلفيا مقيدا بنصوص النظرية الماركسية، لهذا لم يتردد (كما فعل الكثيرون) في القيام بمراجعات أخضع من خلالها النظرية وممارسات فصائل اليسار للنقد والتصحيح، وهو ما جعل جزءا من رفاقه يوجهون إليه انتقادات لاذعة.

لعل بعض تلك المراجعات جعلته أقل توترا في فهمه لصعود الحركة الإسلامية في بلد مثل تونس، وجعلت علاقته بالإسلاميين مختلفة مقارنة بغيره من اليساريين. وهو ما دفع بحركة النهضة إلى أن تصدر بيانا اعتبرت فيه الفقيد "أحد أهم مناضلي الحريات وحقوق الإنسان على مدى عقود، وشخصية وطنية كان لها السبق في مواجهـة الاستبداد".

وخلافا لأولئك الذين اعتبروا أن الترحم على جلبار أمر غير جائز دينيا بحجة أصوله اليهودية، دعت النهضة أن "يتغمده الله برحمته الواسعة وأن يسكنه فسيح جنانه". إنه تعامل مغاير مع المختلف، وتغليب المشترك بين كل التونسيين بقطع النظر عن اختلاف أصولهم ومواقفهم الفلسفية والسياسية. وتعتبر هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن الانتماء إلى تونس والولاء لها يعتبر الرابط الأساسي والموحد للجميع. لهذا، رغم أنه يحمل الجنسية الفرنسية، أوصى بأن يدفن في بلاده تونس؛ وصية حققها له قيس سعيد عندما طلب من السفير التونسي بباريس أن يعمل على تسهيل نقل جثمان الفقيد ليدفن في التربة التي ولد فيها، وأحبها كثيرا.

كما كان جلبار مناهضا استثنائيا للصهيونية ونصيرا صادقا للقضية الفلسطينية. تغيرت مواقف الكثيرين، وطرأ على المشهد متغيرات عديدة، لكنه بقي ثابتا على موقفه، رافضا الإقرار بشرعية ما حصلت عليه الحركة الصهيوينة من أرض بناء على تفوقها العسكري، واستنادا على منطق القوة والظلم.

هذا الموقف يذكرني بما كان عليه المناضل التونسي الوطني "جورج عدة" الذي اشترك في النضال الوطني، وبقي في صفوف الحزب الشيوعي إلى آخر يوم في حياته. حدثني عن منظمة عالمية أسسها مع شخصيات أخرى يهودية من جنسيات متعددة، هؤلاء يعتقدون بأن إسرائيل محكوم عليها بالانهيار والزوال. وله تحليل قائم على رؤية استشرافية متكاملة، وبقي يدعو طيلة حياته إلى مقاطعة إسرائيل وعدم الاعتراف بها؛ ليس من منطلق ديني، فهو لم يكن متدينا، وإنما بناء على تحليل عميق لطبيعة الصراع، ولمجمل المخاطر التي تحدق باليهود، وهو ما أكسبه احترام الكثيرين ممن عرفوه، كما هو الشأن اليوم بالنسبة لجلبار نقاش.

الناس معادن، والفقيد معدنه ثمين، دعا إلى المصالحة الوطنية في مفهومها الحقيقي، ورفض الاستمرار في خوض معارك أيديولوجية لا طائل من ورائها. كما رفض الانخراط في صراعات من شأنها أن تضعف الانتقال الديمقراطي، دون أن يتخلى عن مبادئه، أو يميّع خلافاته مع الإسلاميين وغيرهم. ما كان يقلقه ويحز في نفسه أن يرى البلاد تتجه نحو المجهول.