كتاب عربي 21

الإسلاميون والتطبيع ومنطق الدولة الوطنية

1300x600

أثار قرار استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل غضباً بين عناصر داخل حزب "العدالة والتنمية"، الذي يرفض منذ تأسيسه أي تطبيع مع إسرائيل. فعقب توقيع زعيمه الذي يترأس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، على الإعلان المشترك مع إسرائيل، طالب أعضاء من حزب "العدالة والتنمية" العثماني بالاستقالة، لكن الحزب سرعان ما أكد دعمه لأمينه العام ورئيس الحكومة عقب اجتماع استثنائي لأمانته العامة، كما أكد على أهمية الالتفاف وراء العاهل المغربي في الخطوات التي اتخذها في مجال تعزيز سيادة المغرب على الصحراء، وعلى المواقف الثابتة للبلاد في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

إن الجدل الذي أثاره موقف حزب العدالة والتنمية المغربي من التطبيع مع إسرائيل، يشير إلى التنوع الكبير الذي تنطوي عليه الإسلاموية وما بعدها في أيديولوجياتها وممارساتها، والتي تمتد إلى طيف واسع من الحركات الجهادية والدعوية والسياسية. وتتنوع وتتعدد التيارات داخل هذه الحركات نفسها، كما هو واضح عند جماعة الإخوان المسلمين، بوجود تيارات واتجاهات من المحافظين المتشددين والبراغماتيين إلى الإصلاحيين الدينيين والسياسيين، وهو ما يعزز "وجهة النظر السياقية" في دراسة الحركات الإسلاموية، والتي تعتقد بأن سياسات وممارسات الأحزاب السياسية لا تقودها الأيديولوجية بقدر ما تقودها الأحداث، إذ تعمل هذه الجماعات في سياقات سياسية محددة، وتقوم بردود فعل وتميل إلى التكيّف. ففي حال انسداد الأفق السياسي وتنامي قمع النظام، ينشط التطرف على هامش الحركة، وفي حال انفتاح النظام تدخل الحركة معترك اللعبة الانتخابية.

الجدل الذي أثاره موقف حزب العدالة والتنمية المغربي من التطبيع مع إسرائيل، يشير إلى التنوع الكبير الذي تنطوي عليه الإسلاموية وما بعدها في أيديولوجياتها وممارساتها، والتي تمتد إلى طيف واسع من الحركات الجهادية والدعوية والسياسية. وتتنوع وتتعدد التيارات داخل هذه الحركات نفسها

ورغم قوة النظرية السياقية كما هي حالة العدالة والتنمية، فإن "وجهة النظر الجوهرانية" لا تزال شائعة وأكثر انتشاراً، وهي نظرية ترى أن الإسلاميين هم في الأساس أيديولوجيون، وأن أي تنازلات يقدمونها للمبادئ أو المؤسسات العلمانية هي تحركات تكتيكية بحتة. لكن موقف العدالة والتنمية المغربي ومن قبله العدالة والتنمية التركي، وكذلك حزب النهضة التونسي وكافة الأحزاب الإسلامية، تشير إلى قوة منطق الاندماج في السياسة القومية.

فقد أصبحت الحركات الإسلامية حسب أوليفيه روا حركات "إسلامية- قومية"، تعي أن من الضروري إعادة صياغة أيديولوجيتها، بما يسمح لها بخوض اللعبة السياسية من بابها الواسع، ما لم توصده الأنظمة الدكتاتورية"، لكنها تختلف في المدى الذي يجب الذهاب إليه في التماهي مع منطق الدولة القومية مع الحفاظ على المنظومة الأخلاقية الإسلامية. فالاختلافات الدقيقة بين المحافظين والإصلاحيين والراديكاليين داخل الحركات الإسلامية، تشير إلى الأوجه المتعددة للإسلاموية، وتكشف عن قدراتها على تجاوز أكثر القضايا الإشكالية في أيديولوجيتها السياسية المتعلقة بمناهضة الإمبريالية الغربية والحركة الصهيونية، وهي من المسائل الحساسة التي طالما شكلت عقدة في علاقة الحكومات الغربية والعربية مع الحركات الإسلامية.

إن موقف العدالة والتنمية المغربي بالانحياز إلى بنية الدولة الوطنية، يؤكد على سياقية ظاهرة الإسلاموية، وتكيّفها مع المنطق الوطني. فجماعة الإخوان المسلمين التي تعد أهم حركة اجتماعية دينية محافظية ممثلة للإسلاموية في العالم الإسلامي، والتي من رحمها تشكّلت معظم الحركات الإسلامية السياسية، تعاقبت عليها أطوار حادة، وشهدت تحولات عميقة.

موقف العدالة والتنمية المغربي بالانحياز إلى بنية الدولة الوطنية، يؤكد على سياقية ظاهرة الإسلاموية، وتكيّفها مع المنطق الوطني

فقد ارتكزت اهتمامات الجماعة في بداياتها بالحفاظ على هوية المجتمعات الإسلامية؛ حيث نشأت الإسلاموية بداية كرد فعل على الاجتياح الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي، وعلى نشوء الحركة الصهيونية ومشروعها بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وكرد فعل على صدمة سقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية). وقد تطورت الإسلاموية لاحقاً كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة القومية ما بعد الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانوية)، بحيث أصبحت أهداف وغايات الإسلاموية تتحدد بمناهضة الإمبريالية والصهيونية، واستعادة "الخلافة" كرمز يعبر عن الهوية السياسية الدينية الإسلامية، وعن النضال من أجل قيام "الدولة الإسلامية" عبر استخدام وسائل وآليات "دولتية" إصلاحية سلمية تفضي في النهاية إلى أسلمة الدولة الوطنية المابعد كولونيالية، التي ورثت قيم ومؤسسات الدولة التي أنشأتها الكولونيالية في المنطقة بالتعاون مع مجموعة من النخب المحلية.

ينبغي التيقظ دوماً إلى أهمية الممارسات والتأويلات المجسدة داخل التقليد الخطابي للإسلاموية، ذلك أن قبول الإسلاموية وما بعدها استخدام المصطلحات السياسية الليبرالية الحداثية واستدخالها يتم بعد تطويعها لتتوافق مع المعجم الديني الإسلامي التقليدي. فمصطلح الدولة المدنية، على سبيل المثال، يعاد تأويله ليتطابق مع مصطلحات دينية تقليدية، دون مراعاة خصوصية الحقل الدلالي للمصطلح، ومجاله التداولي. فالأدلجة السياسية للإسلام تستند إلى تفسيره على أنه "عقيدة سياسية"، باعتبار الإسلام نظاما شاملل للأفكار من أجل العمل الاجتماعي والسياسي. فالأصول النظرية للإسلاموية تقوم على الاعتقاد بأن الإسلام "نظام شامل ومتكامل" يعالج جميع جوانب الحياة الدنيا والآخرة، والذي يجب أن يحكم كل أمور الحياة، ولا يقتصر على مسائل التقوى الشخصية، بل يجب أن يتجسد من خلال العمل الاجتماعي والسياسي المباشر باعتباره الأساس الأيديولوجي للدولة والمجتمع.

ما نشهده اليوم من مواقف الحركات الإسلامية السياسية المختلفة يعبر عن طبيعتها السياقية، فالأحزاب الإسلامية التي شكّلت مفهوم "ما بعد الإسلاموية"، كما يعرّفها آصف بيات باعتبارها "مشروعا" وليست "حالة"، جاءت بعد مرحلة من التجربة حيث وقع استنفاد جاذبية الإسلاموية، وطاقتها، ورموزها وشرعيتها حتى بين مؤيديها الذين كانوا متحمّسين لها في السّابق. فما بعد الإسلاموية تقوم على محاولة واعية لوضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق لتجاوز الإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية. ومرحلة ما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلام ولا هي علمانية، فهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأساً على عقب بواسطة التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، وعلى التعددية في مجال الصوت الفردي السلطوي، وعلى التاريخية بدلاً من الكتاب المقدس الثابت، وعلى المستقبل بدلاً من الماضي. ففي حين يُعرّف "الإسلام السياسي" بدمج الدين والمسؤولية، فإن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" تؤكد على التدين والحقوق. فحالة "ما بعد الإسلام السياسي" قد تجد ما تعبر عنها في الممارسات الاجتماعية المختلفة، والأفكار السياسية، والفكر الديني.

موقف العدالة والتنمية المغربي يكشف عن تهافت منطق أطروحة أسلمة الدولة الوطنية، فهي لا تعدو عن كونها فكرة طوباوية، تستثمرها الأنظمة الوطنية العربية داخلياً، وتضخمها للتهرب من استحقاقات الإصلاح والتحول الديمقراطي، وتوظف نظرية الأسلمة خارجياً لتبرير التوجهات السلطوية

إن موقف العدالة والتنمية المغربي يكشف عن تهافت منطق أطروحة أسلمة الدولة الوطنية، فهي لا تعدو عن كونها فكرة طوباوية، تستثمرها الأنظمة الوطنية العربية داخلياً، وتضخمها للتهرب من استحقاقات الإصلاح والتحول الديمقراطي، وتوظف نظرية الأسلمة خارجياً لتبرير التوجهات السلطوية، ولدغدغة المشاعر الغربية في ظل تنامي الأحزاب اليمينية والشعبوية وبروز ظاهرة "الإسلاموفوبيا".

فتصوير جماعة الإخوان على أنها متشوفة للسلطة وقادرة على الاستيلاء عليها وفرض نسختها من الشريعة على المواطنين غير الراغبين، إنما يشكل صورة كاريكاتورية تبالغ في تضخيم سمات مخصوصة للإخوان في حين تتجاهل أخرى، وتقلل من مدى التغير الذي مرت به الجماعة بمرور الوقت حسب كاري ويكهام؛ فجماعة الإخوان المسلمين مثلاً هي حركة إصلاحية محافظة تعمل في إطار دولة وطنية ذات سلطة بيروقراطية تسود المجتمع عبر توسيعها قدراتها على تنسيق البنى التحتية، بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل امتداداً لسلطتها.

ولا تخرج الأحزاب الإسلامية عن كونها حركة دولتية، بدأت نشاطها كجمعية إحيائية دينية ترتكز على العمل الاجتماعي للحفاظ على الهوية الإسلامية، ودمجت لاحقاً بين العمل الاجتماعي في إطار الجماعة، والعمل السياسي من خلال تأسيس حزب سياسي، لكنها في جميع أطوارها كانت تتوافر على رؤية تقوم على الاعتقاد بشمول وتكامل الإسلام وصلاحيته في كل زمان، دون إمكانية لتصور الفصل بين الديني والسياسي.

ومع ذلك؛ فالأحزاب الإسلامية تستند في وجودها إلى الشرعية القانونية التي حصلت عليها من الدولة، وتمارس كافة أنشطتها الاجتماعية والسياسية في إطار السلطة السيادية القانونية للدولة القومية. إذ لا تتدخل الدولة مباشرة في الجسم الاجتماعي من أجل الإصلاح فحسب، كما يؤكد طلال أسد؛ "بل إن النشاط الاجتماعي برمته يتطلب الموافقة القانونية، وبالتالي موافقة الدولة- الأمة. والطريقة التي جرت فيها تحديد المساحات الاجتماعية وتنظيمها وإدارتها؛ تجعل منها كلها سياسية. هكذا فإن محاولة الناشطين الإسلاميين تحسين الظروف الاجتماعية، مثلاً من خلال إنشاء المستوصفات والمدارس في المناطق المحرومة، لا بد من أن تجازف بإثارة تهمة عدم الشرعية السياسية، وأن تصنف كإسلاموية".

خلاصة القول أن موقف العدالة والتنمية ومناهضيه من الإسلاميين من التطبيع مع إسرائيل يجسد حالة ومشروع الإسلام السياسي، وهو موقف لا يخرج عن المواقف التاريخية التي مارستها قوى وفعاليات وتوجهات وشخصيات مسلمة داخل دار الإسلام تجاه السلطة المتغلبة الحاكمة، والتي ظهرت مع الاجتياحات الكبرى للعالم الإسلامي، كما حدث إبان الاجتياح المغولي في العصور الوسطى والاجتياح الإمبريالي الكولونيالي الغربي في العصر الحديث.

فالأيديولوجية لا تنفصل عن البراغماتية، والتأويلات لا تنفصل عن الخطابات، ولذلك يجب الكف عن النظر إلى الإسلاميين باعتبارهم كائنات جوهرانية، وتجاوز التعامل مع الإسلامية خارج المنظورات السياقية، إذ تحتمل الإسلاموية مواقف وممارسات وتأويلات مجسدة واسعة ومتناقضة، من التطبيع وموالاة الاستعمار إلى المقاومة ومناهضة الإمبريالية.

twitter.com/hasanabuhanya