قضايا وآراء

شكيب أرسلان.. ما أقسى الذكرى

1300x600
ما أقسى أن نتذكر "أبا غالب" في هذه الحقبة البائسة التي تمر بها أرض الإسلام.. وما أشد قسوتها من ذكرى ولبنان هذه الأيام يتمزق كل ممزق على يد أبنائه الذين توازعتهم شتى النوازع، إلا النزوع إلى وطن واحد وراية واحدة ومصالح واحدة..

إنه شكيب أرسلان الدرزي الذي كان يعبد الله على مذهب أهل السنة رغم اعتزازه بنسبه الدرزي، والذي ولد في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1869 في بيت عربي عريق من بيوتات لبنان. فالأب كان عميد العائلة الأرسلانية في الشويفات، تلقى تعليمه الأول في بلدته ثم انتقل إلى بيروت والتحق بمدرسة "الحكمة" المارونية، وتخرج فيها عام 1886م، ثم التحق بالمدرسة السلطانية.

في تلك الفترة كانت بيروت تحتفي بضيف كبير منفيا من بلاده، مصر، لاشتراكه في أهم ثوراتها (الثورة العرابية)، وهو الشيخ الإمام محمد عبده (1849- 1905م)، فيلازمه شكيب أرسلان ويرتبط به ارتباطا نفسيا وفكريا كبيرا. وكانت تلك الصحبة بحق مفتاح حياته، بل من الممكن أن نقول إن هذا الارتباط كان من العمق والقوة إلى حد التشكيل الكامل لأهدافه وغاياته في هذه الحياة.. سبق هذا اللقاء الفارق لقاء آخر مع لبناني آخر، لا يقل في روعته وقيمته وعظمته، إنه ابن قرية قلمون بطرابلس "رشيد رضا" (1865- 1935م) والذي ذهب إلى مصر عام 1898م وطرق باب بيت الإمام قائلا له: "أريد أن أكون منك مثل ما كنت أنت من جمال الدين".. وقد كان.

* * *

حين عاد الشيخ الإمام إلى مصر كان شكيب أرسلان في أثره.. وقدمه الشيخ إلى أعلام ورواد النهضة في مصر وقتها: سعد زغلول، وعلي يوسف، وأحمد زكي، وحفني ناصف، والأمير عمر طوسون، ورشيد رضا التلميذ النجيب لمحمد عبده كما أشرنا، والتقى الاثنان على حب الرجل وسيصبحان من أكثر الأصدقاء وفاء لصحبتهما ولصحبة أستاذهما. حكى "الأمير" عن هذه الصحبة في كتابه الممتع "السيد رشيد رضا وإخاء أربعين عاما". كان صاحبنا من أهل الوفاء ويعرف للصداقة الحقة قدرها، وسنجده يكتب أيضا كتابا من أمتع ما يُقرأ في الصداقة والحب والوفاء "شوقي وصداقة أربعين عاما"، ويقال إنه كان أول من لقب شوقي بلقب أمير الشعراء.

عام 1892م التقى في الأستانة بجمال الدين الأفغاني (1838- 1897م) وقص عليه قصص مصر وأخبارها بعد أن انقطعت بسائر الشرق الكبير السبل عنها، وصارحه بما في خلده عن الشرق والإسلام وموقف الاستعمار والتبشير.. ثم عاد إلى لبنان بعد وفاة والده عام 1902م ليشغل منصبه "مدير منطقة الشوف" ويعين نائباً في مجلس المبعوثين العثماني (المجلس الذي يضم ممثلي الولايات التركية في القرن التاسع عشر).

في تلك الفترة عين مفتشاً لجمعيه الهلال العثماني، وسافر من خلالها إلى ليبيا عند تعرضها للغزو الإيطالي، وقال جملته التي يعز علينا ذكرها في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها ليبيا: "إن لم ندافع عن صحارى ليبيا، فلن نستطيع الحفاظ على جنان الشام"..

طوال هذه الفترة وحتى قيام الحرب العالمية الأولى كان دائم التنقل من تركيا إلى الشام، وكان منخرطاً في المسألة الطائفية في لبنان ممثلا لعشيرته (الدروز) التي كان يرى لها ضرورة الذوبان في المحيط الإسلامي الأوسع، ذلك أن نظام "المتصرف" الذي أقرته الدول الست الكبرى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وإيطاليا وتركيا) في لبنان بعد الحرب الأهلية عام 1860م، كان طبيعيا أن يكون لصالح الطائفة المارونية، فقام بدور كبير لإقناع الثوار الدروز بالرجوع إلى طاعة الدولة العثمانية وتحقيق نظريه "الذوبان الاستراتيجي" في المحيط الإسلامي.

* * *

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استقر به المقام في ألمانيا رئيسا للنادي الشرقي الذي أسسه عام 1918م، وكان أكثر نشاطه في هذه الفترة حول إصلاح الخلافة العثمانية وتحرير الأوطان الإسلامية، فدافع عن الخلافة وفكرتها الجامعة لشمل الأمة، وتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد (1842- 1918م)، ووقف في وجه العرب الداعين إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، واتهم بذلك اتهامات كثيرة. وفي عام 1923م حين ألغيت الخلافة أعلن بيانا للأمة العربية يقدم فيه رؤيته للمستقبل بعد هذه الفجيعة الكبرى، ويقال إن ما اقترحه في هذا البيان كان هو الأب الشرعي لميثاق جامعة الدول العربية التي قامت عام 1945م.

يذكر أنه قام أيضا في هذا العام (1923م) برحلتين مهمتين: الأولى إلى أمريكا، وتواصل فيها بقوة مع عرب المهجر، والثانية: إلى الحجاز حاجاً إلى بيت الله الحرام، وكتب خواطره عن هذه الرحلة المقدسة في كتابه الجميل: "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف".

سيذهب إلى إسبانيا عام 1930م ليطالع آثار 800 عام، وليرى رأى العين أطلال الحضارة التي فنيت وانقضت فكتب "الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية". عام 1934م اختير ضمن الوفد الذي شكله المؤتمر الإسلامي في القدس للتوسط بين عبد العزيز بن سعود عاهل السعودية وقتها والإمام يحيى عاهل اليمن. وفي عام 1935م ترأس المؤتمر الإسلامي الأوروبي الذي عقد في جنيف. وفي عام 1938م اختير رئيساً للمجمع العلمي العربي في دمشق..

وفي 9 كانون الأول/ ديسمبر 1946 يفجع العالم العربي والإسلامي بموت أحد أهم ركائز وأعمدة نهضته المنشودة.

* * *

كان السيد شكيب أرسلان يرى أن تردي العالم الإسلامي وتأخره راجع إلى سيطرة تيارين أحلاهما مر: الجامدين والجاحدين.. الجامدون: هم المتمسكون بحرفية التراث، والجاحدون: هم الذين يديرون ظهورهم إلى التراث، إضافة إلى الواقع المزري المتمثل في الشقاق والخلاف بين المسلمين، فيقول: "إني لأجد هذا الشقاق في كل أمة ولا يخلو منه مكان، وقد وقع بين الصليبيين أنفسهم، ولكن إن كان الشقاق عاماً فلا شك في أن "تسعة أعشاره" عند المسلمين، و"العُشر" الباقي عند سائر الأمم بأجمعها، وإن فسح لي الوقت لأكتبنّ كتابا وأسميه: الفوضى الإسلامية وما جنته على المسلمين".

وقد وفى الرجل بعهده، فكتب كتابه الأشهر والذي ما زال يُقرأ إلى الآن قراءة مرجعية لدى كل الأجيال "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟". وكان وقتها قد أتم السبعين من عمره، وأشار فيه إلى أن سبب تأخر المسلمين هو: الجهل، والعلم الناقص، وفساد الأخلاق، وتشجيع العلماء الفاسدين، وسكوتهم على الضلال والطغيان.. فيقول: "هذا والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء وعلو مناصبهم، يظنون فتاواهم صحيحة وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر والعدو يعلو ويتنمر". استحق الرجل بالفعل أن يلقب بأمير البيان، وهو اللقب الذي أطلقه عليه صديقه الحميم رشيد رضا، ويقال إن شاعر القطرين "خليل مطران" (1872- 1949م) لقبه أيضا بـ"إمام المترسلين".

سيبقى أن نعرف أن السيد شكيب أرسلان هو جد السياسي اللبناني الشهير السيد وليد جنبلاط (71 عاما)، فأمه هي السيدة مي أرسلان والتي تزوجت من المفكر والسياسي والزعيم العروبي الكبير كمال جنبلاط (1917- 1977م).

ألم أقل لكم ما أقسى الذكرى!

twitter.com/helhamamy