كتاب عربي 21

الجيش إذا غادر الثكنات لن يعود إليها

1300x600
يتواصل الجدل في تونس حول احتمال تدخل الجيش في ظل الأزمة الراهنة. لقد تعددت الأصوات المنادية باللجوء إلى المؤسسة العسكرية، عسى أن تضع حدا لحالة الانفلات المستمرة منذ أسابيع في معظم مناطق البلاد. وقد أثار ذلك المخاوف على التجربة الديمقراطية الهشة التي لا تزال في بداية طريقها. هل تؤشر هذه الدعوات على نهاية التجربة واقتراب أجلها والعودة من جديد إلى أسلوب القبضة الحديدية، أم أن هذه الأصوات لا تعكس التيار العام، بقدر ما تعبر عن مجموعة محدودة وبعيدة عن مطابخ صنع القرار في تونس؟
 
تجارب الانتقال السياسي صعبة، وهو ما أثبته تاريخ الثورات، لهذا فشل الكثير منها وسقط بعد سنوات قليلة من قيامها. يعود الفشل إلى عوامل عديدة ليس هنا مجال استعراضها، لكن من بين هذه العوامل نفاد صبر النخبة الديمقراطية في وقت مبكر وانتقال الإحساس إليها بأن الطريق مسدود، وأن الأخطار أكبر من الإمكانيات المتوفرة للإصلاح، وأن مصلحة البلد أو الشعب تقتضي التراجع إلى الخلف والاستنجاد بمن يملك القوة لتحقيق السيطرة وفرض الغلبة والاستقرار.
 
اللافت للنظر في الحالة التونسية أن بعض الأصوات الديمقراطية التي أسهمت قبل الثورة أو بعدها في الدفاع عنها قد تسرب إليها الشعور باليأس في إمكانية إنقاذ التجربة المتعثرة، وبدل أن تصمد وتبتكر حلولا جديدا لتجاوز المأزق الجماعي، انتكست إلى الخلف، وأصبحت تدعو إلى مراجعة المسار ودعوة التونسيين إلى التوقف والقبول بنوع من الاستبداد المقنع.
 
تمكن في هذا السياق الإشارة إلى بعض الأمثلة..
 
محمد عبو، شخصية محترمة، وقفت في وجه الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ومر بمحنة السجن، وأسس حزب التيار الديمقراطي، وأصبح وزيرا في حكومة الفخفاخ قبل أن يستقيل من الحزب، وقد دعا في تصريح لافت وصادم إلى "نشر قوات الجيش بطلب من القائد الأعلى للقوات المسلحة (يقصد رئيس الجمهورية) في المدن وكافة مناطق الإنتاج، واستنفار قوات الأمن لحفظ النظام ومكافحة الجريمة، وتطبيق القوانين بصرامة مع التوصية الشديدة باحترام حقوق المواطنين وحرمتهم". كما طالب بتطبيق الأمر رقم 50 لسنة 1978 الخاص بـ"وضع السياسيين الذين توفرت في شأنهم معطيات كافية عن فساد واستقواء بالسلطة لحماية أنفسهم أو علاقات تمويل من الخارج؛ تحت الإقامة الجبرية، باعتبارهم يشكلون خطرا على الاستقرار اليوم، والفوضى ستكون وسيلتهم للإفلات من المحاسبة". ومن بين السياسيين المعنيين من وجهة نظره كوادر نهضوية ومن حزب قلب تونس. وفي حال عدم قيام القضاة بواجباتهم "سيقع الرد عليه.. بمراسيم يتفق رئيس الدولة عليها مع رئيس الحكومة بعد حل البرلمان". وختم بيانه بقوله: "إن فشل هذا الحل، فمرحى بكل حل آخر وإن كانت له تكلفة كبرى".. قول مفتوح على جميع السيناريوهات الخطيرة مثل الفوضى والحرب الأهلية أو الانقلاب العسكري.
 
أما أستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد، الذي سبق له خلال الساعات الأولى من فرار ابن علي أن حذر من وجود ثغرة دستورية لم ينتبه لها الآخرون، والتي بفضلها تم قطع الطريق أمام احتمال عودة الرئيس المخلوع، فاجأ الجميع بقوله إن تونس ليست مؤهلة لتحقيق الديمقراطية.
 
صحيح أن الوضع دقيق وخطير، لكن مواجهته لا تكون من خلال المجازفة والدفع بالبلاد نحو المغامرة. النخبة الديمقراطية التي أربكتها صعوبات الانتقال الديمقراطي ودفعت ببعض عناصرها نحو اليأس والشعور بالإحباط ليس من حقها أن تثير الرعب في صفوف المواطنين، وأن تدفع بهم نحو المحرقة، وأن تجعل منهم لقمة سائغة لاستبداد قادم. هذه الشريحة من النخبة قد تكون أول من يتم توظيفها أو استغلال تصريحاتها من قبل خصوم الثورة والحرية وحقوق الإنسان والشعوب من أجل هدم البيت فوق رؤوس الجميع.
 
الجيش التونسي ليس جيشا مغامرا، وعندما دعي في بداية الثورة إلى التدخل وقيادة البلد، رفضت قياداته ذلك العرض المسموم، وطالبت السياسيين بتحمل مسؤولية القيادة، وتمسكت بأن يبقى دور المؤسسة العسكرية هو الدفاع عن سيادة تونس وعن نظامها الجمهوري.
 
الوضع الراهن صعب، والطبقة السياسية بجمع طوائفها كشفت عن ضعف كبير وعن خيال ضحل، مما جعل أستاذ القانون الدستوري سليم الغماني يعتبر أن البلاد أمام حلين فقط: "إما حلّ الحوار والبحث عن التوافق أو القوّة"، ويرى أنّ الوصول إلى اتفاق عبر الحوار هوّ أفضل الحلول وأسلمها لأنّ الحلول الأخرى قد تؤدي إلى العنف.
 
كما أن ما جاء على لسان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي صحيح إلى حد كبير، عندما قال "وقفنا على حافة الهاوية أكثر من مرة ولن نسقط في الخطأ باذن الله". لكن العبرة ليست بالنوايا الطيبة، وإنما بتحمل المسؤولية، ومراجعة المنهج وأساليب العمل، والتمسك الفعلي بجعل مصلحة تونس فوق المناورات السياسية والحسابات الضيقة، لأن الجيش في كل البلدان العربية الأخرى إذا غادر ثكناته لن يعود إليها بسهولة.