أخبار ثقافية

كيف يتبخر الإنسان؟!

اشتغل فلاسفة الغرب في طبيعة الإنسان ووعيه المعرفي- جيتي

نعيش اليوم وفق معطيات حديثة تقدم لنا الإنسان بصورة تجريدية حيث يتم إعادة تعريف هذا الإنسان وتتجدد معرفته بذاته في مجالات نفسية واجتماعية وثقافية متعددة.

 

يعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أبرز من اشتغل في هذا الحيز الذي تبلورت معالمه مع القرن التاسع عشر بعد أن حول الإنسان نفسه إلى موضوع معرفي وأنشأ العلوم الإنسانية المختلفة.

 

انشغل فوكو في تفكيك فكرة الذات الإنسانية وتاريخ انشغال الإنسان بنفسه وتطويره فكرة الفرد وسيادته في العصر الحديث.

وبينما حفر فوكو في التاريخ الأوروبي والمسيحي، وفي مقابل تصوراته عن الذات الإنسانية، قدم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن تصورات بنيوية ترسم للإنسان وعلاقته بنفسه صورة تشكلت عبر تأملات خالصة في التراث الإسلامي.

 

تمثل هذه النظرة الائتمانية تحد حقيقي لما يتم التنظير له حاليا حول الإنسان الحديث حيث أنها، كما يؤكد الدكتور عصام عيدو "قامت بتشريح الذات/النفس الإنسانية وطبقاتها المعقدة، وتوسيع دائرة الوجود الإنساني إلى دائرة اللامرئي وجعل الروح ركناً أساسيا لفهم تعقيدات النفس".

يتناول الدكتور عصام عيدو، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة فندربلت، في بحث نشر مؤخرا تحت عنوان "الاعتراف في المجال العام" كل من فلسفة فوكو وطه عبد الرحمن، ويعقد مقارنة نكشف عن مآلات كل من الخطابين وفروق جوهرية تصنع فارقا في منهجية تعاملنا مع ذواتنا.

 

تقدم لنا هذه المقاربة الإنسان بفرضيات حديثة تعلن موته أو تبخره وأخرى ذو أصول عريقة تعيد له الذاكرة والحياة.

اشتغل فلاسفة الغرب في طبيعة الإنسان ووعيه المعرفي ومع القرن السابع عشر برزت مقولة الكوجيتو الديكارتي حيث تكون الذات الحقيقة والمنطلق لفهم العالم وإثبات وجوده.

 

ورغم هذا الإدراك للذات الواعية، إلا أنها لم تكن منفكة عن إثبات جوهر ما غير معلوم ولا مدرك عقليا يخضع له الإنسان دون وعي منه.

 

تعامل فلاسفة القرن التاسع عشر بريبة مع هذا الجوهر ذو الطبيعة الميتافيزيقية ومع إعلان نيتشه لموت الإله تمت القطيعة مع العالم اللامرئي كمصدر للمعرفة ليبدأ الإنسان الغربي رحلته في اكتشاف نفسه بنفسه.

 

كانت هذه رغبة أكد عليها ميشيل فوكو بعد إعلانه موت الإنسان وتبخره وتبشيره بتشكل معالم الإنسان الأعلى كما تصوره نيتشه، الإنسان الذي سيمثل الصفات الإلهية على الأرض ويكون سيدا لأول مرة على نفسه.

خرج فوكو بهذه النتيجة بعد تركيز نقده على ظاهرة القمع التي تسربت من الفكر اليوناني مرورا بالمسيحية وصولا للعصر الحديث حيث اتخذت هذه السلطة شكلا أيديولوجيا مغروسا في لا وعي المجتمع الغربي.

 

ورغم القطيعة المعرفية مع مصادر القمع القديمة التي حاول التنظير لها، إلا أن فوكو يرى المعرفة لا تنفك عن أن تكون أداة للسلطة يشارك بها الجماعات والأفراد.

 

في هذا الفهم الحديث للسلطة يوسع فوكو من دائرة القمع كما يؤكد الدكتور عيدو ليضم الذات المجتمعية والذات الإنسانية بعد أن كانت مقتصرة على الحقيقة العليا أو الإله الأعلى.

 

ذلك يعني أن تكون الذات الإنسانية مشاركة بالقمع من خلال ثورتها على السلطة وانقلابها على نفسها فهي تظهر بشكل خفي وماكر داعية للحرية بينما قد تكون غايتها في الحقيقة استبدال سلطة قديمة بأخرى جديدة.

 

ولهذا قد يعد البعض نقد فوكو للسلطة وإعلانه موت الإنسان الأدنى وتبخره عدميا وغير مبشر حقيقة بقدوم الإنسان الأعلى المتخيل دون اثبات إمكانية تحرره حيث يظهر الإنسان المقموع مشاركا بمكر في عملية التسلط والقمع.

تقوم فكرة تبخر الإنسان التي شكلها فوكو على أساس انشغال الإنسان بذاته حيث أصبحت موضوعا للمعرفة في الوقت الذي يصطدم فيه الإنسان بمساحات لا واعية مؤكدا على وجود مساحات غير مكشوفة لديه ولكن دون خضوعها للمعرفة.

 

اقرأ أيضا: ماذا يعني أن تمنح ذاتك حسابا بمواقع التواصل؟

 

هذا الفصل بين الذات وما يتصل بها من عوالم غير مرئية يعد سببا جوهريا لتمييز الذات الإنسانية في النظرة الائتمانية التي ترى بهذا الانفصال نسيانا لحقيقة الإنسان المتصل بالعالم العلوي.

 

يرى طه عبد الرحمن في النسيان آفة الإنسان الكبرى وهو نسيان العهد الأول المشار إليه في آية الميثاق: (وإذ أخذ ربك من بني آدَمَ من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين) الأعراف: 172.

 

تعد هذه النظرة للإنسان أكثر عدلا فهي لا تنكر ذاته السفلية ولكن تربطها بالعالم العلوي فتمنحها حريتها في مقابل النظرة القاصرة للإنسان التي تقييده وتخنقه بنسيانه ونكرانه لهذه الحقيقة.

عندما نعى لنا فوكو الإنسان بعد اعترافه بقصور معرفة الإنسان بنفسه كان يأمل ولادة جديدة لإنسان غير خاضع للإله وإنما يتصف بصفاته ولكن كما يؤكد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أن الإنسان كان عليه الاصطدام بإهانة نفسانية جديدة تقول "إنّ الإنسان، الذي كان يعلم من قبل بأنه ليس سيد الكون، ولا سيد الأحياء، قد اكتشف بأّنّه ليس سيدًا حتى لنفسه".

 

هذه حقيقة تؤكد ما تؤسس له الرؤية الائتمانية والتي منذ البداية لا تنكر الإنسان الأدنى وإنما تدعوه للاعتراف بقصور ذاته وتحثه على إشغالها بخالقها لتزكيتها وبهذا يتحقق قول الآية: (قد أفلح من زكاها) الشمس:9.

 

في هذا المعنى كما يؤكد الدكتور عيدو اتساع ونمو لوجود الذات الإنسانية في مقابل خنقها وتبخرها عند ظلم الإنسان لنفسه (وقد خاب من دساها) الشمس:10. 


تفتح فلسفة طه عبد الرحمن بوابة للذات الحديثة التي هي بأمس الحاجة إلى أفق لا تصطدم بنفسها عبره وإنما تتجاوزها لتتسع في عالم النفس والروح.

 

هذا العالم الذي تعرف على ظلاله فوكو في آخر عمره بعد قيامه بتجربة حبوب هلوسات (LSD)، وصف التجربة بـ المتجاوزة وبأنها أعظم تجربة في حياته وهي ما جعلته يعيد تقييم أفكاره حول العالم الماورائي.

 

أما الفلسفة الائتمانية فهي لا تدعو الإنسان للذهاب إلى "الماوراء" والتلاشي في تجربة متجاوزة ولكنها تدعوه ليدفع قواه العقلية نحو عملية مستمرة من التذكر حتى لا ينسى الإنسان نفسه فيتبخر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) الحشر:19.