كتاب عربي 21

ياسر عرفات وصائب عريقات و"الست فتكات"

1300x600
توفي صائب عريقات، وكتب كثيرون ينعونه راثين، ويتذكرون محاسنه ولطفه وطيبته، تأسياً بأثر شهير هو: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفُّوا عن مساويهم"، وهو حديث ضعيف لكنه جليل المعنى. وكان أشهر من تذكّر طيبته وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة الفاتكة المسترجلة تسيبي ليفني، فكتبت تنعيه، وكان عنوان أحد كتب صائب الثلاثة هو "الحياة مفاوضات"، ويُخشى أن تكون المفاوضات سبباً في الحب!

صائب عريقات له ألقاب عدة منها: "كبير المفاوضين"، و"شيطان أريحا" الذي أطلقه عليه ياسر عرفات، وهو لقب فيه مدح وذم غير مقصود، ومات بكورونا وليس بالسيف والرمح. وإنَّ كتابه طريف العنوان ولا يليق بالفرسان الذين عرفناهم وشببنا على ذكرهم وشعرهم، وربما كان أنسب أن يقول "حياتي مفاوضات".

مات قائده ياسر عرفات في فرنسا مربض خيلنا، واستذكر الكتّاب العرب موت ياسر عرفات في الذكرى التي وافقت موت صائب عريقات، أو استشهاده كما يُرجّح بجرعة سمٍّ ذكي من ثعبان غير مبين. وقالوا: إنَّ الحكومة الفرنسية هي وحدها التي تحيط بأسرار موته، وأسرار حيوات زعمائنا أخفى. وما يزال الرئيس الجزائري يعالَج في ألمانيا من كورونا حسب الأخبار، وسبقهما الرئيس مبارك للعلاج في ألمانيا أيضاً من وعكة ألمّت به. فالرؤساء إن مرضوا لا يجاوز مرضهم الوعكة، كأنَّ المرض سُبَّة إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ، وهم أعلى وأجلّ من أن يمرضوا، فالآلهة لا تمرض، فكيف لو لم تكن الوعكة "عارضة" وكانت "هدفاً" بلغة كرة القدم؟

شاع خبر وانتشر أنَّ مريضاً ألمانياً ساقه الفضول إلى السؤال عن المريض المصري الذي يحفّه الحرس وتحذوه الحاشية، فقيل له إنّه الرئيس المصري، فقال: رئيسٌ حكم مصر ثلاثين سنة ولم يبنِ في بلده مشفى يطبب فيه، لعمري إنه لرئيس خائب.

وكنت أريد لياسر عرفات أن يموت في أحد مشافي رام الله مثل أبناء شعبه وبينهم قرير العين هانيها، وكان قد حوصر في المقاطعة حصاراً فرضه الجيش الإسرائيلي في فترة الانتفاضة الثانية استمر ثلاث سنوات. وعاش المحاصرون أياماً على الزبيب والشموع والرعب، ثم اقتحم العدو المقر، وكان ما تعرفون.

أحسب الرئيس عرفات أهم رئيس عربي من غير حبِّ، وإن لم يكن أبطشهم وأغناهم بالمال والسلاح والجند، مع أن منصبه في الأدبيات الغربية هو "شيرمان"، وهو يُدعى إلى المحافل الدولية الكبيرة، و"العراضات"، فالمهم ألا تعاد إليه أرضه.

وشيرمان أقل من رئيس، ضنّاً باللقب على فلسطين، وترجمتها الحرفية "رجل كرسي"، أما سبب ظني بأنه أهم رئيس عربي، فلأنه شيرمان فلسطين، وفلسطين هي الأرض التي باركنا حولها، وحولها ندندن بأرواحنا ومهجنا، وكما أنَّ فلسطين هي قضية الغرب المركزية، كذلك هي قضية المسلمين والعرب المقدسة، وكلانا - نحن المؤمنين - ينتظر في محطة الدنيا الأخيرة المسيح عليه السلام.

كنت أنتظر ياسر عرفات أبو عمار، أن يخرج من الغرفة المحاصرة لدقائق، ويقول للشبكات الإخبارية: ها أنذا خارج الآن، ومن أراد أن تثكله أمه ويُيتّم ولده، وتُرمّل زوجته، فليقتلني برصاصة، لكنه خيّب ظنّي.

ولن يجرؤ على قتله أحد، فياسر عرفات هو الختيار، وإن كانت إسرائيل هي الجوكر، ولم يكن الإسرائيليون ليمنحوه شرف قتله بالرصاص على مشهد من الناس، فعندما مات فيصل الحسيني من غير سمٍّ ولا ثعبان مبين خلت شوارع القدس من الحواجز الإسرائيلية من الذعر، لكنه خيّب أملي ومات في فرنسا على السرير مسموماً فلا نامت أعين المحاصرين. ومن شفقتي به أني غضبت من سخرية الكاتب جهاد الخازن منه، عندما نقل نكتة قيلت عنه في غير وقتها هي: يريدوني مشوياً أو مقلياً أو مسلوقاً، تصحيفاً عن قوله: يريدونني قتيلاً أو طريداً أو شهيداً، لكني كنت أسَرُّ كثيراً من سخرية أدوارد سعيد منه عندما كان يقول: أنت لا تجيد الإنكليزية، فلمَ تتكلم بها، فاحفظ كرامتك، وتكلم بلغتك حتى تُلجئ الآخرين إلى ترجمة كلامك. كذلك كنت أرجو لصائب عريقات ميتة أكرم من ميتة مشفى هداسا.

وغنيت:

هداسا يا دموع العين هداسا

تسيبي ليفني الحبيبة اليوم بتبكي

على عريقات مجروحن حساسا

وعريقات أخ من سبعة إخوة، نال درجة الماجستير من جامعة سان فرانسيسكو الحكومية بالولايات المتحدة في تخصص العلوم السياسية. وكان يوم نيلها أسعد يوم في حياته كما قال مرة، وكنت أظنه سيذكر، وهو الفطن، يوماً آخر غير ذلك اليوم. وهو أول من حاور الإسرائيليين، وهذه شجاعة، فلا بد من محاورة العدو، لكنه جعل حياته كلها مفاوضات كما تريدها "فتكات".

كنت أريد له أن يموت في رام الله، بين أهله وإخوته في أحد المستبرآت الفلسطينية، لا في مشفى هداسا الإسرائيلي، وتكون آخر كلمة يسمعها آية من القرآن الكريم. وكان قد سبق له الموت السريري، وروى تجربته في البرزخ ورأى بعينه الحياة الأخرى.

الشيء بالشيء يُذكر، والشيء هو انشغال الإعلام المصري بعذاب القبر، وله علّة، فأهل مصر عميقو التدين، ويخافون من الحياة الآخرة، ويريد حكام مصر تأجيل الحساب، وعدم دفعه. ويقال إنَّ سبب ذلك هو عقيدة الفراعنة في البعث، وهي قريبة في المآل من العقيدة الإسلامية، وسبب انشغالهم بعذاب القبر وإنكاره هو التسويف والتأجيل، فهو إرجاء.. والمرجئة طائفة إسلامية اندثرت ثم انبعثت مع صاحب الحذاء الجميل عبد الفتاح السيسي، مثلهم مثل الذي يغني في المقابر من شدة الخوف بصوت عال. والسبب الثاني في إنكارهم عذاب القبر هو الحرب على الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأسري والفقهي، والسبب الثالث، هو حيلة "بص العصفورة" وإشغال الناس بالغربان.

وقد فوجئ شيطان أريحا بشيطان البيت الأبيض، الذي قوّض كل شيء بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وربما جعل صائب عريقات يغيّر رأيه في مقولة الحياة مفاوضات. وشاهدت اتصالاً به على الجزيرة وهو يجيب عن سؤال: ماذا أنتم فاعلون الآن؟ كان "شيطان أريحا" قد "تخردق"، وهو ذو لسان ذرب مفوّه، فقال: إن لهم أصدقاء وإخوة، ويعلم أنّ الإخوة هم من خذلوه، ورموه في غيابة الجب، "وذئب البيت الأبيض أرحم من إخوتي يا أبي".

المهم أنه خذلني، وكان قد أبهجني في مدريد بوضع الكوفية الفلسطينية لإغاظة العدو، وهؤلاء قوم يغتاظون من الزي والطعام والرقصة والصلاة، لكن الكوفية وحدها لا تغنّي، وقد تقلصت الكوفية بالغسيل، فصارت مثل الكرافة، والكرافة أوثق منها وأعصى، فهي تعقد حول الرقبة، ولها طرق في العقد والإبرام، أما كوفية صائب فترمى على الكتف، وتطيح بها نسمة الهواء العليل.

الحياة مفاوضات، حيلة عربية سلطوية شهيرة داخلية، وأسلوب في الحكم أيضاً، فالمفاوضات أمل، والرؤساء العرب لا يكفّون عن بثِّ الأمل الكاذب في نفوس شعوبهم. فالرئيس المصري صاحب الحذاء الجميل الذي خلب لبَّ ترامب بنعله يَعِد الشعب في مفاوضاته معهم من طرف واحد بالخير والأنعام، مرة بعد ستة أشهر، ومرة بعد سنتين، فلا بد أنَّ يلوّح للأرانب بالجزر، بينما عصا القوانين وسيفها يعملان عملهما في ظهور المصريين وأمعائهم ورقابهم ضرباً وتمزيقاً.

كنت أريد لصائب أن يموت كريماً على فراشه بين أهله وليس في هداسا، وليس في حومة الوغى، فذلك حلم كبير لا طاقة لنا به، وأن يقول في آخر لقاء تلفزيوني: سأعالَج بين شعبي، وبأدويتهم وأعشابهم وبرتقالهم وزيتونهم، فيخلّد بقولته. وأنا أعلم أن صائب عريقات ليس مثل خالد بن الوليد الذي رثى نفسه لأنه يموت على فراشه كما يموت البعير، وليس على سروج السوابح، ولا مثل مالك بن الريب.

وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة "الست فتكات" الفاتكة، قد نعته كصديق كما علمنا، وأبرزتْ رسالة نصية أرسلها لها وودعها فيها قائلاً: "لم أنته مما ولدت لأفعله"، وكان سيفاوض حياة أخرى. كنت أظنُّ أن الحياة مفاوضات وأشياء أخرى مثل؛ الأكلات، السيدة عطيّات، الثعلب في ذيله سبع لفات..

ومن منا ينتهي من الحياة، فهي حلوة ونضرة، فالمنيّة مرةٌ يابسة. وكانت فتكات قد صرحت تصريحاً عجيباً ومهيناً، عندما قذفت المحصّنَين صائب عريقات وياسر عبد ربه، فزعمت أنها مارست معهما الجنس، من أجل إسرائيل، ولم يكّذبا الخبر، وتجاهلاه، وللتجاهل سببان:

فإما أنه تغافل العقلاء، وتسعة أعشار العقل في التغافل عن الزلّات، ولم تمنح أبا الغيط الذي أنجدها من عثرة على السلم شرف هذا الاتهام!

وإما أن سكوتهما عنه هو إقرار منهما بالمثل القائل: صيت غنى ولا صيت فقر، وصيت فحولة ولا صيت عنّة، أو عملاً بهتاف غوار في مسرحية تشرين: ركب الحمار على البيك.

كنت سأختم مقالتي بقول لعامر بن الطفيل، وهو شاعر وزعيم قومه، وفدَ على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعاداه وتوعده قائلاً: "أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً، فلما ولّى"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفني عامر بن الطفيل، فأدركه الموت في بيت سلولية لئيمة، فقال: أغدةٌ كغدة البعير وموت في بيت سلولية؟ وقام فمات على فرسه!".

لكني وجدت أن أختمها بخبر سوري أقرب من زمان عامر بن الطفيل، فأمس تناقل الناشطون نعي الشيخ السوري "فاجد" اليونس، وهو عجوز في أرذل العمر، وتبادلوا التعازي بوفاة الفارس، وكانت فروسيته في أنه دفع قارورة ماء بيده، قدمها له الشبيحة ساخرين منه ومن أهله، فصار بطلاً بإهراق قارورة ماء وكأنها ميثاق العبودية.

كانت البطولة قريبة من صائب، أقرب من حبل الوريد، لكنه أبى.

لقد كسرت قلبي يا ألفريدو.

twitter.com/OmarImaromar