قضايا وآراء

فيلم "المعضلة الاجتماعية" والرعب السياسي

1300x600

دخلت وسائل التواصل الاجتماعي في معترك العمل السياسي منذ عدة سنوات عبر بوابة الفضائح في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، بسبب الاتهامات بالتأثير غير المشروع على الناخبين. لم يتطور الأمر أبعد من مدى التحقيقات حتى أفقنا على فيلم بثته شبكة نيتفليكس مؤخرا، يتحدث عن الدور السياسي الذي تقوم به الوسائط التقنية في خضم صورة أوسع من التأثير على البشر من مختلف الأعمار.

الفيلم ليس عملا فنيا عاديا، بل يرقى لمستوى التحقيق أو التسريب الهام، إذ أن المتحدثين فيه هم مدراء سابقون في فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغوغل. وهم يتحدثون عن تطويرهم تقنيات تسعى لجذب انتباه البشر لأطول فترة ممكنة باستخدام وسائل نفسية، من أجل تجميع أكبر قدر من البيانات وتوظيفها في الإعلانات ومن ثم تحقيق أرباح خيالية. وكيف أن هذا التطوير بلغ مدى لا يتوقعونه يتجاوز مجرد التأثير في البشر إلى صياغة تصوراتهم وأفكارهم وتدمير علاقاتهم الاجتماعية.

 

الذكاء الصناعي المدمج في هذه الوسائل التقنية والموجود حتى على محركات البحث والإيميلات أصبح يصيغ لنا حياتنا كأفراد بشكل فردي

خلاصة الفيلم أن الذكاء الصناعي المدمج في هذه الوسائل التقنية والموجود حتى على محركات البحث والإيميلات أصبح يصيغ لنا حياتنا كأفراد بشكل فردي، ويحدد لكل منا من يحب ومن يكره ومن يؤيد ومن يعارض، بشكل ربما لا نلحظه. كل هذا من أجل مزيد من الجذب لاستخدام هذه المنصات، أيضا من أجل عيون من يدفع للإعلانات ومن يستخدم هذه البيانات لمصلحته.

تحدث الخبراء أيضا عن وجود كوارث اجتماعية ونفسية، خاصة على المراهقين وصغار السن، وهي قضية ربما تحتاج لمقالات لشرحها. لكن ما يهمنا هنا هو التأثير السياسي الذي عبر عنه أحد المديرين في الفيلم بأنه لم يقصد أن يضع الناس في عزلة سياسية واجتماعية؛ تعزز من الاستقطاب السياسي وترفض الرأي المخالف، إلا أن هذا كان هو النتيجة الطبيعية لعملية التعبئة والتفاعل الالكتروني خلال السنوات الماضية حسب وصفه. الأمر متجاوز لهذا الحد، فعدد من المدراء السابقين يتحدثون بأن هناك حربا أهلية ما في الأفق بسبب إفلات الذكاء الصناعي لكثير من المنصات من عقاله.

بصيص النور البسيط من خلال طرح الفيلم هو أنه أظهر بجلاء دور التقنية الحديثة في وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحالي، وأعطى تفسيرا للتغيرات الدراماتيكية التي تعتري الأفراد والمجتمعات في التعاطي مع السياسة خلال السنوات الماضية. وهو استقطاب كنت أظنه قاصرا على بلداننا العربية خاصة بعد الثورات العربية، لكن مع توالي متابعة الأوضاع السياسية في العديد من الدول الغربية، سنجد أننا أمام استقطاب أشد في بلد مثل بريطانيا بسبب مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي تنجم عنه مقاطعات اجتماعية في العائلات وحالات طلاق، وهو ما يتكرر حاليا في الولايات المتحدة بين مؤيدي ترامب ومعارضيه.

 

الملفت أيضا للمتابع للحالة السياسية العربية على وسائل التواصل الاجتماعي أنها تسعى بكل جهدها للاستفادة وتوظيف هذه التقنيات لصالحها، لكنه توظيف لا يتجاوز مسألة الشكل إلى المضمون، وهو أيضا توظيف يؤدي للشحن والغضب أكثر من تعزيز الوعي

الملفت أيضا للمتابع للحالة السياسية العربية على وسائل التواصل الاجتماعي أنها تسعى بكل جهدها للاستفادة وتوظيف هذه التقنيات لصالحها، لكنه توظيف لا يتجاوز مسألة الشكل إلى المضمون، وهو أيضا توظيف يؤدي للشحن والغضب أكثر من تعزيز الوعي وترشيد الحركة والفكر. والنتيجة النهائية هي تجميد الأوضاع السياسية، مع زيادة جرعة الاستقطاب السياسي والاجتماعي والشحناء بين الناس.

هناك حديث خافت عن بعض الأفكار لحل جزء من هذه المشكلة التي تتفاقم يوما بعد آخر، منها فكرة أنسنة التقنيات الحديثة وفرض رقابة على جمع بيانات المستخدمين، ومن يحق له جمعها واستخدامها. وما يهمنا في هذا المقام هو أن يدرك المهتمون بالتغيير في العالم العربي أن وسائل التواصل الاجتماعي وكل التقنيات اليومية الالكترونية ليست مجرد وسائل نشحنها بالصواب في مقابل ما يشحنها بالخطأ، بل إن جزءا رئيسيا من المشكلة نحتاج التفكير جديا في حله لأن آثاره أسرع وأكبر مما نتصور.

twitter.com/hanybeshr