كتاب عربي 21

حزب النهضة الضرورة

1300x600
الأمر لا يتعلق بشهوات النخبة اللائكية في أن تقوم ذات صباح فلا تجد "الإخوانجية" في المشهد "الجميل" الذي ودت أن يكون فلم يكن. لقد فعلت المستحيل من أجل بلاد بلا "إخوانجية" لكن "الخوانجية" هنا ويمسكون عصا التاريخ من الوسط، فلا يبرم أمر بدونهم ما داموا خارج سجون الأنظمة. وحدها السجون منعتهم من الحركة، لكنها لم تكن فعالة كي يختفوا من المشهد التونسي/ العربي.

على هامش تشكيل حكومة الرئيس قيس سعيد، تتجلى حقيقة واضحة وبسيطة: لا يمكن إبرام عقد حكم لا يشارك فيه الإسلاميون.

السؤال الآن: هل هذه الحتمية السياسة ناتجة عن قوة الإسلاميين وقوة مشروعهم، أم عن فقدان خصومهم لكل مشروع إلا إقصائهم بكل السبل؟ إجابتي هي الثانية.. الإسلاميون ليسوا عباقرة حكم وليست لديهم أطروحات كفيلة بإنجاز التنمية المرتجاة، ولكنّ خصومهم وأعداءهم (وهم أغلبية) أفشل من أن يجتمعوا على مشروع أفضل مما عند الإسلاميين.

وقد قدم قيس سعيد وفريقه الغامض دليلا آخر على العجز عن الحكم دون الإسلاميين في تونس. ونستشرف مستقبل مصر، رغم بعد الشقة، فنرى أن لا استقامة لأمر مصر دون تشريك الإخوان. وهذا أمر قادم ولو بعد حين، لكن سنبقى في تونس.

قيس سعيد في ورطة

استحوذ على التكليف بتأويل الدستور على هواه. لم يلق معارضة تذكر، فلا أحد يرغب في فتح جبهة حرب مع الرئيس. وصل إلى حكومة لم ترق له، يريد الآن من الأحزاب أن تقطع مسار الحكومة. سيبدو الأمر عاديا، لكن لنعد إلى الأصل. لماذا استرق التكليف الثاني بإجبار الفخفاخ على الاستقالة؟ لكي لا يعود التكليف إلى الحزب الأول، حزب النهضة.

عودة التكليف إلى الغنوشي (زعيم حزب النهضة) يوسع نفوذه على الحكم، فهو رئيس البرلمان والحكومة (تكون نظريا) تحت سلطته رغم أنه يشرك فيها آخرين. إذن، كان الأمر كله مرتبا لكي لا يحكم الحزب الإسلامي كليا أو نسبيا (نفس سبب إسقاط حكومة الجملي، حيث التقى سعيد مع كل خصوم النهضة).

التكليف الثاني (المشيشي) انطلق بمبدأ عدم تشريك الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها حزب النهضة (أكبر كتلة برلمانية، غير الحلفاء). الحكومة بعد النظر لم ترق للرئيس، إذن يدعو الغنوشي لكي يُسقطها في البرلمان.. الغنوشي، يرفض، الرئيس يستعد لحرب سياسية. ما الذي ألجأنا إلى وضع مماثل؟ رغبة الاستئصاليين في الحكم دون النهضة. لكن النهضة من جديد هي قطب الرحى الذي تدور حوله كل العملية السياسية ولا يمكن الإبرام دونها. ألم يكن هذا واضحا منذ البداية ؟ بلى.. ولكن.

ليس الغباء لكن سوء الطوية

خصوم حركة النهضة وأعداؤها لا يمكنهم المزايدة عليها بالديمقراطية، فهم أبعد ما يكونون عنها، وآخر الحجج جاءتها على طبق من المنظمة النقابية التي طالما زايدت على "الإخوانجية" بأنهم فاشيون، فإذا النقابيون يعبثون بقانون المنظمة الداخلي لتمكث القيادة على رأسها حتى الموت. وليس لجماعة النهضة أن يخجلوا من ضعف الوازع الديمقراطي داخلهم، فهم على الأقل يملكون مؤسسات تُستشار وتقترح.

لكن مناورات الرئيس كشفت أن أكثر النخب حديثا عن الديمقراطية هم من يغدرون بها. فالمنتخب بشبه إجماع وطني يتخلى عن الإجماع الشعبي ليفرض مزاجه، وأقول مزاجه الشخصي وليس برنامجه السياسي.. هذا يروقني وهذا لا يروقني، وعلى حزب النهضة أن يوافق ويصمت. في النهاية، حتى المزاج الشخصي للرئيس انتهى في قبضة زعيم النهضة. وكان يمكن أن تُحترم إرادة الناخب الذي فوّض حزب النهضة لكي لا نصل إلى الحكم المزاجي للرئيس، وهو آخر الداخلين على الاستئصال السياسي المزاجي.

نعم، لا يمكن لحكومة الرئيس أن تمر دون رضا شيخ النهضة، ولا يمكنها أن تسقط إذا أصرّ على مرورها، والرئيس في ورطة غير ديمقراطية ناتجة عن محاولته الفاشلة في توظيف حزب النهضة دون احترام وزنها، أي استعماله مثل البقية كوسيلة نقل مجانية لمزاجه الذي لم يفلح أحد بعد في قراءته قراءة سليمة ونهائية.

لماذا لم يفاوض النهضة كشريك حكم؟ هنا العقدة النخبوية التونسية.. النهضة ليست للحكم، بل فقط لحمل الآخرين إلى الحكم أو للذهاب إلى السجون. وهذه حقيقة رغبة النخبة العربية التونسية عامة، ولكن مع معطيات الواقع تقول العكس. الإسلاميون (النهضة) ركن أساسي في كل عملية سياسية، ومن لم يبدأ من هنا لن يصل إلى أية نهاية محترمة وقابلة للقياس العلمي في تحليل سياسي. ونهاية قيس سعيد الذي لم يقبل هذا المعطى ستكون وبيلة.

إذا أردت الحكم في تونس فتحدث مع النهضة

ينتهي الجميع هنا بعد كل محاولات الإقصاء السياسي.. النهضة شريك يحدد حجمه الصندوق الانتخابي، ويتم التعامل معه على أساس وزنه الذي يقرره الناخب. فإذا كان الأول حكم، وإذا كان دون ذلك عارض أو شارك من موقعه بحسب الحجم. هذه بديهيات الديمقراطية من حيث المبدأ، وهي تصير بديهية تونسية (عربية) لمن يريد التأسيس.

النهضة شرط أساسي في بناء الديمقراطية وفي بناء الدولة القادمة، وحده الشارع من يحكم على أدائها وبرامجها، وعلى البقية أن يأتوا كارهين الآن بعد أن حاولوا تجاهل المعطى الموضوعي.

النهضة هي التي تحدد الآن مصير حكومة المشيشي، مثلما حددت مصير حكومة الفخفاخ ومثلما حددت أيضا نهاية الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس.

هذه ليست دعاية للحزب، ولكنه توصيف للواقع ووزن لقدرات القوى والأفراد، بما في ذلك الرئيس الذي مارس كل أشكال الاحتقار (لرئيس النهضة) ورفض رفع السماعة لمعايدة شكلية (رسمية)، ولكنه جاء يزحف يطلب تعديل مسار الحكم وربما توسل في الكواليس التي لا تنشر صورها.

الحكم مع النهضة لا يعني الخضوع لها، ولا مجادلتها في كل صغيرة وكبيرة، لكن باعتماد مبدأ الوزن الذي حدده الصندوق، الفيصل في الموازين. احترام الصندوق هو إنهاء الاستئصال، وهنا حجر الزاوية.

الديمقراطية تبدأ من احترام نتيجة الصندوق وعرض الفائز على التقدير الشعبي من خلال ممارسة الحكم (إدارة الدولة)، فإذا نجح كانت الديمقراطية هي الإطار، وإذا فشل كانت الديمقراطية أيضا هي الفيصل. وحتى نصل إلى هذه المرحلة بعد عقبات كثيرة يختلقها الاستئصاليون، والرئيس صار واحدا منهم بل زعيمهم (بشكل مزاجي لا عقل فيه)، سنظل ندور في فراغات المزاج الشخصي للرئيس ولدائرته الاستئصالية حتى يحين أوان الاعتراف بنتيجة الصندوق الانتخابي، وساعتها سنبدأ في بناء الديمقراطية.