أخبار ثقافية

كيف قضى ابن سينا على طب أبوقراط؟

أبو علي عبد الله ابن سينا

مع ابن سينا اختفى بريق جالينوس والطب الأبقراطي، ووضع رأي أرسطو في التشريح موضع الشك.

أهميته العلمية في التاريخ جعلت محرك البحث غوغل يحتفل كل عام في آب/ أغسطس بذكرى ميلاده.

أهم أعماله "كتاب الشفاء" حيث يُعتبر موسوعة علمية تغطي العديد من المجالات مثل: المنطق، والعلوم الطبيعية، وعلم النفس، والهندسة، وعلم الفلك، والحساب والموسيقى، وكتاب آخر اسمه القانون في الطب، أحد أكثر الكتب شهرة في تاريخ الطب، وكتاب الأدوية القلبية، وكتاب دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية، وكتاب القولنج، ورسالة في سياسة البدن وفضائل الشراب، ورسالة في تشريح الأعضاء، ورسالة في الفصد.

ويبلغ مجموع مؤلفاته نحو 450 كتابا، نجا منها نحو 240 فقط، ومن بين تلك الأعمال المتبقية، 150 في مجال الفلسفة و40 في الطب، وهما أكثر مجالين ساهم فيهما ابن سينا أكثر من غيرهما. 

سمحت له الأسرة السامانية الحاكمة في عهد الدولة السامانية في بلاد فارس، باستخدام مكتبتهم الخاصة، بعد أن نجح في معالجة الأمير من مرض عجز أطباء زمانه عن علاجه، وبذلك استفاد ابن سينا كثيرا من كافة الكتب والمراجع العلمية في تلك المكتبة. 

كتب الدكتور محمد خليل عبد الخالق في مجلة الرسالة "... قد كان لي الشرف عام 1921م أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، وتبيَّن لي أنّ الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالإنكلستوما".

المنهج التجريبي


تذكر آلاء مرزوق في مقالة لها أن الإحصاءات السريرية التي سجلها ابن سينا بنفسه كـ ملحقات لكتاب "القانون في الطب" قد فُقدت وتم العثور فقط على النص العربي في نسخة رومانية ترجع لـ عام 1593. 

جمع ابن سينا بين التفكير العقلي والمنهج التجريبي، وكان كتابه الشفاء الذي ترجم إلى اللاتينية يحتوي على قواعد المنهج التجريبي، فكان يعتمد المشاهدة والملاحظة، ويجمع الوقائع إما عن طريقة التجربة أو عن طريق سماع تجارب أخرى من أشخاص مختلفين، فيدونها.

وعنده على سبيل المثال أن الدواء يجب أن يختبر في الأمراض المتعارضة، وأن يختلف كمه ونوعه تبعا لشدة المرض وضعفه، وينبغي أن يستعان في تشخيص المرض بأعراضه المختلفة مع الملاحظة أن من بين هذه الأعراض ما هو ظاهري وما هو حقيقي.

ويظهر المنهج العلمي عنده بشكل واضح في كتابه "القانون في الطب" حيث يقول:

رأيـت أن أتكلـم أولا فـي الأمـور العامة الكلية
في كلا قسمي الطب، أعني القسم النظري
والقســم العملـي، ثـم بعـد ذلـك أتكـلـم فـي 
كليات أحكام قـوى الأدويـة المفردة، ثـم فـي
جزئيـاتها، ثم بعـد ذلك فـي الأمراض الـواقعة
بعضو عضـو، فأبتدئ أولا بتشريح ذلك العضو
ومنفعتــه، وأمــا تشـريـح الأعضــاء المفــردة
البسيطة فيكــون قـد سبق منـي ذكـره فـي
الكتاب الأول الكلي وكذلك منافعها.

بعبارة أخرى، يبدأ المنهج عند ابن سينا بدراسة الكليات ثم الجزئيات، فيتناول الأمراض مرضا مرضا، ثم يقوم بتشريح العضو لينتقل بعدها إلى الحديث عن كليات أمراض العضو وأسبابها وطرق الاستدلال عليها وأسباب معالجتها، وما أن ينتهي من الكليات حتى ينتقل إلى تناول الجزئيات.

ووضع ابن سينا قواعد لتجريب الدواء بناء على التجربة التي تمنح معرفة قوة الدواء بعد مراعاة شرائط عدة، هي: أن تكون التجربة على جسد الإنسان، وأن يكون الدواء قد جرب على المتضادة، وأن يكون الدواء المجرب عليه علة مفردة، وأن تكون القوة في الدواء مقابلا بها ومساويا من قوة العلة، وأن يراعى الزمان الذي يظهر فيه أثره وفعله، وأن يراعى استمرار فعله على الدوام.

ومن إنجازاته في الطب علاجه للقناة الدمعيّة، وقد كشف عن أعراض حصاة المثانة السريريّة، وبيّن أنّها مختلفة عن أعراض الحصاة الكلوية، وكشفه لطرق عدوى بعض الأمراض المعدية، كالحصبة، والجدري، وكشفه طرق وقف النزيف، ومنها الربط، أو بالكي بالنار، أو إدخال الفتائل.

كتب حول النبض:

النبض حركة من أوعيـة الروح مـؤلفة من انبساط
وانقباض لتبريد الروح بالنسيم، والنظر في النبض
إما كلي وإما جزئي بحسب مرض مرض.

ويعتبر العالم جون فلوير في القرن الثامن عشر أول من توصل إلى قياس النبض، ولاحظ أن ثمة مناطق في الجسم يمكن من خلالها جس نبضات القلب على هيئة موجات متتالية ضاغطة على جدار الشرايين، وفي هذا تشابه كبير مع ما ذهب إليه ابن سينا.

التحليل النفسي

قالت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة في كتابه "شمس العرب تسطع على الغرب"، إن العرب المسلمين هم الذين أبدعوا المعالجة النفسية.

قسم ابن سينا النفس إلى نباتية وحيوانية وإنسانية، وتعني النباتية بأنها الكمال الأولي لجسم الإنسان الطبيعي، وتمتلك النفس القوة المولدة، والمنمية، والغاذية التي يستطيع من خلالهم توليد القوة، وأن يربو، ويتغذى، في حين أن النفس الحيوانية هي الكمال الأولي لجزيئات الجسم التي يستطيع الجسم التحكم بها من خلال الإرادة، وتعني النفس الإنسانية بأنها الكمال الأولي لعقل الإنسان الذي يستطيع من خلاله التفكير في الأمور من حوله.

وكتب ابن سينا مقالة سماها الفصول تحدث فيها عن الطب النفسي، عارضا الاضطرابات العصبية وعرف بعض الحقائق النفسية والمرضية.

ومن الأمثلة العملية على اهتمامه ومعرفته بالطب النفسي، أن مريضا كان يعتقد بأنه بقرة، وكان يطلب من ذويه بإلحاح أن يذبحوه، فانقطع عن الأكل لأنهم رفضوا أن يفعلوا ذلك، فضعف كثيرا وأقلق الأهل والجيران بصراخه، وطلب أهله أن يتولى ابن سينا أمره وعلاجه.

فأرسل ابن سينا إلى المريض من يخبره بأنه قادم ليذبحه استجابة لطلبه، ولما حضر الطبيب وفي يده السكين، أمر بربط يدي المريض ورجليه، وطرحه على الأرض ليذبحه، ولما همّ ابن سينا بالذبح، جس عضلات المريض جسا دقيقا، ثم التفت إلى أهله وقال لهم بصوت جهوري: إن هذه البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل ذبحها!

وعندها أخذ المريض من تلك الساعة يأكل بشهية زائدة ليسمن، فقوي جسمه وترك وهمه وشفي من مرضه شفاء تاما.

وفي حالة أخرى، دعي يوما إلى عيادة فتى مريض، فأمر باستدعاء عريف من عرفاء المدينة خبير بالأمكنة، وتناول يد الفتى يجس نبضه ويرقب وجهه، وطلب إلى العريف أن يسرد أسماء الأحياء في تلك الناحية، حتى إذا ذكر حيا منها ازداد نبض الفتى، فطلب ابن سينا من العريف أن يذكر بيوت الحي، فازداد نبض الفتى ارتفاعا عند ذكر واحد من بيوت الحي، فطلب ابن سينا من العريف أن يعد أسماء بنات ذلك البيت، ولما ذكر واحدة منهن كشف ابن سينا علة الفتى، وقال لأهله، زوجوه من هذه الفتاة فهي الدواء.

تأثيره في أوروبا

ما تزال نسخة من كتاب "الشفاء" محفوظة في جامعة أكسفورد، وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب "القانون في الطب" مرات عدة باللاتينية، منها مجموعة طبعت في البندقية عام 1495م تشمل المنطق، الطبيعيات، السماء والعالم، الروح، حياة الحيوان.

طبق ابن سينا علاج الطبيب اليوناني أبوقراط في علاج التشوهات الفقرية باستخدام تكنيك الإنقاص والاختذال، يتضمن تكنيك الاختزال استخدام الضغط والجذب حتى تعتدل العظام  لوضعها الصحيح ومن ثم علاج تشوهات المفاصل والعظام كما هو الحال في حالات انحناء العمود الفقري. 

ولم يُستخدم هذا التكنيك منذ تلك الفترة حتى جاء الطبيب والجرّاح الفرنسي (جين فرانسوا كالو وأعاد استخدامه في عام 1896، كما شاع تطبيق اقتراح ابن سينا بتضميد الجراح باستخدام النبيذ في أوروبا في العصور الوسطى. 

في الهندسة

ينقسم كتاب "الشفاء" إلى أربعة أقسام: المنطق، الطبيعيات، الرياضيات، الإلهيات.

ولم تكن الرياضيات في الأساس جزءا من هذا الكتاب، لكن ابن سينا قرر ضمها إلى الكتاب، وفي هذا قال تلميذه الجوزجاني:

بدأ ابن سينا بإمـلاء الطبيعيـات فالإلهيــات،
ثـم اشتغـل بـالمنطق وطـال اشتغـاله بــه
إلــى أن أتمه بأصبهان، وهناك صنف أيضا
الحيـوان والنبـات، أما الرياضيـات فقد كــان
عملها علـى سبيـل الاختصـار فـي سـالف
الزمان، فرأى أن يضيفها إلى كتاب الشفاء.

وقسم ابن سينا الرياضيات إلى أربعة أقسام: علم العدد (الحساب)، الهندسة، الهيئة، الموسيقى، وفيما يتعلق بالحساب اعتمد ابن سينا على كتاب "الأصول" لـ إقليدس في القرن الثاني قبل الميلاد، لكنه قام باختصار مسائل هذا الكتاب وتهذيبها، وفي هذا كتب ابن سينا في "الشفاء":

فـاختصرت كتـاب الأسطقســات لأوقليـدس
اختصارا لطيفا، وحللت فيه الشبه واقتصرت
عليه.

واستنبط ابن سينا آلة تستعمل لقياس طول أصغر من أصغر أقسام المسطرة المقسمة ولقياس الأطوال بدقة كبيرة، ودرس الحركة والإيصال والقوة والفراغ، واللانهاية والحرارة والضوء، وقال إن سرعة النور محدودة، وعمل عدة تجارب في إيجاد الوزن النوعي لمعادن كثيرة، وقال بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرء إلى العين.