كتب

كيف تستفيد الشعبوية من "توترات" الديمقراطية الليبرالية؟

قطر نشر كتاب (عربي21)

الكتاب: في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية
المؤلف: عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/2019

تظهر الشعبوية في أجواء تسودها "تناقضات" اقتصادية وسياسية واجتماعية ينتج عنها تهميش فئات مختلفة من المجتمع، ما يتيح لخطابها التعبوي فرصة مثالية لاحتكار الحديث باسم الشعب، وللتشكيك في انتماء ووطنية المخالفين له، ولمهاجمة المؤسسات الديمقراطية والنظام الديمقراطي نفسه. 

تستثمر الشعبوية، بحسب ما يقول عزمي بشارة، في "التوترات البنيوية" للديمقراطية الليبرالية المعاصرة بين "مكوني الديمقراطية والليبرالية، وبين المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وغير المنتخبة، وبين المواطن والمؤسسات الوسيطة التي تفصله عن عملية صنع القرار"، رغم أن هذه التوترات نفسها قد تكون سببا في تحسين وتطوير أداء النظام الديمقراطي الليبرالي، وليس سببا فقط في ظهور الأزمات. لكن الشعبوية لا ترى في ذلك سوى ذريعة لتحريض جمهور مناصريها الغاضبين ضد النخب السياسية، والمؤسسات والآليات الديمقراطية التي تراقب وتحاسب هذه النخب، مع أنها لا تلبث أن تفرز نخبها الجديدة أيضا التي تندمج في المؤسسات نفسها، وقد تمارس الفساد نفسه.

الأزمات التي ولّدتها "التوترات البنيوية"،سابقة الذكر، في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية أدت في معظم الحالات إلى تطويرها من الداخل، لكنها في الديمقراطيات الحديثة أدت أحيانا إلى انهيارها وعودة النظام السلطوي (الفاشية والنازية في ايطاليا وألمانيا)، ومع ذلك فبعد الحرب العالمية الثانية طور النظام الديمقراطي الليبرالي نظام التمثيل النيابي، وأرسى مبادئ دستورية جديدة للمشاركة السياسية، و"استقلال القضاء ، والقيود على حكم ممثلي الأغلبية.. ودولة الرفاه التي تجمع بين اقتصاد السوق والتخطيط وحماية منجزات العاملين النقابية" حتى أنه كان قادرا على احتواء الكثير من الحركات الشعبوية في البرلمانات والحكومات، دون أن يضر ذلك بالحريات والحقوق المدنية. 

يقول بشارة: إن الديمقراطية الليبرالية ستعيش دائما هذه التوترات بين مبادئ الليبرالية المتمثلة بحماية الحقوق والحريات الفردية، والمشاركة الشعبية الواسعة التي قد ينجم عنها انتشار خطابات الهوية، وظهور تيارات تخوض العمل السياسي من منطلق معاد للسياسة والنخب القائمة. لكنه يرى أن حل مشكلة الاغتراب عن السياسة التي تستغلها الحركات الشعبوية أسوأ استغلال يكون فقط بزيادة المشاركة الشعبية، و" توسيع مفهوم الحقوق لتشمل الحقوق المدنية والسياسية وأيضا الاجتماعية، واقناع الناس بأن الديمقراطية تحمي حقوقهم.. وتشتمل على آليات تمنع تعسف النظام إلى جانب آليات لضبط الحملات الانتخابية والمال السياسي".

الشعبوية تقود الغاضبين من النيوليبرالية

يتحدث بشارة عن الأزمة الجديدة التي تعيشها الآن الديمقراطية الليبرالية في أوروبا، ويرى أنها مرتبطة بتفكك "إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية" حول طبيعتها في دول الرفاه الاجتماعي، وصعود النيوليبرالية. ويوضح أن حدة الأزمة زادت بتعمق اللامساواة وتضرر الطبقة الوسطى والعمال الصناعيين، "وهو ما أدى إلى ما يمكن تسميته بالفسخ النيوليبرالي بين الديمقراطية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أو بين مبدأي الحرية والمساواة". 

ويلفت هنا إلى أن حالة الغضب التي يعيشها المتضررون من هذا الوضع لم يعد يتم توجيهها من قبل اليسار، كما في السابق، نحو المطالبة بالعدالة الاجتماعية وضبط نشاط رأس المال، بل صارت وسيلة اليمين الشعبوي لتعبئة "الجمهور الغاضب" للمطالبة بالعدالة "في إطار الثقافة الإثنية وأخوة الهوية، وقرع الطبول ضد المهاجرين، ومن دون برنامج اجتماعي".أيضا يشير بشارة إلى أنه حتى أزمة الثقة بالسياسيين لم يعد يعبر عنها "باتحادات وروابط مدنية تمارس نوعا من الديمقراطية القاعدية، بل بقبلية إثنية معاكسة لفكرة الجمعيات والاتحادات، وعلى أساسها يتحرك المجتمع الأوروبي ضد طبقته السياسية.. وهو ما يحصل حاليا في أوروبا الشرقية على نحو خاص". 

 

"امتحان" الديمقراطية الليبرالية يكمن في "مدى الاستفادة من ظاهرة الشعبوية في تقييم ضرر النيوليبرالية وفي النقد الذاتي. فليس الليبراليون محصنين من تقسيمات"نحن" و"هم" الإقصائية، ولا سيما في نظرتهم الوصائية إلى المجتمع وتقسيم الناس إلى معتدلين ومتطرفين".

 



يزيد المشهد تعقيدا وسوءا أن كل ما سبق يجري في عصر انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي، بحسب بشارة، تسمح بنشر الأكاذيب ومخاطبة الغرائز والتواصل مع السياسيين دون وساطة الأحزاب أو الصحف الحزبية والمؤسسات الإعلامية، وهو ما يتيح حرية أوسع في التعبير، لكنه في الوقت نفسه "يشجع تحويل المزاج إلى رأي دون معلومة.. ونشر التعبيرات الأكثر حدة عن المشاعر.. بما في ذلك التعبير المنفلت عن مشاعر الكراهية". 

ويوضح بشارة أن ذلك كله سبقه أيضا نشوء مؤسسات إعلامية استهلاكية ربحية دأبت على مخاطبة الغرائز والأفكار المسبقة، التقت مع تيارات أكاديمية" احترفت انتقاد الأكاديمية، ومثقفين تخصصوا في نقد المثقفين، ومؤرخين حولوا كتابة التاريخ من نقد الأساطير إلى صياغتها عبر صناعة الذاكرة الوطنية أو المحلية الجهوية، أو الطائفية، او الإثنية، وذلك لإعادة خلق المزاج والمشاعر، وليس لفهم الحقيقة واكتشافها". 

يقول بشارة إن الشعبوية ليست مجرد مزاج شعبي، إنها موجودة في كل ما سبق، والخطر الحقيقي على الديمقراطية يحدث حين تلتقي كل تلك التيارات ليستغلها السياسيون، والأيديولوجيون الشموليون، ورجال الأعمال الفاسدون. مسألة أخرى مهمة يلفت إليها بشارة هي "انزلاق" الخطاب الشعبوي إلى تقسيم "نحن" و"هم" الذي قد ينقلب إلى "صراع على مستوى الهوية" الوطنية، حيث تمثل "نحن" الشعب المتخيل، و"هم" أعداء الشعب من المؤسسات والنخب، مع أن الطرفين، كما يقول بشارة، يتضمنان قطاعات شعبية ونخب. 

ويضيف أن "امتحان" الديمقراطية الليبرالية يكمن في "مدى الاستفادة من ظاهرة الشعبوية في تقييم ضرر النيوليبرالية وفي النقد الذاتي. فليس الليبراليون محصنين من تقسيمات"نحن" و"هم" الإقصائية، ولا سيما في نظرتهم الوصائية إلى المجتمع وتقسيم الناس إلى معتدلين ومتطرفين".

هل الديمقراطية الليبرالية إلى أفول؟

يناقش بشارة في أحد فصول كتابه أسباب غياب الثقة بمؤسسات الدول الديمقراطية وخطورة ذلك في الديمقراطيات الوليدة نسبيا، وكيف يتشكل في ظل هذه الأجواء خطاب الحركات الشعبوية. ويشير إلى أن الدول المتطورة تتمكن فيها الديمقراطية من احتواء الشعبوية و"تهميشها" أحيانا. فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة كيف أن مؤسسات ديمقراطية، ووسائل إعلام، وفئات مختلفة من المجتمع الأميركي تصدت في مواقف عديدة لخطابات وقرارات الرئيس الاميركي دونالد ترامب. 

أما في الدول النامية فإن الديمقراطيات التي تأتي بعد ثورة أو حتى إصلاحات سياسية فإنها غالبا ما تواجه حالة من عدم الارتياح الشعبي، ولأن مواطني تلك الدول لم يعتادوا "التمييز بين الحكومة والنظام السياسي" فقد يتحول إحساسهم بالخيبة والغضب من الحكومة إلى موقف سلبي من النظام الديمقراطي نفسه. 

وتتلخص أسباب هذا الغضب عادة بارتفاع سقف التوقعات لدى المواطنين بخصوص سرعة تحسن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بعد الثورة مباشرة أو بعد وقوع إصلاحات سياسية،وهو أمر غير واقعي، ولا يمكن أنجازه في فترة قصيرة. كذلك "عدم الاعتياد على التنافس الحزبي وحلول التشهير المتبادل بين الأحزاب في ظل معطيات مثل صغر حجم النخب ذات الثقافة الديمقراطية"، والشعور العام بأن السياسيين يهتمون بتلبية مطالب فئات معينة من المجتمع على حساب البقية، واستخفاف البيروقراطية بالنظام الديمقراطي الجديد، ووجود فئات مستفيدة من النظام القديم "تتبنى خطابا شعبويا يسعى لتغذية حالة عدم الثقة، وتصعيد الاحتجاج إلى درجة الفوضى والدفع باتجاه الحنين إلى النظام حتى لو كان في ظل الاستبداد". 

يرى بشارة أن النظام الديمقراطي الليبرالي هو النظام الأقدر، حتى الآن، على الموازنة بين قيمتي الحرية والمساواة "مكوني العدالة التي يصبو إليها الإنسان المعاصر". لكنه لا يعتبره بالطبع "أيديولوجيا غائية نهائية لتاريخ العالم"، ولا يستبعد "نظريا" ظهور أيديولوجيات جديدة في المستقبل تطرح أنظمة حكم بديلة، مع رفضه للاستنتاج القائل إن الديمقراطيات الليبرالية "في حالة أفول" استنادا للأرقام حول ارتفاع مستوى الدخل والتعليم في بعض الدول السلطوية، موضحا أن هذا الوضع يطرح في الواقع سؤالا مهما حول "احتمال انتقال هذه الأنظمة الى الديمقراطية بسبب توسع الطبقة الوسطى، وانتشار التعليم والإنترنت، ومعهما الحاجة إلى حرية الرأي والتعبير عنه والرغبة في المشاركة".

 

ويتابع بشارة في هذا السياق أن ازدهار الصين اقتصاديا واستقرار النظام الروسي لم يجعل من البلدين مكانا جذابا لمواطني الدول النامية.