أخبار ثقافية

في ذكرى ميلاده: عمر الخيام.. علامة تجارية لحب الحياة

أثبت المستشرق الروسي زوكوفسكي، أن 82 رباعية من الرباعيات لم تكن من إبداعه، وصحّح نسبتها إلى مبدعيها- أرشيفية

في الثامن عشر من أيار/مايو، سنة 1048م، وُلِد غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام، في مدينة نيسابور، إحدى مدن فارس الكبرى ومراكزها التجارية والثقافية.

 

نشأ في أسرة مسلمة، سنية، وتلقى تعليمه على يد عالم زرادشتي اسمه باهمانيار، الذي كان أحد تلامذة ابن سينا، وكان رياضيا متمكنا أيضا، ليفتح أبواب العلوم أمام الشاعر الشاب.


كان العالم الإسلامي يومئذ يموج بحراك علمي خصب، يمتد طيفه من دراسة ما قدّمه المترجمون من العلوم اليونانية القديمة، مرورا بمجالس العلم التي رعى بعضها السلاطين والخلفاء، وانتهاءً باجتهادات العلماء المسلمين في الفلسفة والطب والرياضيات والعلوم.


في العشرين من عمره بدأ ترحاله في طلب العلم، فشد الرحال إلى سمرقند سنة 1068. وبعد سنتين نشر مؤلفه: رسالة حول إظهار مشاكل الجبر والموازنة.

 

ثم دعاه ملك شاه سلطان الدولة السلجوقية إلى أصفهان سنة 1073 بترشيح من الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك، صديق الخيام القديم.


ربما تصلح هذه الصداقة نموذجا مدهشا لصداقةٍ تجمع الإخلاص والدعم الهائل مثلما ترصد مفارقات الصراع الدموي الذي رسم مصير هؤلاء الأصدقاء.

 

فقد كان الخيام ونظام الملك والحسن الصباح أصدقاء وزملاء دراسة في شبابهم بنيسابور. آنذاك تعاهدوا على أن يدعم أيٌّ منهم صاحبيْه إذا ابتسم له القدر في مستقبل الأيام. 


وحين ترقّى نظام الملك لوزارة ملك شاه، وفى بوعده واستدعى الخيام وخصص له 1200 مثقالا من الذهب سنويا، وهي ميزانية تضمن للخيام حياةً رغدةً وقدرةً على التفرغ للبحث والإبداع.

 

في أصفهان، نهل الخيام من مختلف العلوم واصطحب علماء وفلكيين مرموقين، حيث أنشأ ملك شاه لهم مرصدا فلكيا ضخما، ونجح الخيام في وضع تقويم فلكي دقيق يحدد طول السنة الاستوائية. 


أما الوجه الآخر لهذه الصداقة العجيبة فكان صراع الحسن الصباح مع الدولة السلجوقية، وهو ما أدى لمقتل ملك شاه ووزيره نظام الملك، الصديق القديم الذي عاهد صديقيه على التآزر.

 

اقرأ أيضا: عبد الله رضوان الشّاعر المسكون بوطنه

 

وقد دعا الحسنُ الخيامَ إلى مركزه في "ألموت" لكنه أبى التدخل في الصراع السياسي بين صديقيْه.
بعد مقتل نظام الملك، عاد الخيام إلى نيسابور، كما انطلق إلى الحج.

 

وقد رجّح بعض المؤرخين أن هذه الرحلة كانت لحسم الجدل الذي نشأ بعد انكشاف ظهر الخيام بمقتل حاميه وصديقه، فاتهمه منافسوه بالإلحاد، بسبب بعض آرائه ومقطوعاته الشعرية. هكذا بدت رحلة الحج محاولة ذكية لإغلاق باب الجدل.


ربما يتضح الأمر أكثر إذا عرفنا أن الخيام تورّط في الجدل الفلسفي بتأليف رسائل فلسفية مثل: "رسالة في الكون والتكليف" و"الرسالة الأولى في الوجود" وغيرهما.

 

يبدو صعبا أن يفلت شعرُ الخيام من باعه الطويل في دراسة العلوم المختلفة. من الطبيعي أيضا أن يترك العصر طابعه، وهو العصر الذي جنى ثمار الترجمة واستيعاب الفلسفات القديمة، بينما نشأ الخيام نفسه في مركز قديم للديانة الزرادشتية.


ورغم شهرته بالشعر أكثر من شهرته بالفلك والرياضيات والفلسفة، ليس لدينا توثيق تاريخي محدد لمقطوعاته الشهيرة بالرباعيات، ولا لطريقته في إبداعها.

 

قال بعض المؤرخين إنه كان يؤلف رباعياته أثناء انشغاله بالبحث والدراسة العلمية فيلتقطها أصدقاؤه وتلامذته ويدوّنونها.


وتكوّنت رباعيات الخيام من مقطوعات شعرية باللغة الفارسية، تضم أربعة أبيات أو سطور شعرية، يتحرر ثالثها من قافية السطور الثلاثة الأخرى.

 

لغتها رقيقة، تغطي التصوف الروحي الفارسي وتطلّع الإنسان نحو المجهول بغلالة من البهجة والفرح بلذات الحياة. تحملنا الرباعيات نحو البساتين الفارسية الفسيحة العابقة بالأزهار.


ويبدو أن الروح الوثابة المتمردة لذلك العصر قد طبعت أسلوبه الشعري بطابع العبث والجرأة واقتحام ملذات الحياة، كما طَبَعَت الصراعات السياسية الكثيرة شعره بطابع اليأس والتشكك في الثوابت الاجتماعية.

 

التقط الأوربيون خيوط التمرد والانغماس في الملذات يومَ كانوا يؤسسون لنهضتهم الفكرية والعلمية، فتيّمَتْهُم رباعياته وتُرجِمت كثيرا. لعل أشهر ترجماتها هي ترجمة الكاتب الإنجليزي إدوارد فتزجيرالد، التي طُبعت أربع طبعات، في السنوات: 1859، 1868، 1872، 1879.


لا بد أن نذكر أنها لم تكن صدفة أن تُنشر الطبعة الأولى من ترجمة الرباعيات سنة 1859، وهي السنة ذاتها التي نشر فيها تشارلز داروين كتابه "أصل الأنواع"، ونشر فيها جون ستيوارت ميل كتابه "عن الحرية"، وكانا صيحة على طريق الثورة وقتها.

 

كانت الرباعيات لبنة في تأسيس مذهب اللذة، من كثرة ما تكررت بها الدعوة لاغتنام اللذات والظفر بالغاية من الحياة وهي العبُّ من الشهوات وأسباب الفرح والمتعة. 


وفي سنة 1863 نشأت جماعة سمّت نفسها "محبي الخيام"، التي تبّنت منهج الرباعيات في رؤية الحياة باعتبارها لحظة عابرة يجب التمتع بمباهجها إلى أقصى حد.

 

كما بيعت مساحيق أسنان وبطاقات لعب مصورة باسمه أيضا. لعل المثال الأشهر لكونه أيقونة لحب الحياة هو تسمية أحد أشهر أنواع النبيذ بـ"الخيام".

 

استمرت هذا السيطرة الطاغية حتى الحرب العالمية الأولى، فقد عُثِر على بعض مقطوعات الخيام في جيوب بعض جنودها القتلى ألا يذكّرنا ذلك بالصراع السياسي والثورات في زمن الخيام؟ ربما.


لذلك رجّح بعض المؤرخين أن الرباعيات ليست من إبداع الخيام الذي عرف عنه أنه عالم جليل لم يبدر منه ما يشير إلى هذا الإغراق في الملذات، لكن الحقيقة أننا لا نملك تأريخا دقيقا لحياته، بل إن ما نعلمه عنه قد يرجح أنه آمن بتلك الفلسفة، فقد تزوج مغنية فارسية فاتنة اسمها جهان، بعد أن عاش معها أربع سنوات دون زواج كما قيل!


وقد أثبت المستشرق الروسي زوكوفسكي، أن 82 رباعية من الرباعيات لم تكن من إبداعه، وصحّح نسبتها إلى مبدعيها.

 

يبدو أن لدينا في الشعر العربي نظيرا لذلك، فالثابت تاريخيا أن مجنون ليلى شاعر غير محدد. لا نكاد نعرف عن حياته شيئا، حتى إن المؤرخين رصدوا نسبة كثير من شعر الحب إليه وليس بقائله، لكن لتفرّده في هذا الباب، اعتاد الناس أن ينسبوا إليه ما أحبوه من شعر الحب.


يرجح ذلك أن الرباعيات جُمِعت بعد موت الخيام بأكثر من 350 سنة. فلعله أبدع أكثرها حتى بلغ حب الناس لها أن ينسبوا، أيضا، كل شعر جميل في هذا الباب إلى الخيام، دون غيره!
من الرباعيات الشهيرة التي غنّتها أم كلثوم، وترجمها الشاعر أحمد رامي:
سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضرِ لَذَّاتِه
فليس في طبع الليالي الأمان
غَدٌ بِظَهْرِ الغيب واليومُ لي
وكمْ يَخيبُ الظَنُ في المُقْبِلِ
ولَسْتُ بالغافل حتى أرى
جَمال دُنيايَ ولا أجتلي
القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربِ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ
والماءُ يَنْسابُ أمامي الزُلال
أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِقا
وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَقا
ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غير أن أهْوى وأن أعْشَقا.