قضايا وآراء

سوريا المُقسمة والمقاربات الدولية في إدلب

1300x600
في الشرق السوري هناك الأمريكان والأكراد، وفي الوسط روسيا وقوات النظام والمليشيات الإيرانية، وفي الشمال هناك الأتراك بجانب المعارضة السورية.

مع انفجار الوضع في إدلب التي تدور حولها معارك ضارية ربما ستحدد مستقبل سوريا وربما المنطقة برمتها، واقع الحال يقول إن الأتراك والروس على شفا مواجهة عسكرية مباشرة، والعالم شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، يراقب الوضع ما بين متواطئ أو غير عابئ أو ينظر بترقب للقفز على النتائج أي كانت.

والمواقف الدولية تتباين؛ فموقف الأمريكان، حسب المتحدث الرسمي للبنتاغون الأمريكي، يقول إن روسيا وتركيا اقتربتا من نزاع واسع في المنطقة، أيضا حسب روبرت براين مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي وصف الوضع في سوريا بالفوضوي، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع فعل شيء هناك.

يأتي هذا رغم تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير خارجيته بأنهم يدعمون الموقف التركي. وقال وزير الخارجية مايك بومبيو في تغريدة: "ينبغي أن تتوقف الهجمات التي يشنها نظام الأسد مع روسيا. أرسلت المستشار الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري إلى أنقرة لتنسيق خطوات الرد على ذلك الهجوم الذي يزعزع الاستقرار. نحن نقف إلى جانب تركيا حليفتنا في الناتو".

ويؤكد ترامب على عمق العلاقات الاستراتيجية مع تركيا ومتانة علاقته بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان صعب المراس، الذي يخوض معركة في إدلب لمنع قتل مئات الآلاف هناك، "ونحن نعمل معا لنرى ماذا يمكننا فعله".

هذا هو الوضع الفعلي على الأرض حسب الواقع الاستراتيجي والعسكري بالغ التعقيد، ولكن هناك أسئلة كثيرة وكبيرة تقفز للذهن حول: أين تقف الولايات المتحدة الأمريكية فعليا من حيث القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية في سوريا؟ وهل هناك استراتيجية واضحة لهم هناك؟ وهل يملكون رؤية واضحة للأمور؟

ولن نتوقف أو نتحدث عن الجانب الأوروبي والعربي، فهو رغم ما يُثار هنا وهناك فلن يخرج عن الرؤية الأمريكية بحال من الأحوال، وهو موقف ذليل منبطح تابع لكل ما يصدر عن البيت الأبيض.

وبالعودة للأسئلة التي طرحناها، فأمريكا لها مصالح استراتيجية هناك وتدعم تركيا ظاهريا فقط، لكنها لا تترجم هذا الدعم على أرض الواقع رغم التوسع الروسي الإيراني الذي يضر بمكانتها ومصالحها هناك.

لكن ما هي الاستراتيجية الأمريكية الفعلية؟ هناك حقيقة تؤكد أنها لم ولن تقدم المساعدة في أي وقت للمعارضة السورية منذ بداية الثورة، وتتحجج دائما بأن هناك هيئة تحرير الشام التي صنفتها بالإرهابية، وبالتالي لا توجد استراتيجية ثابتة للأمريكان هناك، فلا هي تريد توسع النظام السوري في مزيد من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة، ولا هي تدعم المعارضة بحجة وجود فصائل إرهابية في إدلب (نفس نغمة الروس)، وبالتالي فأهداف الولايات المتحدة الأمريكية محدودة وتهتم فقط بقضايا بعينها بشكل خاص.

لكن ماذا عن الموقف التركي وهو طرف أساسي في المعادلة السورية والداعم الحقيقي والوحيد للثورة السورية والشعب والمعارضة؟ وكيف ترى تركيا الموقف الأمريكي؟ وهل باستطاعتها أن تأخذ المبادرة وتحل قضاياها السياسية والأمنية بنفسها دون الاعتماد على حلفائها في الناتو الذين لم ولن يقدموا دعما عسكريا أو لوجستيا لها؟

الواقع يؤكد أن تركيا تواجه القضية السورية على أربعة مستويات في زمن وآن واحد: مستوى إنساني، ومستوى عسكري، ومستوى دبلوماسي، ومستوى تاريخي ديني أخلاقي.

على المستوى الإنساني هناك، وحسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، هناك نحو 900 ألف شخص غالبيتهم من النساء والأطفال نزحوا من مناطق النزاع الدائر الآن، وهناك ما يقارب ثلاثة ملايين شخص في شمال غربي سوريا يحتاجون للمساعدات الإنسانية، ولا يواجه هذه المشكلة سوى تركيا وحدها.

وعلى المستوى الدبلوماسي، تبذل تركيا طاقتها لإيجاد حلول سياسية لهذه القضية، حتى أنه عندما استشهد بعض جنودها هناك لم تتحرك فورا، وإنما أمهلت روسيا والنظام السوري حتى نهاية شباط/ فبراير الجاري أملا بالوصول لحل سياسي. لكن تحسبا لكل الاحتمالات، عززت من تواجدها العسكري واللوجيستي على الأرض وعبأت الحالة المعنوية لشعبها وجنودها لأي مواجهة عسكرية محتملة.

وفي وسط كل هذا نجد الولايات المتحدة الأمريكية وتابعتها أوروبا اكتفت ببيانات عقيمة لا تقدم شيئا على الإطلاق، بل إن أمريكا دعمت وما زالت تدعم تنظيم "واي بي جي" الإرهابي، وكذلك تنظيم "بي واي دي" منذ سنوات بشاحنات أسلحة ومعدات عسكرية، وتستضيف في ولاية بنسلفانيا فتح الله غولن، العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشل عام 2016. ما يهم الولايات المتحدة الأمريكية فعليا هو زيادة حدة التوتر بين تركيا وروسيا التي أصبحت علاقتها مع تركيا على المحك بسبب الدعم الروسي الفاجر للنظام الأسدي المجرم ونقضها لكل التفاهمات والاتفاقات التي وقعتها مع تركيا في سوتشي وأستانا. وأقصى ما تحاول روسيا فعله هو تبريد الوضع الحالي لفترة محدودة ثم تعود لتنقض على إدلب، كما حدث من قبل في حلب والغوطة وغيرها، لأن المصالح التي تربطها بتركيا كبيرة جدا ومتشابكة ولا يمكن التفريط فيها بسهولة.

أما عن روسيا وقدرتها الفعلية حال قررت تركيا شن حرب خاطفة ضد نظام الأسد، فهي قدرات محدودة باستثناء سلاح الجو، وهو في العادة لا يحسم حروبا. وتتمثل أوجه الضعف الروسي في ثلاثة عوامل بالغة الأهمية:

المستوى الأول أنها نائحة مستأجرة وليست ثكلى، بمعنى أنه ليس هناك ما يجعلها تستميت في قتال تركيا، وهذا مرتبط بالمستوى الثاني لأن روسيا ليس لديها جنود على الأرض يمكنها من الاشتباك المباشر، وثالث المستويات أنها دخلت لسوريا بغية الاسترزاق وابتزاز بعض الدول الخليجية أسوة بأمريكا، لذلك سيبقى الحسم بيد الأتراك حال لم ترضخ روسيا لمطالبها المشروعة والعادلة.

وبالعودة للموقف التركي وعن سعي تركيا، حسب البنتاجون الأمريكي، الحصول على منظومة صواريخ باتريوت الدفاعية، فهل يأتي هذا الموقف في إطار الحرب النفسية أم كنوع من التأكيد بأن تركيا لن تتراجع عن موقفها؟

الحقيقة المجردة تؤكد أن تركيا لم تطلب اليوم أو من أسابيع أو شهور صواريخ باتريوت، بل طلبتها منذ ما يقارب منذ ثماني سنوات من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، لكن الأمريكان لم يوافقوا، لذلك اضطرت تركيا لشراء منظومة صواريخ S400 الروسية. والآن تساوم أمريكا تركيا للتراجع عن تلك الصفقة مع روسيا وربطت الموافقة على بيعها باتريوت وطائرات F35 بهذا التراجع. لكن الحقيقة تؤكد أن تركيا لن تتراجع عن صفقة S400 ولن تتراجع عن منظومة الأسلحة التي تنتجها بنفسها، وفي نفس الوقت ترحب بشراء باتريوت بشروطها هي.

نعم العلاقات التركية الروسية متوترة حاليا عسكريا وسياسيا، لكن العلاقات التجارية والاقتصادية ومجال الطاقة علاقات جيدة جدا.

كما ترى تركيا أن الرهان على الموقف الأمريكي خطأ جسيم لا يمكنها أن تقع فيه؛ فهناك تناقض واضح بين البيت الأبيض من جهة والكونغرس والبنتاجون من جهة أخرى، كما حدث من قبل في حالات عديدة، أبرزها قرار ترامب الانسحاب من شرق الفرات ثم التراجع عنه. لذلك السياسية الأمريكية الخارجية فاقدة لمصداقيتها على كل المستويات.

وبالعودة للرئيس التركي أردوغان الذي تربطه تحالفات عميقة جدا مع دول العالم والناتو وروسيا وأمريكا، فكيف ينظر لكل هذه المعضلات مع الأصدقاء والأعداء والأصدقاء في نفس الوقت؟ وبما أن تركيا الآن تستضيف أكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري وهو ما تكلف الخزينة التركية خمسين مليار دولار، هذا بالإضافة لثلاثة ملايين سوري بالداخل لا تصلهم المساعدات إلا من تركيا وحدها، وبما أن تركيا وحدها من تتحمل كل هذا العبء، نجد أن الرئيس أردوغان سيمضي قدما في وقف الاعتداء الروسي المجرم ووقف الهجوم على إدلب، وقد يصل الأمر به للدخول في معركة لحرب يدحر فيها النظام الأسدي برمته إذا اقتضى الأمر.

ويبقى أهم في كل ما سبق من وجهة نظري هو أن تركيا هي من تحمل وحدها راية الدفاع عن الأمة الإسلامية وقضاياها العادلة في إطار المصالح الاستراتيجية الكلية للأمة، وهي قادرة وجديرة بذلك، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها. فالتاريخ يؤكد أن الأتراك طيلة الألف عام دافعت عن الأمة الإسلامية بكل غال ونفيس، وبالرغم من نتائج المئة عام الماضية وما شهدتها من خيانات وانقلابات داخلية، إلا أنها عادت بقوة لسابق عهدها وتتبوأ مكانتها اللائقة ولن يخزيهم الله.

حفظ الله تركيا شعبا وأرضا وقيادة.