أخبار ثقافية

إراسم ضد لوثر الأنسنة واللاهوت

الهولندي ديزيدريوس إراسم أدب يوناني - تويتر
عندما ذاع صيت مارتن لوثر، كان الهولندي ديزيدريوس إراسم (1469- 1536) يعد عميدا للأدب المتميز في كل المسيحية.

وجه إراسم كل جهده لإعداد نسخة تحليلية للكتاب المقدس باللغة اليونانية، وظهر الكتاب في بازل عام 1516، أي قبل حركة لوثر الإصلاحية بعام واحد، مصحوبا بترجمة لاتينية فيها تصحيحات لأخطاء الترجمة الرسمية المسماة "الفولجاتا".

اعتبر الكتاب جريمة بنظر الكنيسة الكاثوليكية لأنه يشكك في نسختها اللاتينية الرسمية عن الكتاب المقدس.

في هذه الفترة، وجدت الكاثوليكية الرسمية نفسها مضطرة لمجابهة مشروعين فكريين لا يزالان في مهدهما: 

الأولى، العقيدة اللوثرية الخاصة بالأمير التقي، وأن أوامر الأمير غير التقي غير ملزمة في الضمير ويجب عدم إطاعتها بالمرة.

الثانية، مهاجمة النزعة الإنسانية عند إراسم بما تتضمنه من ضرورة وجود ترجمة جديدة وصافية للكتاب المقدس وأن تكون متاحة للجميع، ثم شجبه لدقة ومرجعيات الترجمات اللاتينية الموجودة للكتاب المقدس المعتمد في الكنيسة الكاثوليكية وأن عامة الناس يجب تعليمهم الإيمان بطريقة شفهية.

الأنسنة الدينية

يشدد إراسم على المحبة في ديانة المسيح، وإذا كان لم يقصر عن الاستعانة بالنصوص الإنجيلية التي تكشف عذوبة المسيح، فقد شاقه، في مؤلفه عام 1518 العقل أو المنهج المعتمد للوصول إلى اللاهوت الحقيقي، أن يشرح نص النبي أشعيا الذي يطبقه الإنجيليون على المعلم:

هو ذا عبدي الذي اخترت، حبيبي الذي
رضيت عنـه.. القصبة المرضـــوضة لــن
يكسرها والفتيلة المدخنة لن يطفئها.

يقول إراسم عن هذا المقطع، أن ما تسمعه هنا ليس كلاما عن قياسات ملتوية أو تهديدات أو حرومات ولا عن جيوش مسلحة ومجازر وحرائق، بل عن الوداعة والحلم تجاه الضعفاء.

وقد حمله إلحاحه على أولوية المحبة إلى الرأفة تجاه الهراطقة، لذا نراه يكرر مثل القمح والزؤان:

إن العبيد الــذين يريدون اقتــلاع الزؤان
قبل الموعد هم الذين يعتقدون بوجوب
قتل الرسـل المزيفين ودعــاة الهرطقة
بحـد السيف، فــي حين سيد الحقل لا 
يريـد اقتــلاعه بل تركـه إلى يوم يصلح
فيــه ويتحـــول مـن زؤان إلــى حنطـة.

تعرض إراسم للنقد اللاذع باعتداله غير المفهوم، إذ شرع كثيرون يتساءلون: لم لا يخوض إراسم المعركة ويدحض آراء لوثر؟ وبعد إلحاح أصدقائه بالرد على ما يقوله لوثر، رد إراسم على الدوق جورج دو ساكس، أحد الأمراء الذين ظلوا على وفائهم للكاثوليكية، بتاريخ 12 ديسمبر 1524، برسالة اعتبرت من افضل ردوده:

القديس هيلاريوس انتظر مدة أطول قبل 
أن يحارب الآريوسيين بقلمه.

التعامل مع لوثر

كانت الطموحات الإنسنية حتى بداية القرن الـ 16 تنطلق من ضرورة تحقيق  الوحدة الدينية في المسيحية، ثم الانتقال إلى تحقيق الوحدة الدينية بين شعوب الأرض.

وكانت هذه الرؤية تبسيطية وتعكس عدم وعي لوثر بالخلافات العقائدية العميقة الواقعة آنذاك داخل المسيحية، فهمه الإنساني طغى على عدم رؤيته لهذه الخلافات.

لقد رغب الاكتفاء بحقائق الإيمان الأساسية وعدم تحويل التنظيرات اللاهوتية كلها إلى عقائد إيمانية، والظاهر بسبب جوزيف لوكلير أن الحدود لم تكن واضحة في زمانه تماما بين العقيدة واللاهوت، أي بين حقائق الإيمان، وتلك التي لا تحظى بنسبة اليقين والأهمية الخلاصية نفسها.

ومع ظهور لوثر، بدأ الوضع يتبدل وأصبحت الوحدة المسيحية على مستوى العقيدة أمرا مستحيلا، وكان أحد أهم أهدف إراسم هو العمل بجد لمنع انهيار هذه الوحدة.

رفض لوثر النظرة التفاؤلية التي تقول بقدرة الإنسان على معرفة قوانين الله معرفة حدسية، وقد شكل هذا الرأي تعارضا شديدا مع التومائية الكاثوليكية الرسمية، وتعارضا مع النظرة العالية لفضائل الإنسان التي عممها الإنسانيون وفي مقدمهم إراسم.

دافع إراسم في البداية عن لوثر ورحب بإطروحاته الـ 95 التي علقها على دير ويتنبرغ، كما عمل إراسم جاهدا أمام السلطات الكنسية من أجل إعطاء فرصة للوثر للتعبير عن أفكاره، وقد أوصى بالتعامل معه على النحو التالي:

رأيي أن الروح المسيحية توصـي بمعــاملة
لوثر كالآتي: لا أريد، إن كــان بريئــا، أن أراه
عرضة للتنكيل على يد زمرة الأشــرار، وإن
كان على ضلال فإنـي أود رؤيته معافـــى،
لا هالكا.

هذا التصرف يتناسب مع مثل المسيح الذي 
يقـول فيه النبـي أشعيـا، لا يصيـح ولا يرفـع 
صــوته ولا يُسمـع صـوتـه فــــي الشــوارع، 
القصبة المـرضـوضـة لـن يكسرهــا والفتيلة
المدخنة لن يطفئها.

وإذا كان إراسم قد التقى في كثير من الجوانب مع لوثر، خصوصا في ما يتعلق بضرورة تجديد المسيحية وتخليصها من شوائبها ومن عقيدتها الجامدة ومن هيمنة المؤسسة الكنسية في شكلها القائم آنذاك، وفي العودة إلى النصوص الأصلية للكتب المقدسة، إلا أنهما اختلافا حول كثير من القضايا.

في حرية الإرادة

كان سؤال إراسم هو، هل في إمكان الإنسان أن يساهم بخبرته في خلاصه، أي باختياره بين الخير والشر؟ أم هي نعمة من الله لا يستحقها البشر بفضل أعمالهم، وينبغي ألا يتوقعها الإنسان الخاطئ بطبيعته؟ تبنى إراسم الموقف الأول بخلاف لوثر الذي تبنى الموقف الثاني.

نشر إراسم بحثا بعنوان "حرية الإرادة"، يؤكد فيها حرية الإنسان في معرفة القوانين الإلهية، فرد لوثر عليه ببيان حمل عنوان "عبودية الإرادة"، وفيها طرح فكرة أن الناس أشرار بالخطيئة، ولا فضل لهم في خلاصهم لأنهم لا يستحقون الخلاص مهما فعلوا، وحدها رحمة الله هي التي تخلصهم.

لا يكمن الخلاف بينهما في أن الأول يؤمن بدور العقل في حين يلغي الثاني هذا الدور للعقل، وإنما الخلاف يكمن في أن لوثر أخذ على إراسم اعتقاده بأن الإنسان حر في استعمال عقله بغية فهم ما يرغب منه أن يفعل.

وبذلك يرفض لوثر مفهوم إراسم حول الإرادة بما هي قدرة الإرادة الإنسانية التي تمكن الإنسان من تحقيق الأشياء التي تؤدي إلى الخلاص الأبدي، وبرأي لوثر بعض البشر لا بد أن مصيرهم قد تقرر أن يكون النجاة، وأن يكون مصير الآخرين هو اللعنة، وقد ولدت هذه الصاعقة فجوة لا تردم بين الله والإنسان.

على عكس لوثر، تقوم الإنسانية عند إراسم في فكر المسيح، لأنه بتجسده قد جسر الهوة بين الإنسان والله، وهنا يكمن جوهر المسيحية في نظره، في أن أملنا يجد مبتغاه في الله، وللاهوتيين بعدها ملء الحرية في تطوير نظرياتهم مثلما للمؤمنين حرية الاعتقاد بها إو إغفالها.

هنا، يرى إراسم أن ما جاء به لوثر يندرج ضمن الأمور الثانوية في العقيدة لا في جوهرها، وقد كتب في مؤلفه الإسفنجة 1523:

إن مواجهة الموت واجب في سبيل الحرية 
الإنجيلية، وأنــا أيضـا لا أتهرب مـن المــوت 
متـى دعـت الحـاجة إليـــه، لكننــي لسـت 
مستعدا إطــلاقا لمواجهة المـوت من أجـل 
لــوثر ومفارقاته، فهذه الأخيرة لا تمت إلى 
العقــائد الإيمــانية بصلة، بـل ترمــي إلـى
معـرفة ما إذا كـانت أوليـة الحبر الرومـاني
تأتـــي من المسيح، ومــا إذا كـــان مصـف 
الكــرادلة  مــؤسسة ضـروريـة للكنيسـة،
ومــا إذا كان المسيح بنفسه قد وضع سر 
الاعتـــراف، ومـا إذا كـانت حـرية الاختيــار
ضـــرورية للخــلاص أم أن الإيمــان وحــده 
يكفي.

ولذلك يقول عزمي بشارة إن الأنسنية لا تبدأ إذا كتيار علماني بل كرؤية إنسانية للدين، ونشأت في مرحلة الإصلاح الديني، إنه الدين في حدود الإنسانية.

والأنسنية هنا قائمة في استقلالية الإنسان الأخلاقية عند إراسم الذي همش مسألة الخطيئة الأولى لتأكيد الاستقلالية الأخلاقية للإنسان.

ويتابع بشارة قوله إن الأنسنية حققت أربع خطوات مهمة في سياق العلمنة:

1ـ إعادة الاعتبار للإنسان في مثلث العلاقة: الله، الإنسان، الكون.

2ـ التسامح الديني، ويجب التمييز هنا بين التسامح والتعددية الدينية، حيث لم يدع الأنسنيون إلى تعددية دينية، بل تسامحوا معها كحالة مؤقتة نحو الوحدة المسيحية التي فشل تحقيقها في سلام أوغسبورغ.

3ـ الميل إلى تخفيف تعقيد العقيدة الإيمانية.

4ـ اعتراضهم على تدخل الدولة في فرض العقيدة، والتقى هذا الموقف مؤقتا مع الموقف الكنسي الرسمي المعارض لتشكل الديانات التابعة للدولة، كما في حالة هنري الثامن والإصلاح البروتستانتي اللوثري والكالفني.

باختصار، همشت النزعة الأنسنية الخطيئة الأولى التي حكمت التاريخ المسيحي الوسيط بمجمله، وأكدت على الحرية الإنسانية والعودة إلى الإنسان مقابل الدعوة اللوثرية للعودة إلى النص المقدس.