قضايا وآراء

اقتصاد التوك توك وواقع مصر الاقتصادي

1300x600
في مصر الآن نبرة هجوم عالية تجاه "التوك توك"، تتصاعد وتيرتها من حين إلى آخر من خلال تصريحات لمسؤولين ووزارء ونواب في البرلمان، بما يؤشر إلى أنه يوجد توجه لفرض مزيدٍ من الرسوم أو ربما ضريبة جديدة على تلك المركبة التي وصلت أعدادها في مصر إلى المليون مركبة، بحسب العديد من الإحصائيات.

 التوك توك بات يمثل تعبيرا عن واقع اقتصادي هو نتيجة مباشرة لعيوب في هيكل الاقتصاد، والتخطيط، والتنظيم، والإدارة، والعمران في مصر.

التوك توك مركبة عرفتها الهند في ستينيات القرن العشرين، ومن ثم عرفتها مجتمعات نامية أخرى كوسيلة تنقل، رغم كونها غير آمنة بحسب المواصفات الفنية ووسائل الأمان التي يجب توفرها في المركبات التي تسير على الطرق. وقد اعتمدت عليها الشرائح الفقيرة التي لا يمكنها مواجهة تكاليف التنقل والمواصلات عبر وسائل المواصلات الأخرى.

التوك توك والأمر الواقع

في مصر كان التوك توك أحد محاور البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك، حيث وصلت مركبات التوك توك التي تم تشغيلها منذ بدء تنفيذ البرنامج الانتخابي إلى نحو 103.8 ألف وحدة، حتى منتصف 2007.

لقد انتشر التوك توك في سائر ربوع مصر ومدنها وقراها وعشوائياتها، وأصبح أمرا واقعا، بل ورقما اقتصاديا ليس بالهين، وبات ظاهرة تعكس، من ناحية، سلبيات عديدة على أرض الواقع وأساءت إلى وجه مصر الحضاري، كما ساهمت في القضاء على الصناعة والزراعة المصرية عبر استقطاب الأيدي العاملة من الزراع والصناع والفنيين للعمل على التوك توك، لتأمين دخول لهم بحسب مسؤولين ومختصين، لكنها من ناحية أخرى حملت إيجابيات رآها البعض، ومنهم أولئك الذين طالتهم يد البطالة ومحدودية الدخل، وأصبح التوك توك يمثل مصدر دخل رئيسي بالنسبة لهم، وكذلك أولئك الذين يرونها وسيلة يواجهون بها عجزهم عن استخدام وسائل المواصلات الأخرى التي تفوق قدراتهم الاقتصادية.

سؤال:

مع هذا الانتشار غير المسبوق للتوك توك في مصر، حتى وصلت أعداده إلى نحو مليون مركبة وفقا لإحصائيات غير رسمية، يبقى السؤال المهم: لماذا سمحت الدولةُ باستيراد هذه المركبة - التي لاتتعامل معها المجتمعات المتقدمة ولا تعتمد عليها سوى المجتمعات الفقيرة - ووفرت لها سوقا ضخما في مصر، حتى تغلغلت بهذا الشكل وتشابكت مع مصالح قطاعاتٍ واسعة من المصريين؟

وإذا كان الأمر كما سبق، فكيف يهاجم مسؤولون ونواب في البرلمان هذه المركبة والعاملين عليها، ويعتبرونها عارا على مصر، ويطالبون بإلغائها ومحاكمة سائقيها؟ بل وصل الأمر إلى لعن من أدخلها إلى مصر على لسان النائب "أحمد العوضي"، عضو لجنة الدفاع والأمن القومي، حيث اعتبر ذلك خيانة لمصر بالتكسب السريع من ورائها بدعوى إتاحة فرص عمل للشباب، على حد تعبيره في تصريحات صحفية منسوبة له في موقع "المصريون"!!

التوك توك والاقتصاد الموازي

في دراسة منشورة قامت بها إحدى شركات الاستشارات الاقتصادية لصالح الحكومة المصرية، وعُرضت على الحكومة في أيلول/ سبتمبر 2015، ذكرت الدراسة أن نحو 30 مليون مصري يستخدمون التوك توك يوميا، كما يوفر التوك توك دخلا شهريا يقدر بثلاثة مليارات جنيه لقرابة 1.5 مليون مواطن، ويستفيد منه نحو 6 ملايين من السائقين والملاك وأسرهم. وأشارت الدراسةُ إلى أن حصيلة جمارك التوك توك التي تدخل خزينة الدولة تبلغ نصف مليار جنيه، وقدرت الدراسة مبيعاته السنوية في مصر وقتها بنحو 60 إلى 65 ألف وحدة سنويا. كما ذكرت الدراسة أن فرض رسوم 500 جنيه على كل توك توك سوف يدر للخزينة العامة نحو 250 مليون جنيه، خلافا لعائداتِ الجمارك.

ووفقا لما سبق، وبالاستناد إلى الدراسة السابقة، فإن اقتصاد التوك توك في مصر يقدر بنحو 30 إلى 40 مليار جنيه بعيدا عن الاقتصاد الرسمي، وهذا ما أكدته تصريحات مسؤولين اقتصاديين وماليين في مصر، في أكثر من مناسبة، ولعل هذا ما شجع شركة "بياجيو" الإيطالية، عبر تحالف مع شركة "راية القابضة للاستثمارات المالية"، للإعلان في نيسان/ أبريل 2018؛ عن استثمار 100 مليون جنيه في مشروع لتجميع وتصنيع مركبات التوك توك.

وقد قدر مسؤولو شركة راية القابضة استيعاب السوق المصرية بنحو 80 ألف توك توك سنويا، وتوقعوا أن تصل القدرة الاستيعابية إلى 120 ألفا بحلول 2020.

اقتصاد التوك توك وعجز الحكومة

إن 30 إلى 40 مليار جنيه يمثلها اقتصاد التوك توك الموازي (غير الرسمي) في مصر؛ لا شك أنها تعالج فجوة كبيرة عجزت الحكومة عن سدها مع ارتفاع معدلات البطالة التي تتفاقم في ظل الظروف الاقتصادية الحالية التي تعيشها مصر.

وجدير بالذكر أنه في تشرين الأول/ أكتوبر القادم، من المخطط أن تجري الحكومة تعدادا اقتصاديا يستمر لستة أشهر، ينتهي في آذار/ مارس 2019، الغرض منه حصر الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يخضع للضريبة، والذي يمثل نحو 40% في المئة من الاقتصاد القومي المصري، بحسب تقديرات رسمية والذي يدخل ضمنه بالطبع 30 إلى 40 مليار جنيه هي "اقتصاد التوكتوك" الذي يمس شريحة الفقراء وغير القادرين، والذين سبقوا الحكومة بخطواتٍ واسعة واعتمدوا على أنفسهم في حل مشاكلهم بما يناسب قدراتهم الاقتصادية، وإن نتج عنها تشوهات وسلبيات لها آثارها على أصعدة مختلفة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا.

وما بين هؤلاء الذين يعتبرون التوك توك عارا وخيانة وتشويها لوجه مصر الحضاري، وهؤلاء الذين يرونه قد سد فجوة اقتصادية، ويمثل فرصة استثمارية نجد الحكومة المصرية تقف مكتوفة الأيدي وعاجزة عن تقديم حلول جذرية للقضاء على تلك السلبيات المتضخمة، وتقديم حلول حضارية إبداعية تخرج المواطن من مأزق العوز والاحتياج، وتعيد لمصر وجهها الحضاري المشرق بعد ما حل به من تشوهات عميقة.

الخلاصة

 ما يبدو في الأفق هو أن أقتصاد التوك توك غير الرسمي، وأشباهه، لا يمثل لدى من يدير الملف الاقتصادي سوى فرصة لزيادة إيرادات الخزينة العامة، عبر فرض رسوم وضرائب سيرا على نفس النهج التوسعي في فرض الضرائب تجاه المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، لتصبح جيوب الفقراء هي الممول الرئيسي، وربما الوحيد لعجز الموازنة.

بدون شك، مصر في حاجة إلى إصلاحات جذرية في شتى المجالات، ويأتي الاقتصاد الذي هو رديف السياسة على رأسها، حيث يعاني من مشكلات هيكلية قاتلة، ظاهرة التوك توك أحد انعكاساتها.

مما لاشك فيه أن معالجة الملف الاقتصادي المصري لا يمكن أن تتم إلا بأدوات اقتصادية حقيقية، تعني في أبسط صورها زيادة الإنتاج وليس زيادة الموارد عبر فرض مزيد من الضرائب والرسوم، والتي تأتي بشكل غير متزن وتطال جيوب بسطاء المواطنين الذين يمثلون القاعدة العريضة للشعب المصري، والتي بات اقتصاد التوك توك يشكل بالنسبة لها رافدا مهما من روافد تجاوز المعضلة الاقتصادية التي تعصف بها، رغم سلبياته وآثاره التي يراها البعض أنها كارثية، بينما يرى البعض الآخر أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن التوك توك ما هو إلا انعكاس لواقع مصر الاقتصادي، والذي يحتاج إلى حلول جذرية وإبداعية خارج الصندوق لم يعثر عليها القائمون على الأمر حتى وقتنا الراهن.