قضايا وآراء

الترامبية التشينية في مواجهة إيران

1300x600

لا يخفى على المتابعين والمراقبين أن إيران هي المستهدَف الأول في التغييرات الأخيرة بأركان الحكم الأمريكي، وسيما بعد تعيين جون بولتون من ألد أعداء إيران الأمريكيين مستشارا للأمن القومي الأمريكي، الذي وصفه أكثر من مسؤول إيراني بالتعيين الذي يستهدف طهران بشكل مباشر.

هذه تعيينات ترتبط ارتباطا وثيقا بالصراع الذي يخوضه ترامب في الجبهات الثلاث، الداخلية (ملف روسيا غيت) والاقتصادية مع الصين وأوروبا، والسياسية الخارجية مع إيران، كوريا الشمالية وروسيا. فأحد أهداف التصعيد الترامبي في جبهة السياسة الخارجية حرف الأنظار عن الجبهة الداخلية، وتخفيف الضغط عليها. كما أن تلك التغييرات تعكس أيضا توجه الإدارة الأمريكية نحو مزيد من التطرف في تركيبتها، مما يجعلها إدارة صقورية ترامبية بعد إبعاد قادة برغماتيين من الحكم.

صعود شخصيات مثل بومبيو وبولتون، وبالذات الأخير إلى مواقع صناعة القرار الأمريكي يؤكد أن أركان استراتيجية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التعامل مع إيران أوشكت على الاكتمال. لمعرفة طبيعة تلك الاستراتيجية التي ستظهر ملامحها خلال الفترة المقبلة أكثر، يكفي النظر إلى التركيبة الحالية للإدارة الأمريكية التي تعيد التشينية إلى السياسة الخارجية الأمريكية بنكهة ترامبية، وربما أكثر خطورة من تلك السياسة التي اعتمدتها واشنطن 2001 إلى 2009، الفترة التي كان يشغل ديك تشيني منصب نائب الرئيس جورج بوش الابن. فمثلث "ديك تشيني، وكاندوليزا رايس وجون بولتون" بقيادة بوش الابن، الذي هندس الحرب على العراق، استبدل اليوم بمثلث آخر وهو الأخطر والأكثر صهيونيا، أي مثلث "جون بولتون، ونيكي هيلي ومايك بومبيو" الذي يترأسه دونالد ترامب.

هذا السرب من الصقور سيكتمل في الإدارة الأمريكية بعد الإطاحة بوزير الدفاع "جيمز ماتيس" البراغماتي الوحيد المتبقي الذي باتت أيامه محدودة على ما يبدو. حتى وإن ظل الرجل في مكانه، يكون قد فقد ذاك التأثير الذي كان يشكّله مع اتش أر ماكماستر وريكس تيلرسون مجتمعين في قرارات وتوجهات إدارة ترامب.

إيران والقوى المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية تجد نفسها اليوم في مواجهة مجموعة جديدة في البيت الأبيض لا تؤمن بالقانون الدولي وكذلك بالتفاوض في العلاقات الدولية ما لم يفض ذلك إلى استسلام الخصوم والأعداء وخضوعهم. عليه، يكرر جون بولتون القول إن "المعاهدات الدولية لا تلزم الولايات المتحدة الأمريكية قانونياً". كما أنه صاحب استراتيجية إسقاط الأنظمة المعادية لواشنطن بدلا من التفاوض معها.

في الوهلة الأولى، تستهدف هذه التعيينات خلط الأوراق وإرباك المشهد والحسابات في أكثر من اتجاه، بما يوقع أكبر تأثير نفسي على صناع القرار الإيراني، لدفعهم إلى تنازلات مؤلمة في ملفات عديدة، قبل أن تترجم تلك التغييرات في سياسات عملية ضد طهران. ما يجرأ واشنطن على اتباع هذا النهج، شعورها بأن تهديداتها الكثيفة خلال العام الأخير ضد كوريا الشمالية أتت أكلها بعد أن دفعت الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يطلب ود ترامب ولقائه ويتعهد بنزع السلاح النووي كما تظن أمريكا.

فضلا عن ذلك، تبعث تلك التغييرات برسائل وتهديدات مباشرة لإيران، أهمها:

1ـ على الأرجح ستكون خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) الضحية الأولى لتلك التعيينات، وهي على موعد حساس في 12 أيار/مايو القادم، إذ أن استبدال مؤيدي الإبقاء على الاتفاق بمعاديه والمطالبين بإنهائه في التركيبة الحاكمة في البيت الأبيض، يجعل موضوع الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في صلب هذه التغييرات التي من خلالها يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يوحي للإيرانيين أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الاتفاق بات تحصيل حاصل في ظل شبه إجماع بات يتشكل حول ذلك في البيت الأبيض. علّهم يتجاوبون مع تعديل الاتفاق النووي والتوصل إلى اتفاقية تكميلية في المهلة المتبقية بعد رفضهم القاطع إجراء أي تعديل عليه حتى اللحظة.

على الأغلب ستتمسك طهران بهذا الموقف في ظل تجربتها المريرة طيلة عامين مرّا على الاتفاق النووي الذي لم تحقق أهدافها المرجوة منه، فأقسام مهمة من العقوبات مازالت قائمة بشكل أو آخر، والعراقيل الأمريكية والأوروبية تحول دون انخراط الشركات الأجنبية في الأسواق الإيرانية، والبنوك العالمية الكبرى مازالت ترفض التعامل مع المصارف الإيرانية.

لا شكّ أن ازدياد أعداء إيران والاتفاق النووي في مراكز صنع القرار الأمريكي سيكون له مفعول كبير باتجاه حسم الموقف الأمريكي من الصفقة النووية في 12 أيار/مايو القادم، بعد مرور أكثر من عام من التردد والإثارة. ملامح هذا الحسم تكون قد اتضحت بشكل كبير بعد اختيار جون بولتون ضمن التركيبة الحاكمة في البيت الأبيض.

بولتون الذي رتب لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية الصواريخ البالستية مع روسيا عام 2001، كتب على "تويتر" في التاسع والعشرين من يناير 2018 أن "الصفقة النووية الإيرانية كانت خطأ استراتيجياً، ويجب إلغاء هذه الاتفاقية".

ومن جهة أخرى، إيران أيضا أصبحت على قناعة أن فرص صمود الاتفاق النووي باتت محدودة جدا، حيث أكد نائب وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي" في حوار مع وكالة مهر للأنباء في 17 من آذار/مارس أن "الاتفاق النووي لن يصمد في ظل الوضع الراهن".

2ـ طبيعة التعيينات الجديدة من شأنها أن تدرج سياسة "تغيير النظام في إيران" على جدول أعمال السياسة الخارجية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة بعد أن عادت التصريحات الأمريكية الداعية إلى تغيير النظام الإيراني إلى الواجهة منذ تربع ترامب في المكتب البيضاوي. حال تبنت الإدارة الأمريكية هذه الاستراتيجية فعلا، فلا يعني ذلك استخدام القوة الصلبة لتغيير النظام، وإنما اتباع أساليب وطرق غير مباشرة تحقق هذا المرجو الأمريكي، أهمها:

أولا، محاولة تأليب الشعب الإيراني على النظام عبر خلق أزمة اقتصادية طاحنة تمس معيشة الإيرانيين مباشرة من خلال فرض عقوبات مشددة في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. المرجح أن الحكومة الأمريكية سوف تبدأ بإجراءات اقتصادية صارمة ضد إيران حال انسحبت من الاتفاق النووي الذي يكبّل تحركاتها الاقتصادية الضاغطة عليها في الوقت الحاضر، تتمثل في فرض عقوبات أكثر إيلاما من تلك التي سبقت هذا الاتفاق.

ثانيا، دعم المعارضة الإيرانية المتشددة التي لا تؤمن بالإصلاح، وإنما بالإطاحة بالجمهورية الإسلامية مثل حركة مجاهدي خلق الموصوفة بالمنافقين في الأدبيات الإيرانية الداخلية، والتي وعدها جون بولتون في مؤتمرها الأخير في العام الماضي بالقضاء على النظام الإيراني بحلول عام 2019 قبل أن يكمل 40 عاما.

وفي هذا المضمار، وكما يقول عباس علي كدخدايي الناطق باسم مجلس صيانة الدستور الإيراني ليس صدفة أن يختار ترامب سياسيا متطرفا في منصب مستشار الأمن القومي على صلة وثيقة بجماعة خلق الداعية إلى إسقاط النظام الإيراني ولو من خلال شنّ الحرب على إيران.

جون بولتون الذي يحل منذ سنوات ضيفا دائما على المؤتمرات السنوية لهذه الجماعة في باريس، يتبنى هذه الرؤية التي يؤكد عليها في أكثر من مناسبة بالقول أن "هدفنا يجب أن يكون تغيير النظام في إيران." وبعد الاحتجاجات التي شهدتها مدن إيرانية بداية العام الحالي، قال الرجل في تغريدة في الخامس من كانون الثاني/ يناير الماضي "إذا كانت المعارضة الإيرانية مستعدة لتلقى الدعم الخارجي، فإن الولايات المتحدة يجب أن توفر لهم ذلك".

الإيرانيون أنفسهم على دراية بذلك، معتبرين أن أحد أهداف التغييرات الأخيرة في الإدارة الأمريكية هو التخطيط للإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث علّق المتحدث باسم لجنة الأمن القوي والسياسية الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني "السيد حسين نقوي حسيني" على تعيين جون بولتون مستشارا للأمن القومي الأمريكي بالقول إن "تعيين بولتون يؤكد أن الأمريكيين وضعوا ملف إسقاط النظام الإيراني على جدول أعمالهم".

الخلاصة أن الإدارة الأمريكية الحالية بتركيبتها هذه التي تشبه "وزارة حرب"، أصبحت الأقرب لموقف اليمين الإسرائيلي المتزمت تجاه إيران وطريقة التعاطي معها، لذلك هي في طريقها لتكون الأكثر عداءً وتشدداً إزاءها مقارنة بالإدارات الأمريكية السابقة، والتغييرات الأخيرة في مناصبها الهامة تعيد إنتاج التشينية في السياسة الخارجية الأمريكية بقوالب ترامبية، ما يؤكد أن العلاقات الإيرانية الأمريكية ستتجه نحو مسار خطير أكثر تعقيدا وصرامة من قبل، يفتح الباب على مصراعيه أمام كافة الاحتمالات، منها المواجهة العسكرية التي على الأغلب ستكون البديل للاتفاق النووي على المدى البعيد، اذا ما أفشل ترامب الدبلوماسية والحل السياسي في 12 أيار القادم.

وعلى المديين القريب والمتوسط، على الأرجح سيكون التصعيد الأمريكي متدرجا خلال المرحلة المقبلة، ابتداء من الملف النووي، ثم الملفين الإقليمي والصاروخي عبر تكثيف العقوبات وكذلك اللجوء إلى إجراءات في ساحات النفوذ الإيراني في المنطقة.