قضايا وآراء

موقعُ العرب في مؤشر مُدركات الفساد

1300x600

أصدرت "منظمة الشفافية الدولية" قبل أيام (21 شباط/ فبراير 2018) مؤشر مدركات الفساد، للعام 2017، وشمل 180 بلداً وإقليماً. وقد تزامن مع الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها كمنظمة تُعنى بالتعريف بالفساد، والدعوة إلى محاربته والوقاية منه. أما الاتجاه العام لنتائج لتقرير هذه السنة، فلم يشذ عن سابقه، بل يمكن القول إنه خلال الست سنوات المنصرمة (2011 - 2017)، لم يشهد العالم تطورا نوعيا وعميقاً في اتجاه القضاء على آفة الفساد، وتجفيف منابعها.

بقراءة أولية للوحة النتائج المعلن عنها، نلاحظ وجود علاقة طردية بين وجود الحريات وسلامة ممارستها، وارتفاع معدلات التنمية البشرية والإنسانية، وضمور ظاهرة الفساد، وبالمقابل اتساع ثقافة النزاهة ولشفافية. لذلك، ليس غريباً أن تتربع "نيوزلندا" على عرش قلة الفساد أو انعدامه، وأن تتلوها الدول الاسكندنافية التي دأبت على احتلال المراتب الأولى، مثل الدنمارك، وفنلندا، والنرويج، والسويد، وإلى جانبها كل من سويسرا، وسنغافورة، وكندا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وألمانيا، والمملكة المتحدة. وبالمقابل، ترتبت الدول، التي غابت في ربوعها الحريات، أو ضمرت وأصيبت التنمية بالانكماش واستفحلت فيها آفة الفساد، في خانة المناطق الفاسدة والأكثر فسادا، أو الفاسدة جدا، كما هو حال البلاد العربية. إذ من عشر دول أكثر فسادا في العالم، هناك ست دول عربية، بل باستثناء دولة قطر (29) والإمارات العربية المتحدة (21)، والمملكة العربية السعودية (57)، جاءت مجمل البلاد العربية إما في مراتب الدول الفاسدة، أو في صف الدول الفاسدة جدا. وبهذا التحسن الملحوظ، تقدمت الإمارات العربية المتحدة عن فرنسا في الترتيب، وجاءت إلى جانب قطر قي مرتبة أفضل من إسرائيل.

ترتبت كوكبة من الدول العربية؛ إما قريبة من المئة دولة الأولى أو بعدها بقليل، أو جاءت في ذيل قائمة الترتيب. فهكذا، ترتبت سلطنة عمان في الدرجة 68، بعدما كانت قبل سنوات في وضع أحسن، وتونس في 74، والمغرب 81، والكويت 85، لتليها كل من البحرين 103، والجزائر 112، ومصر 117، ولبنان 143، وموريتانتيا 143، والعراق 169، وليبيا171، والسودان 175، واليمن 175، وسوريا 178.


والحقيقة، إذا مفهوماً ترتيب بعض البلاد العربية في المؤخرة، بسبب أوضاع الحروب التي مزقتها، وفتحت بلادها على كل أشكال الفساد، فإن غير المفهوم بالنسبة للدول التي تعيش نسبياً وضعا شبه آمن ومستقر، ومع ذلك يزداد تقهقرها في مراتب الشفافية، كما هو حال مصر، والجزائر، والبحرين، وموريتانيا، ولبنان، والسودان، والمغرب، وإلى حد ما تونس. وتظهر البلاد العربية، من جهة أخرى، أكثر المناطق الجغرافية تدنياً وتراجعا في سلم الشفافية واتساع رقعة الفساد. فإذا استثنيا أوروبا، ذات التراكم التاريخي في ثقافة الشفافية والنزاهة، وتوطين قيم المساءلة والمحاسبة والرقابة المالية، فإن مناطق أخرى في أمريكا الجنوبية وآسيا بذلت جهودا جبارة في محاربة الفساد والسعي إلى القضاء عليه. وبلاد عديدة منها ربحت رهان التخلص التدريجي من آفة الفساد، وفتحت لشعوبها ومجتمعاتها أبواب التخلص من التخلف، وضعف التنمية، وتراجع العدالة الاجتماعية.. لننظر إلى ماليزيا وسنغافورة مثلا، وإلى وقت قريب تركيا.. ونمعن النظر في مصادر النهضة التي عرفتها هذه البلدان خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بفضل التخلص التدريجي من آفة الفساد.

ليس التخلص من الفساد والقضاء عليه نهائيا مسألة قانون وقواعد معيارية ومؤسسات رقابة وحكامة، على أهميتها، بل هو عملية ثقافية تتأتى بالإرادة أولا، أي إرادة القضاء على الفساد في الفكر والثقافة والعقول والسلوك والممارسة. والقضاء على الفساد كذلك اختيار مجتمعي، وتخطيط وإعداد من قبل الدولة ومؤسساتها، وتصميم مزدوج من قبل الدولة والمجتمع، وإمعان في الإصرار على التعاون والتعاضد من أجل القضاء المتدرج على الفساد وتوابعه ورموزه. لذلك، نلاحظ جليا أن الدول التي حاربت الفساد وقضت عليه، هي التي توطنت في ثقافتها قيمة الحرية بأنواعها وأشكالها، واستوعبها المواطنون وتمثلوها في الوعي والوجدان، وخبروا ممارستها السليمة، وقطفوا ثمارها في حياتهم الفردية والجماعية، فأصبحوا بالضرورة أكثر حماة لها، وقيمين على ديمومتها واستمرارها. ولأن الحرية غدت إكسير حياة الناس وروح عيشهم المشترك، فقد توفرت لهم شروط تحقيق التنمية المستدامة، ومقومات الانعطاف نحو الحداثة، ثم إن مقدار قياس انغراس الحرية وتوطنها في الثقافة، يتحقق بمدى استقلال المجتمع المدني، ووعيه ذاته، وامتلاك القدرة على المحافظة بمسافة معقولة بينه وبين كل مصادر الضغط والتأثير والتدجين.

والحقيقة، لا يمكن فهم لماذا تتأخر المنطقة العربية في مؤشر مدركات الفساد كل عام، دون استحضار - وبقوة - حال الحرية والحريات إجمالا في بلداننا، والمكانة الهشة والضعيفة للمجتمع المدني، والمحنة التي يعاني منها الإعلام بكل أشكاله وأنواعه. فحين تُسدُّ أبواب الحرية، أو يُسمح بها وفق نظام القطرات، لا يمكن تصور أية إمكانية لمكافحة الفساد والقضاء عليه؛ لأن فقدان الحرية يطلق يد التحكم، ويفتح الباب أمام الفساد المتحالف معه والمؤازر له. وحين يعمُّ الفساد ويتقوى الظلم، يُصاب العُمران بالخراب، كما قال إبن خلدون، فينكمش الاقتصاد والكسب، ويأذن الكون بالانقباض.. إننا في الحقيقة أمام حلقات متراصة وغير قابلة للفكاك.. هي تحديدا حلقات ضمور الحرية، وعُسر استقلال المجتمع المدني بذاته، وأفول كل وسائل تعبير الناس عن مطالبهم وتطلعاتهم.. ودون فك الارتباط بين هذه الحلقات المتراصة والمتضامنة في المجال السياسي العربي، ستظل بلداننا متصاعدة بانتظام في سلم الفساد في العالم.