قضايا وآراء

السلطة والسياسة.. أسئلة حافلة بالقلق؟

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
بعد حركة الجيش المصري في 23 يوليو 1952م، تم حل الأحزاب ومصادرة أموالها لصالح الشعب كما ذكر بيان الحل. وكانت الذريعة المعلنة هي كيف نسمح لمكونات النظام الفاسد الذي ثار عليه الشعب أن يستمر؟ والحقيقة أن الشعب لم يثر على النظام الملكي. كما حدث مثلا في يناير 2011 (جماهير وميادين) الحقيقة أن 11 ضابطا و45 دبابة استولوا على السلطة ولم يشأ الملك أن يدخل معهم في صراع يقسم الجيش وفضل أن يتنازل لولي عهده عن السلطة ويغادر البلاد.

لم يكن قرار حل الأحزاب فى حقيقته قرارا له صلة بالتطورات القادمة في المستقبل، بل كان له صلة مباشرة وعميقة بفكرة الحكم العسكري. فحين يكون هناك حكم عسكري لا يمكن أن تكون هناك سياسة ولا ساسة ولا أحزاب ولا أفكار ـ فقط تكون هناك سلطة وقوة وأوامر وتعليمات، وهب الفكرة التى توالدت كثيرا في المنطقة العربية بل إن النظم غير العسكرية (الملكية) أخذت من تلك الجمهوريات العسكرية الصاعدة نموذجا مثاليا لذبح السياسة والسياسيين في بلادها وغلق المجال العام على السلطة الغاشمة التي تستقل بذاتها عن أي اتصال سياسي أو شعبي، وهو ما أدخل المنطقة كلها فييما يمكن أن نسميه (الحقبة البائسة)، وكانت مصر هي النموذج المفتاح لتمثل هذه الحقبة الكريهة في تاريخنا الحديث، كانت مصر، ثم كان كل ما بعدها.

ليس هناك إلا سلطة متجبرة فاسدة تحلق حولها أشخاص منافقون خادعون خاضعون مفسدون، لم نر سياسة ولا أحزابا تربي أجيالا وراء أجيال على العمل الحزبي الذي يراكم خلفه رصيدا تاريخيا كبيرا من التجارب في الحكم والمعارضة كباقي الدنيا.

كان مطلع الخمسينيات في مصر وبعد حسم عدد من المناوشات حول السلطة هو الوقت المثالي الذي شهد التأسيس الأول لما سنعرفه لاحقا باسم (الدولة العميقة) في السلطة والصحافة والأدب والفن ومجمل الجهاز الإداري للدولة، وتم كل ذلك تحت إشراف الضباط الألمان الذين عملوا لحساب وكالة المخابرات الأمريكية بعد هزيمة ألمانيا وحل جهاز (الجستابو)، وأمدت بهم أمريكا عبد الناصر بعد أن غدر بالأب الروحي والفعلي لحركة الضباط (اللواء محمد نجيب). ولك أن تتخيل مجيء مائة ضابط نازي بقيادة (أوتوس كورزيني) ضابط القوات الخاصة المقرب من هتلر إلى مصر للمساعدة في تثبيت أقدام النظام القادم بقوة على أنقاض النظام الملكي.

سيذكر المعاصرون لهذه الفترة دورا رهيبا لضابط سيكون الأقرب دائما إلى عبد الناصر، اسمه (زكريا محي الدين) سيرأس كل الأجهزة التي مكنت عبد الناصر من الانتصار على كل خصومة في كل الأوقات (المخابرات الحربية- المخابرات العامة- وزارة الداخلية) ولك أن تتخيل أن هذا الضابط المخلص لعبد الناصر كان قد حصل على وسام (محمد علي الذهبي) من فرط ولائه للنظام الملكي قبل 52!!
 
أرأيتم البشر كيف يرضون لأنفسهم أن يصبحوا كلابا عقورة لأي سيد.. أي سيد!! ونموذج زكريا محي الدين أمام أعيننا حي ومتوالد في كل العصور، البعض سيطلق على زكريا لقب (الكولونيل بيريا) وزير داخلية ستالين لتشابههما في القسوة والغلظة والشراسة وكراهية الناس.

نموذج زكريا محي الدين سيتوالد كثيرا وغزيرا وبقوة بعد 52 وسيكون لدينا طبقة سياسية صلبة اسمها (خدام الحكام). ستخدم الرئيس أنور والرئيس حسني.. وسيكون لهذه الطبقة دور رئيس في إفشال الحياة السياسية.. وتفجير أي تجمع وطني يتخذ مسارا سياسيا للمطالبة بحقه الطبيعي في المشاركة في الحكم والقرار.

ما شهدناه طوال السبعينيات بعد إقرار التعددية المسرحية وحتى ثورة 25 يناير لم يكن سياسة ولا ساسة ولا أحزابا ولا حتى شيئا قريبا من ذلك.. وحتى تجربة فؤاد باشا سراج الدين وإبراهيم باشا شكري في تأسيس أحزاب سياسية قوية تستند إلى أفكار وكوادر وقيادات.. تعوض الفقر السياسي الذي لازم البلاد منذ مجيء الحكم العسكرى إلى السلطة.. حتى هذه التجربة سيتربص بها (خدام الحكام) في كل الأجهزة العميقة للدولة.. وسيتم محاصرتها وسيستخدم بعدها الرئيس أنور السادات كل قدراته المسرحية في تأكيد وجودها على (هواه) لا على أرضية الحركة السياسية الفاعلة.

بعد ثورة 25 يناير سيتم تأسيس ما يقرب من خمسين حزبا سياسيا.. هي بالأساس لا علاقة لها بالحالة الحزبية (فكرا وتكوينا) ولا علاقة لها بالسياسة (ثقافة وممارسة).. وسيكون للأجهزة الممتدة من أيام زكريا محىي الدين (الكولونيل بيريا) دور كبير في تأسيس كثير منها.. لهدم فكرة (الدولة العادلة) بدري.. بدري.. قبل ما يتمكن المصريون الطيبون من عدل ميزان العلاقة بين السلطة والمجتمع في صورة حياة سياسية صحيحة وكاملة.. أحزاب انتخابات برلمان سلطة مراقبة محاسبة تعددية تجدي دائم ومستمر لدماء الحكم والحكومات..

يقول الباحثون إن أحد أهم أسباب تعثر محاولات الإصلاح السياسي بعد الثورة على أنظمة (الدولة الفاسدة) هو ضعف التجربة الحزبية وعدم نضوج الأحزاب التي تحولت إلى ميدان للوصوليين والفاسدين والمتلاعبين وغلبة العوامل الشخصية.
 
قادة وأنصار هذه الأحزاب يقولون بأن السبب ليس مرتبطا بالتجربة الحزبية ذاتها وإنما هو سبب موضوعي له علاقة وثيقة بالشروط السياسية المحيطة بهذه الأحزاب.. منها موت السياسة بوجه عام وغياب ما يعرف بثقافة (العمل السياسي).. وانتشار الأمية الأبجدية والفقر وسيطرة الإعلام الضال على أدمغة الناس.. نعم ليست هناك البيئة السياسية المناسبة لكن في المقابل فشلت هذه الأحزاب في الارتقاء بالحياة السياسية.. بما يؤدي إلى اكتمال (الشرط التاريخي) لقيام السياسة في واقع الناس..
 
الإقرار بصعوبة الشروط السياسية والموضوعية لا ينفي وجود أزمة ذاتية حقيقية داخل هذه الأحزاب بما يحد من قدراتها وإمكانياتها.. سنرى الفقر الفكري والسياسي لدى أغلب قادتها.. أغلبهم من عشاق (الليالي المتوهجة) ليس لديهم ما يلهمون به الناس غير الكلام المكرور شديد الخفة والسطحية.. أيضا ضعف الخطاب السياسي وعدم قدرة هذه الأحزاب على بناء جسور من التواصل مع فئات كبيرة من المجتمعات.. خاصة الشباب.. لأن المتابع سيلفت نظره حب الكوادر القائمة على الأحزاب للأداء الإعلامي وإطلاق التصريحات.. حتى باتت بعض الأحزاب (منصة) إطلاق تصريحات وبيانات.. ناهيك عن غلبة عوامل (الشخصنة) و(الانشقاقات) وثقافة الشللية والتنظيمات السرية.. أيضا غياب الحضور الفاعل للمثقف العضوي (الجرامشي) والمفكر في توجيه الحزب وتحديد خياراته.. وغلبة ثقافة الصياح والضجيج..
                   
ما نراه الآن في المجال السياسي ليس إلا حبا في الظهور وطلب الجاه والشهرة التي قد تأتي بمنافع ومصالح، وأيضا طريقة أنيقة لشغل أوقات الفراغ.
0
التعليقات (0)