كتاب عربي 21

كيف تحمي الديمقراطية نفسها من الخيانة الداخلية؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
في شهر مايو 2016، حدث في البرازيل حدث لا يمكن أن يمر دون استخلاص العبرة، فقد اصطنعت تحقيقات قانونية قائمة على شبهة فساد لدفع رئيسة البلاد المنتخبة إلى الاستقالة و فسح المجال لبديل غير ذي وزن في الساحة السياسية، لكن له وزن ثقيل عند جهات خارجية عملت على توتير الوضع السياسي وخلق الأزمة، التي انتهت إلى وضع حد (مؤقت) لتيار حكم وطني شعبي كان وضع البرازيل في قائمة الدول الغنية والمؤثرة في العالم. 

ويراد لهذه الأزمة أن تكون بداية نهاية تيار اليسار الاجتماعي الذي حكم في السنوات الثلاثة عشر الماضية ووجه البلاد عن الاقتصاد التشاركي الاجتماعي ومكَّن لفقراء البرازيل من أسباب الحياة. ورغم أن (اللعبة الديمقراطية قد تعيده في أول انتخابات) إلا أن مسارات التهرئة السياسة المحكمة قد تجعله تيارا أقليا غير ذي تأثير وتنكشف لمن يريد أن يرى القوى الحقيقية المنزعجة من التجربة التشاركية ذات المنحى الاستقلالي.


ليست البرازيل حالة فريدة في منطقة أمريكا اللاتينية كما أن محاولات تخريب حكمها الوطني ليست جديدة. نتذكر هنا الدرس الشيلي ويمكننا أن نعدد ففي كل بلد درس من التخريب باستعمال الانقلابات العسكرية والمخابراتية (منذ المحرر بوليفار). والجديد هذه المرة هو التغيير في الأساليب. لقد خربت الديمقراطية من داخلها وبأقل كلفة على ممولي الانقلابات السابقين لقد وجدوا لهم في الداخل يدا طيعة تفعل ما يريدون.

اليد الداخلية المتواطئة.


نشترك في المنطقة العربية مع الدروس اللاتينية في وجود اليد الداخلية الممدودة للأجنبي منذ بدايات الاستقلال. ولم ينته الأمر بانطلاق الربيع العربي ففيه تجلت خيانات جديدة. ويمكننا البدء في تقديم الأمثلة منذ الانقلاب المصري ولن نمر دون ذكر حكام الضفة الساهرين على راحة العدو في دولته. لقد وجدت دوما نخب سياسية مستعدة لمد يدها للتعاون ضد مصالح أوطانها وشعوبها. وكان خطابها قائما على أن شعوبها لم تنضج بعد لتقبل الديمقراطية وأن طريقة حكمها المثلى هي سوقها كالقطعان إلى الطاعة والصمت.

ورغم ما أثبته الربيع العربي منذ بدايته من توق هذه الشعوب إلى الديمقراطية وقدرتها على تطويرها. حيث كانت شعارات الربيع بناء الديمقراطية وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية. إلا أن الملاحظ أن القوى الخارجية بما فيها التي كانت محسوبة على الأصدقاء أزعجها توق الشعوب إلى الاستقلال فسارعت إلى إحباط التجربة والعودة بها إلى مربع الديكتاتوريات. الجديد في المشهد العربي الآن هو أن الكثيرين ممن طالب في السابق بالديمقراطية ورفع شعارات الاستقلال الوطني انكشف كيد داخلية مستعدة للخيانة. بما كشف جبهة داخلية مخترقة بالكامل ولديها فقط القدرة على خيانة شعوبها.

لا يوجد في بلدان أمريكا اللاتينية صراع بين علمانيين وإسلاميين بل يوجد صراع بين وطنيين وعملاء. والحرب هناك سجال بينهما لكن المنطقة العربية مخترقة بهذا الطاعون القائم على التنافي المطلق. وكل تجارب التحرر اصطدمت بهذا الجدار. فإذا أراد المرء أن يسأل كيف يمكن تجاوز هذا العائق الديمقراطي دُمِغَ بالسؤال من الوطني ومن الخائن في الصفين؟ هل هم الإسلاميون أم العلمانيون؟. هذا السؤال يهرب إلى البدايات لا ليقدم قراءة وحلا بل ليكرس تبادل التهم بالخيانة الوطنية وتبرير كل أشكال الحكم التسلطي الذي تمارسه الأنظمة. أما احتمال تحالف الإسلاميين والعلمانيين وجزء منهم يساري استقلالي ضد الأنظمة فلا أحد يريد الرد عليه ردا عمليا. الجميع يستسهل التنافي ولو كانت النتيجة موته كما في الحالة المصرية.

بإمكان المرء هنا أن يقف موقف المزايدة ويرمي الجميع بالخيانة وينقذ نفسه ولكن ذلك ليس إلا حلا فرديا يبرر بدوره العجز عن المشاركة لتسهيل الخيانة من موقع فردي وهو حل نخبوي بامتياز.

الحالة التونسية ليست الحل.

يزعم التونسيون الآن أن بلدهم يقاد من طرف تحالف علماني إسلامي وأنهم يشكلون بداية الرد على السؤال العدمي المذكور أعلاه. لكن هل هذا تحالف استقلالي وسيادي أم هو إعادة تلوين النظام السابق بلون متسامح يعوم قضية الاستقلال والسيادة؟

ظاهريا يمكن تبادل التهاني على إنهاء الحرب الداخلية ضد مكون أساسي في الساحة هو الحزب الإسلامي (النهضة). لكنها تهاني تمويه على بقاء القضايا الأساسية خارج التداول المؤسس للديمقراطية بصفتها ضامنة السيادة الوطنية. مما سيطرح السؤال الجوهري الجديد والمهم كيف تحمي الديمقراطيات الوليدة نفسها؟ 

من المهم في بدايات تأسيس الديمقراطية أن يوضع حد للاحتراب الداخلي ولكن يجب أن يكون لهذه السلم الداخلية هدف أسمى من كف الأذى والركون إلى الصمت. إذ يصبح السؤال ما فائدة الديمقراطية السياسية إذا لم تملك القدرة على حماية بلدانها من الاختراق وقطع اليد التي تمتد للتعاون ضد الديمقراطية نفسها.

هنا نعود إلى الحالة التونسية، هل يتقدم التونسيون نحو تكريس سيادتهم على بلدهم وحماية تجربتهم؟ إجابتي على هذا السؤال بالسلب.

الحكومة المنبثقة عن حالة كف الأذى لا تملك برنامج حكم. وورطتها أمام شروط المقرضين الدوليين كشفت هوانها وقلة حيلتها، فقد تلقت أوامر مباشرة من صندوق النقد الدولي بتعديل قوانينها الداخلية على اجتماع البنك؛ لتحصل على قروض بشروطه (وحسب جدول أوقاته)، وما كان بإمكانها أن ترفض.

لكن ليست الحكومة وحدها من تعيش الورطة إنما معارضة هذه الحكومة في ورطة أكبر. لأنها نفس الوقت الذي تثبت فيه وعيها النظري بخطورة الهيمنة تدفع حكومة بلادها إلى الخضوع للهيمنة. إن لدى هذه المعارضة التي يقودها اليسار الراديكالي من داخل البرلمان ومن وراء حجاب النقابة القوية وعي بالوضع الاقتصادي المحلي والدولي فخطابها وطني استقلالي نقي وطاهر من العمالة ولكن ممارستها ضمن منطق التنافي الأزلي بين اليسار والإسلاميين يدفع الحكومة التي يسندها الحزب الإسلامي بقوة إلى المزيد من التورط في رهن البلد. وهي تحسب أنها تحسن صنعا بإضعاف الحكومة وتهرئتها سياسيا. كأنما يغيب عن وعيها أنها لو تلقفت البلد لتقوده ستجد طريق القطع مع المديونية سالكا ويكفي أن تحوز أغلبية برلمانية لتنهي بقرار حالة التبعية (كأن الأغلبية البرلمانية تنتظرها في محطة القطار الانتخابي القادم).

الغباء أمام العدو هو الخيانة الكبرى.

إن التقدم إلى الحكم بدون برنامج تنموي يكرس الاستقلال والسيادة غباء كبير يؤدي إلى خيانة للديمقراطية وتخريب الاستقلال. ومعارضة ذلك بدفع الحكومة وأحزابها إلى المزيد من التورط في هذا الغباء ليس عملا وطنيا بل هو خيانة أخرى. ولذلك يجب إعادة قراءة الدرس البرازيلي رغم أن الحاكمة البرازيلية هناك تملك برنامجها. ولكن تعليمية البرازيل هي أن الاختلافات الداخلية بين من في الحكم ومن يعارضه يفتح ثغرة دخول القوى الخارجية المعادية للديمقراطية والاستقلال فيصبح السؤال إذن كيف نحمي الديمقراطية ونكرس السيادة ولا نفتح ثغرة للتدخل الخارجي؟

لنتصارح إذن أمام الديمقراطية والوطن.

يمكننا أن نورد ألف مثال من الديمقراطيات العريقة على أنه في لحظة المساس بالسيادة تختفي الخلافات بين الحكم ومعارضيه ليتم لحم الصفوف أمام العدو( مثال الديمقراطيات الغربية أمام التهديد الإرهابي). وتونس الآن وهنا أمام تهديد حقيقي بفقدان الحد الأدنى من الاستقلال والسيادة (هناك اتفاق جماعي على إنها ولدت منقوصة). وأن اللحظة ليست للمزايدة بل للاتفاق على صيانة الحد الأدنى. وقد وصلت التجربة منذ انتخابات 2014 إلى نهاية مؤسفة ومنذرة بالهلاك ويجب التوقف عن العبث بمصير البلد. فلا الأحزاب الحاكمة الآن قادرة وحدها على الخروج من المأزق ولا المعارضة تملك أن تقود من بعدها مهما زايدت بالوطنية.

لنقدم الوطن على الأحزاب وعن موروثات الصراع الإيديولوجي العدمي الذي حكم النخب منذ تشكل الأفكار والأحزاب. فلم يعد الوضع يسمح بخوض حرب داخلية يكون البلد ضحيتها. وإذا كان الحد الأدنى الديمقراطي قد سمح لنا حتى الآن بالحديث بحرية عن مستقبلنا فالأولى بمن يتصدى للشأن العام أن يثمن هذا الحد من الحريات ويبني عليه حوارا وطنيا جديا غير ملغوم بالكيد والفتن المؤجلة. فلا نعود بغباء إلى الحالة المصرية التي تكمم الأفواه وتبيع البلد بسعر التجزئة. هذه هي الحيلة الوحيدة الممكنة لحماية التجربة الديمقراطية وتطويرها من الداخل في اتجاه تكريس السيادة الوطنية. والعاقل من اتعظ بغيره.
0
التعليقات (0)