كتاب عربي 21

مَنَامَة عَتَارِسْ

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
والمَنَامَة الحُلْمُ والقول يضرب للرجل يطلب ما لا يستطيع. فقد كان عتارس عبدا يحلم بالحرية ولا يقوم لها. فضرب به المثل في التواني والإرجاء المفضي إلى العجز وانقضاء الجهد في التمني. وقد ضرب رئيس تونس الحالي به مثلا عن المسؤول النقابي الذي صرح بأن ثورة ثانية تتهيأ في تونس لتقويض النظام وإحلال العدالة.

وقد سكت النقابي أمام سخرية الرئيس بما فهم منه أن كلام الباجي كان تهديدا وحطًّا من شجاعة في غير وقتها. فجعل منامته أقرب إلى التمني العاجز منها إلى العزيمة النافذة. ولكن أيُّ الرجلين كان على حق؟ أي هل أن تونس واقفة على حافة ثورة ثانية أو موجة ثانية تكمل ما لم تنجزه الموجة الأولى من الثورة؟ وقد ارتفعت حرارة السؤال تحت تأثير احتجاجات اجتماعية في منطقة مفقرة بالجنوب اكتشف فيها أخيرا نفط مغر. 

العقل الاستئصالي المتحكم في المشهد

هل يمكن تحليل الوضع السياسي التونسي خارج الصراع الأزلي بين اليسار الاستئصالي وبين الإسلام السياسي؟ هل يمكن  تحييد  هذا الصراع عند إدارة الوضع على الأرض؟ يوجد هنا مفتاح قراءة لا يمكن التغاضي عنه والحديث عن ثورة ثانية لا يقع خارج  هذه المعركة بل قد يفسر لنا فشل الثورة الأولى. دون أن ينفي ذلك وجود أسباب حقيقية على الأرض وخارج هذا الصراع يمكن أن تفجر الوضع بدون مقدمات  نظرية. 

مخرجات انتخابات 2014 أنتجت وضعا غير مسبوق يقوم على تحالف بين حزب النظام القديم بمسمى جديد (النداء) وبين الإسلاميين (النهضة) وهو الوضع الذي أوحى بنهاية صراع دام ثلث قرن بينهما. وتفاءل البعض بخروج الوضع التونسي من صراع الهويات إلى صراع البرامج. ولكن هذه الحالة وضعت كتلة اليسار على طريق التلاشي. وهنا نجد بدء الإشارة إلى الثورة الثانية وفهم المقصود من التصريح.
الجميع يتذكر أن الفاعل الرئيسي في إسقاط حكومة الترويكا المستندة إلى النهضة كعمود فقري هو التحالف بين النظام القديم واليسار في اعتصام باردو. يفتخر النهضويون أنهم تراجعوا لصالح البلد وحقنوا الدماء ويفتخر اليسار خاصة بأنه أسقطهم إلى غير رجعة وقضى عليهم والنتيجة واحدة لا مجال للتعايش بين هذين المكونين السياسيين في ساحة واحدة. 

انكسر حتى الآن التحالف يسار ونظام قديم وقام تحالف جديد نهضة ونظام قديم. في الحالتين المنظومة القديمة هي محور التحالفات وهي من يحكم في مجرى الأحداث ويوجه السياسي والاقتصادي. والبقية مكملات للمشهد. المطلوب الآن يساريا كسر التحالف الجديد واسترجاع التحالف القديم. بلغة أقل أناقة إخراج النهضة من فراش التجمع والدخول في مكانها. والمطلوب نهضويا منع هذا الاحتمال ولو بالتنازل عن كل شيء حتى هامش الحرية الذي تمتع به الناس تحت حكمها. هكذا يستمر الصراع في مرضاة النظام القديم. إذن، هل نصدق الحديث عن ثورة ثانية؟ 

ماذا بقي بيد اليسار ليقوم بهذه الثورة؟ 

الإفراط في استعمال النقابة أدى إلى استنزافها. لقد صار الاتحاد عامة أداة تخريب ممنهج ضد كل من في السلطة. لكن إلى أي حد يمكن أن تستجيب السلطة؟ ماذا بقي لديها لتعطي مقابل الاستقرار؟ تبدو الورقة النقابية فاقدة للصلاحية وسيتكون بدون تأثير في الأيام القادمة. وهناك احتمال كامن بعد هو تحالف المنظومة القديمة مع النهضة في المؤتمر القادم(2016) بما ينهي أو يحجم إلى أدنى حد وجود اليسار الاستئصالي في رأس النقابة. وهو الاحتمال الذي ينتزع ورقة النقابة من يد اليسار ويغرقه في صراعاته الخاصة وهي قائمة دوما. لذلك عندما تكلم الباجي (الرئيس) عن منامة عتارس ردا على فهلوة العباسي (رئيس النقابة) كان يعرف أن النقابة لم تعد شعبية ومقبولة وخاصة لم تعد يسارية خالصة بما يجعلها تهدد بما لا تملك. وفي غياب النقابة كيف يمكن لليسار أن يحرك الشارع ويقوده وهو الفاقد للقاعدة الجماهيرية الواسعة التي تتمتع بها النهضة من جهة ويملك الحزب الحاكم قاعدة الحزب القديم كلها وهما الجهتان اللتان لهما مصلحة  في الاستقرار المرحلي؟

الدفع إلى الفوضى ثم التصرف على أساسها

الخطة تبدو كلاسيكية ومجربة. خلق ظروف عدم الاستقرار الكامل وتحريض المطلبية الشعبية في التنمية وفي وضع عدم الاستقرار تضطر السلطة إلى توظيف كل القوة المتاحة بما يزيد من حالة التمرد فيدخل الوضع في دوامة تبرر القوة. فتستعيد منظومة الردع المتربصة سلطتها كاملة ويعاد بناء التحالف القديم شق اليسار الاستئصالي مع شق النظام القديم الرافض لأي تقارب مع الإسلاميين. أي الوضع المماثل لبداية حكم بن علي(مذبحة الإسلاميين). هذه الخطة تضع حدا لخطة النهضة بتفكيك النظام القديم من داخله بالتحالف مع شقه الدستوري غير الاستئصالي وإقصاء اليسار.

فنعود إلى إقصاء الإسلاميين بالتحالف مع شق دستوري استئصالي. ونكتشف مرة أخرى أن الصراع يتم دوما داخل المنظومة القديمة ولصالحها وبأدواتها. ويتجلي لنا أن قضايا الشارع الحقيقية ليست قضايا النخبة بل هي مجرد ذريعة لخلق التحولات في المركز المحيط بالسلطة. ولكن، هل يمكن بعد قيام تحالف بين اليسار والأمن على طريقة بن علي؟

حظوظ تحريك الشارع باسم المطلبية؟

ليس هناك خلاف أن المرحلة الانتقالية والسلطة القائمة الآن قد ضربت صفحا بمطالب الثورة الاجتماعية وأن منظومة الزبونية قد استعادت آليات عملها كاملة. رأس مال هجين ومناول يتهرب من الضريبة الواجبة ويقاول على القطاع العام فيستنزفه.ويتجلى مرة أخرى الاصطفاف بين طبقة المستفيدين حول السلطة ومنها ضد طبقة المهمشين في الداخل. وتبدو قضية المناجم والمحروقات محركا فعَّالا للاحتجاج باسم  التمييز الايجابي. يتحرك قطاع واسع من الشارع دون قيادة ذات مشروع ويلاقي خطاب التحريض تقبلا في الجهات دون ظهور أسماء المحرضين السياسية (القرص بيد خفية).

بما يجعله تحريضا لابتزاز النظام بفوضى الشارع وليس للثورة. إنه تحريض يبتز النظام ولا يغيره وهو وضع مماثل لوضع الثورة الأولى ثورة الأفق المحدود. والمطلب سيتجلى وقد يلبى في مفاوضات لن يسمع عنها الشارع. لكن لو انفلت الشارع فهل سيكون هناك من يتحكم فيه فعلا و"يبرِّدُه" في الوقت المناسب؟ هنا مربط الفرس.

نرى حزب النهضة يملك عدديا أن يحرك الشارع وأن يقوده لكنه لا يفعل ذلك ويسعى إلى التمكين لنفسه بالعمل على المدى الطويل بتفكيك النظام من الداخل لإنهاء وضع الإقصاء الأبدي. لكن هذا هدف حزبي وليس مطلب الشارع إذا انفلت بما يجعل الحزب بدوره هدفا للشارع وليس جزء منه وإن كان شعب النهضة المفقر في قلب الاحتجاج.

ونرى اليسار يملك الإعلام ويملك قدرة على التحريض في الشارع لكن هدفه كسر المنظومة التي تستوعب النهضة مرحليا وليس الثورة الاجتماعية. لم يكن استئصال الإسلام السياسي يوما هدفا للشارع المفقر. لذلك فمطلب اليسار ليس مطلب الشارع.

وهكذا نصل مرة أخرى إلى صورة النخبة المناورة بالشارع لمصلحتها دون مصلحته. بما يجعلها كلها أهدافا للشارع إذا انفلت ويعجزها أن تستوعب انفلاته في الوقت المناسب.

هل هي منامة عتارس؟

الرئيس الذي اعتاد السياسة في الكواليس وتدبير الأمور بالرشوة السياسية يقف عند حدود تجربته القديمة. القائمة في جوهرها على احتقار الدهماء الغبية.ويبدو انه يفرط في تقدير التطمينات النهضوية بعدم انفلات الشارع  وخاصة عندما يتحدث عن النهضة كشريك فوق مرتبة الحليف.

لكن الأمر ليس بهذه السهولة ثمرة الثورة المغدورة من النخب مُرَّة في حلق الشارع إلى درجة لم تبق له عقلانية المطالبة السلمية. فضلا عن احتمال الخضوع لمركب التخويف الأمني وهناك بعض الأحداث على محدوديتها تؤشر على تحرر الناس من ربقة الخوف إلى الأبد (تمغزة والحامة والفوار والعداد مفتوح).لم يعد للناس مكاسب يخسرونها.وسيزيد التحريض النفعي الابتزازي من وعيهم بأن النخب السياسية التي سرقت ثورتهم الأولى تنوي استعمالهم مرة أخرى لمطالب غير مطالبهم. وهنا ستنتهي منامة عتارس.

ماذا سيحدث بعد ذلك؟ لن يكون الباجي موجودا ليجيب سيكون هدفا لتدخلات التهدئة في مرحلة حرجة من الاحتجاج فقد سبق أن خدع الشارع بتغيير رأس النظام ولكن الدروس المرة تترك وعيا مرا لا يمكن خداعه. ساعتها سيعرف عتارس أن قد فرط في حلمه من أجل يقظته الكسولة. ولا بأس أن نفهم هنا أن عتارس ليس شخصا بعينه بل هو جملة الأشخاص المتحكمين في المشهد معتقدة أنها متخصصة في الجنقلة (Jonglage ) (juggling) بالتوازنات الجيوستراتيجية في وضع دولي متحرك يملك ميكانزيمات تغيير الوقائع طبقا لمصالح عتارس الدولي المعولم.  
التعليقات (0)