كتاب عربي 21

الثقب الأسود في تونس: الطاقة

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
الاقتصاد التونسي في حلقة مفرغة كاستتباع لسياسات النظام الذي قامت عليه الثورة والذي لا نزال أسرى له رغم تغير الحكومات. احد أسباب الثورة زيادات الأسعار العالمية منذ سنة 2007 (سواء الغذائية آو الطاقية) وهو ما أدى إلى زيادة نسبة الدعم الحكومي وهو ما أدى بدوره إلى زيادة العجز، ولتغطية العجز تم اللجوء بشكل مطرد للتداين من الخارج، مضاف إلى ذلك نسبة الفساد القياسية. لذلك تأثير كارثي على التنمية. مثلما برهن محمد ميمون في مقال سنة 2013 في دراسته للدين العام في تونس منذ سنة 1970: كلما زادت نسبة الدين العام في تونس 1% تتقلص نسبة نسبة النمو بـ0.17%. 

أهم أخبار هذا الأسبوع لا تجد الحيز المناسب في الإعلام التونسي: مطالبة محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري عبر لجنة خبراء التدقيق في معاملات المؤسسات التونسية المعنية بشراء وبيع النفط بسبب عدم انعكاس انخفاض أسعار النفط عالميا عنها في تونس. 

عديد الإطراف بما في ذلك المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية طالبت بالأرقام الدقيقة للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية في مراسلات رسمية، وهو ما جوبه برفض كامل. احد أهم نقاط البرنامج الانتخابي الأخير لحزب المؤتمر التدقيق الكامل في معاملات هذه المؤسسة، لأننا نعلم أن ذلك سيفتح احد أهم ملفات الفساد في تونس، وسيطرح إمكانيات جديدة في الملفات الأهم في الاقتصاد التونسي مثل إصلاح الدعم والتحكم في عجز الميزانية دون المس بمصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة. هذا موضوع رئيسي بعيدا عن خلفيات الاستفاقة المفاجئة لمحافظ البنك المركزي.

وهذا الوضع من بين الأسباب الرئيسية لتفاقم الدين العام. فمن المسائل التي تستعجل الحكومة المصادقة عليها في مجلس نواب الشعب في الأيام الفارطة: قرض من الاتحاد الأوروبي بـ300 مليون دولار. بعيدا عن الشعبوية كنا اعترضنا على هذا القرض للأسباب التالية:

أولا، الشروط المضمنة في القرض، والتي تتجنب عرضها على الرأي العام بل أيضا نواب مجلس الشعب، تركز على "إصلاحات هيكلية" تطرح إصلاح منظومة الدعم ضمن معايير غامضة ومن 
الصعب أن تكون منفصلة عن معايير صندوق النقد الدولي التي تطرح، على سبيل الذكر لا الحصر تحرير الأسعار وفق الأسعار العالمية وهو تغيير يمكن أن يؤدي إلى استتباعات اجتماعية موجعة اذا لم نتهيأ بعد ونضع منظومة دعم تستهدف من يحتاجونه وفق معطيات إحصائية دقيقة. للتذكير دفعت تونس قيمة هذا الدين الأوروبي السنة الماضية فوائد دين. 

ثانيا، من الشروط المطروحة أيضا في القرض تخفيض الضرائب على الشركات خاصة "off shore" وذلك بدون رؤية إصلاح جبائي تركز على أهم مشاكله أي التهرب الضريبي وبدون ذلك ستبقى الطبقات الوسطى والفقيرة هي التي تتحمل الجباية. هذه رؤية نيوليبرالية للجباية وعلى الحكومة أن تقول ذلك بصراحة. 

ثالثا، التهرب الضريبي هو احد أسباب العجز في الميزانية التي تؤدي بنا إلى الاقتراض أصلا. 
قدمت كتلة المؤتمر في المجلس التأسيسي سابقا مقاربة تطرح واقعيا إمكانية استخلاص 
حوالي مليار دينار في حالة مواجهة جدية للاستخلاص الضريبي. 

رابعا، نعيد طرح ضرورة إجراء تدقيق في الديون وهو موقف لطالما دافعنا عنه ولم نستطع تحصيل أغلبية في مجلس نواب الشعب من اجله. لا نريد إلغاء الديون بشكل كامل فذلك سيطرح قطيعة ذات استتباعات خطيرة مع المنظومة المالية الدولية. لكن مطلب التدقيق واقعي إذا وقفت كل القوى السياسية وراءه ودافعن عنه. موقف موحد مثلما حدث في اليونان يجبر المؤسسات المالية الدولية على إعادة التفاوض.

مثلما وضحنا بالتفصيل في البرنامج الانتخابي للحزب من علامات غياب النجاعة في ظلّ الدكتاتوريّة، أنّ فاتورة الدعم المباشر للطاقة، وهي نتيجة تراكم القرارات السابقة منذ عقود (إذ إنّ سياسات الطاقة هي سياسات بعيدة المدى لا تظهر آثارها إلاّ بعد سنين عديدة)، بلغت 3734 مليون دينار في ميزانيّة الدولة لسنة 2013 (تقريبا 14% من جملة ميزانيّة الدولة)، ممّا يمثّل أكثر من 75000 مواطن شغل قارّة.

وليس سبب هذا الحجم الكبير من الدعم هو تراجع الإنتاج إثر تعطيل المجلس التأسيسي وتشبّثه المفرط بتطبيق الدستور الجديد (الفصل 13 بالتحديد)، كما صرّحت بذلك حكومة التكنوقراط، و لكن السبب هو ضعف منظومة الرقابة و متابعة الشركات المنتجة ونقص الشفافيّة ووجود عقود غير متكافئة، منذ عهد الدكتاتوريّة، بين الشركات الخاصّة العملاقة والدولة التونسية.

ومن أهمّها عقد استغلال حقل "مِسكار" للغاز الطبيعي الموجود في عمق بحر صفاقس، على بعد حوالي 100 كم من الساحل. الغاز المستخرج من هذا الحقل يستعمل لتوليد أكثر من نصف الاستهلاك التونسي للكهرباء، ممّا يمثّل قيمة قريبة من 1500 مليون دينار سنويا. 

هناك إشكاليّتان بالنسبة لهذا الحقل. الإشكاليّة الأولى هي أنّ الدولة التونسيّة أسندت حقل مِسكار بنسبة 100% للشركة المستغلّة BG. وهذا يبدو مخالفا للفصل 13 من الدستور الجديد الذي يضمن حق ملكيّة الشعب للموارد الطبيعيّة الموجودة تحت السيادة التونسيّة. بل إنّه مخالف حتّى لقانون المحروقات لسنة 1999 الذي ينصّ على وجوب مشاركة الدولة التونسيّة في كلّ مشروع إنتاج لمحروقات مستخرجة من أراضيها. 

أمّا الإشكاليّة الثانية فهي سعر الغاز. تونس (عن طريق STEG) هي المشتري الوحيد لغاز مِسكار وتمّ الاتفاق في المعاهدة بين تونس والشركة المستغلّة على تعديل السعر على الأسعار الأوروبيّة للنفط الخام، بحساب المكافأة الحراريّة. ومن سوء الحظّ، سعر النفط قد ارتفع بعد ذلك كثيرا في السوق الأوروبيّة في حين أنّ الأسعار العالميّة للغاز لم تبلغ نفس درجة الارتفاع، خاصّة في الولايات المتحدة. ولو وقع الاتفاق على تعديل السعر على سعر الغاز في السوق الأمريكيّة، أو على الأقلّ على وضع سقف لارتفاع السعر، كما تفعل العديد من الدول للتزوّد بالغاز، على غرار الجزائر، لكان بالإمكان تقليص الدعم بما يقارب 300 مليون دينار سنويا. ولو وقع تشريك الدولة التونسيّة بنسبة 50% في حقل مِسكار، لأصبح نصف الغاز الصادر من مِسكار غير خاضع للسعر العالمي ولانزلاق الدينار بل تكتفي الدولة بتغطية تكلفة إنتاجه التي لا تتجاوز نصف السعر العالمي، ممّا يقلّص أيضا الدعم بما يقارب 300 مليون دينار. 

من الواضح أن مواجهة الوضع الحالي تتطلب حزمة قوانين. أهمها قانون حازم إزاء تضارب المصالح على غرار القانون الأمريكي "قانون ممارسات الفساد الأجنبي لعام 1977" (ForeignCorrupt Practices Act of 1977). وايضا فيما يخص الشفافية على غرار القانون الأمريكي Dodd-Frank Act of 2010  خاصّة الفصل 1504 الذي يفرض على شركات النفط والغاز نشر جميع معاملاتها مع الدول الأجنبيّة.

كذلك من الضروري ألا يكون إدارة الشأن الطاقي موضوعا تكنوقراطيا تحيط به الكثير من الأسرار الغامضة. 

لمزيد من الديمقراطية في إدارة قطاع الطاقة يجب مثلما اقترحنا في برنامج حزب المؤتمر إحداث هيئة تكون وسيطة بين السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة و تكون في نفس الوقت فنيّة وغير مسيّسة أي مجلس وطني للطاقة متكوّن ولو جزئيّا من خبراء يزكّيهم مجلس نواب الشعب. أهم صلاحياته الحرص على الشفافيّة والحوكمة الرشيدة ونشر المعلومات الفنيّة والاقتصاديّة وإبداء الرأي على تعريفات الطاقة، خاصّة تعريفات الكهرباء حسب مصادر الإنتاج: طاقات متجدّدة أو محروقات. وذلك على أساس متابعة دقيقة لتكاليف الإنتاج. وهو ما يعني ضرورة منحه حق النفاذ إلى أماكن الإنتاج والتقارير ووثائق المحاسبات والوثائق التقنيّة والعقود مع وضع عقوبات للمؤسسات التي ترفض إعطاء المعلومات و تعطّل عمل المجلس. متابعة الإخلالات ووضعيات التبذير الموجودة ولفت انتباه السلطة التنفيذيّة لإيجاد حلول وفرضها، مثلا: إشكاليات تمويل الاستثمارات الطاقيّة، التبذير في التنوير العمومي، أو بطء حركة مرور السيارات، أو في البناءات الكثيرة الاستعمال للطاقة...
التعليقات (0)