أفكَار

محاولة لفهم الإجماع الغربي على حماية "إسرائيل" رغم حرب الإفناء التي تخوضها

تفسير التماثل بين نخبة الديمقراطية الغربية ونخبة الدكتاتورية العربية والإسلامية ليس واحدا رغم أن السلوك واحد- الأناضول
تفسير التماثل بين نخبة الديمقراطية الغربية ونخبة الدكتاتورية العربية والإسلامية ليس واحدا رغم أن السلوك واحد- الأناضول
توجد حقيقة كانت مجهولة قبل طوفان الأقصى: بيان ما تخفيه مسرحيات الديمقراطية في بلاد الغرب إذا قارنا أقوال أغلب نخبهم السياسية وحتى الفكرية بأفعالهم: وهي في الحقيقة لا تختلف عن الدكتاتورية في البلاد العربية والإسلامية التوابع  لهذه القوى التي تزعم النموذج  الحضاري.

ولا أحتاج لاستدلال طويل أو معقد لإثبات ذلك: فيكفي أن يقارن بين مواقف النخب الغربية السياسية والفكرية قبل سن اليأس في الممارستين والتقاعد. فهم في هذا الأخير يتظاهرون بالمواقف الخلقية والمراجعات التي تتظاهر بالصدق بخلاف ما كانوا عليه قبل التقاعد. وهو ما يزينون به سيرهم ومذكراتهم.

لكن تفسير التماثل بين نخبة الديمقراطية الغربية ونخبة الدكتاتورية العربية والإسلامية ليس واحدا رغم أن السلوك واحد. وتلك هي العلة التي تجعل المسألة جديرة بالعلاج لفهم سرها ما يعني أن النوعين يخضعان لنفس الظاهرة ولكن بتعليل غير متماثل.

فلنأخذ أي نظام عربي وسنرى أن الطاغية على شعبه فيه أذل خلق الله لدى حاميه، ومن ثم فهو غني عن النفاق ما دام يشعر بالحماية التي تحفظ له كرسيه مقابل تمكينه حاميه من ثروة شعبه ومن حريته وكرامته بجعله في خدمته خدم الحامي من أدناهم إلى أسماهم ويكفي أن يكون الأسمى معينا من الحامي مباشرة.

ويمكن وصف هذا النوع من الطغيان بالدرجة الأدنى من الرؤية المافياوية. لكن الطغيان عند الذي يطبقه الحامي كان يظن مقصورا على سلطانه التحكمي في المستعمرات والمحميات أي المستوى الأول الذي سيمته المستوى الأدنى من الدرجة الأدنى من الرؤية المافياوية.

لكن مزية الطوفان أنه بين أن الدرجة الثانية هذه ليست الأسمى بل هي الأوسط. يوجد مستوى فوقها هو ما يمكن وصفه بدولة عميقة في كل دولة تدعي الديمقراطية هي التي  تجعل النخب العربية هي بدورها في خدمة من يسيطر عليهم ويبتزهم كما يسيطرون هم على من يتبعهم منهم ومن نخب المحميات ويبتزونهم.

إذن نحن في حضرة مثلث مبسط لا يفهم من دون وصلتين بين الأوسط وسابقة لاحقة. والأوسط النظام الديمقراطي الغربي بين النظام الطغياني العربي والنظام الخفي أو الدولة العميقة في كل  بل على حدة ثم على كل القوى المسيطرة على العالم وهذا الأخير هو الجامع بين النوعين الأولين والمحدد للوصلتين.

فلنبحث عن الوصلتين ما هما؟ وكلتاهما حاضرة في الالتفاتتين من الديمقراطية إلى سيطرتها على محمياتها ومن الديمقراطية إلى من يسيطر عليها من هذه المافيا العالمية التي هي شبه حلف بين الدول العميقة في الدول الديمقراطية أولا وفي المحميات التابعة لها ثانيا إما بتوسطها أو حتى مباشرة.

وهذه الوساطة المضاعفة هي سر الكونية في سلطان المافيا العالمية التي تمثل الدولة العميقة في كل دولة ذات قوة عالمية ثم في دولة عميقة عالمية توحد بينها بسلطانها المتجاوز للقوى الجزئية والجامعة لها في قوة عالمية واحد..ة سأحاول تعريف سلطانه وما هو وصف أدواته وغاياته.

لا يوجد مسلم يجهل قصة العجل الذي صنع من الذهب المسروق من المصريين وكان له خوار. وكلنا يعلم أن الذهب يعد قبل العملة الورقية والكتابية الدولية العملة الكونية في المجتمعات المتحضرة. فإذا جمعنا سلطان العملة (الذهب) وسلطان الكلمة (الخوار): تبين أن البنك والإعلام هما أداتا سلطان مطلق. لكن لا يمكن للعملة أن تصبح أداة سلطان وللكملة أن تصبح أداة سلطان إلا إذا انتقلا من كون الأولى أداة تبادل للبضائع والخدمات والثانية في الاقتصاد أداة تواصل للمعلومات والمنهجيات في المعرفة إلى كون الأولى ذات سلطان على المتبادلين والثانية على المتواصلين.

فكيف تحصل هذه النقلة؟ في العملة بالتداين وفي الكلمة بالتشايل. والتداين هو أصل ربا الأموال والتشايل هو أصل ربا  الأقوال. البنك يسير بربا الأموال والشللية بربا الأقوال أو الواسطة في الرتب الاجتماعية لأن الواسطة تكون بين الشلل التي يستخدم بعضها بعضا دون كفاءة حقيقة: الواسطة تعوضها ويسميها ابن خلدون ثمرة الجاه.

أهمية الإسلام ليس بخلو الإمبراطوريات التي نشأت من منطلق رؤيته ـ وهي متعددة لأن الخلافة لم تبق في العرب بل توالت عليها شعوب الأمة وخاصة الأتراك والبربر وبعض الأفارقة والهنود ـ بل بالحد منها قدر المستطاع لأن الإسلام شخصها وحذر منها ووصلها بالجرمين الأكبرين: ربا الأموال وربا الأقوال.
لكن لا بد من تمهيد لجعل الدين يتحول إلى سلطان الدائن على المدين: عندما يكون المدين هو من يمكن أن يفقد كل شيء إذا طلب منه البنك السداد. طلب السداد في الظرف غير المناسب هو أداة  الابتزاز. ومثله في المشلول بالشللية: فهو يمكن يفضح ببيان عدم أهليته فيبقى عبدا لمن مكنه مما له هو له أهل، فالظاهرة التي وصفتها أي طبقات المافيا التي تحكم العالم ظاهرة كونية وليست خاصة بالغرب الحديث. لا توجد إمبراطورية سيطرت على العالم المتحضر من دون أن تتكون فيها هذه المستويات وما يشبه السلطة الخفية لمترفيها الذين يفسقون فيها.

وأهمية الإسلام ليس بخلو الإمبراطوريات التي نشأت من منطلق رؤيته ـ وهي متعددة لأن الخلافة لم تبق في العرب بل توالت عليها شعوب الأمة وخاصة الأتراك والبربر وبعض الأفارقة والهنود ـ بل بالحد منها قدر المستطاع لأن الإسلام شخصها وحذر منها ووصلها بالجرمين الأكبرين: ربا الأموال وربا الأقوال.

لكن الحضارة الغربية وخاصة الحديثة أضافت بما يسمى الإصلاح الغربي ـ البروتستنتينية ـ تعميم ربا الأموال غلى ربا الأقوال الكاثوليكي فاجتمع نوعا الربا الذي خلق الرأسمالية التي هي دين العجل ببعديه وكل محاولة للتخلص منه في الاشتراكية زاد الطين بلة لأن جعل مفلسيها مترفيها وهو دولة الشعبوية.

والمثال الأتم من هذه الأنثروبوقراطيا ـ الحكم باسم الإنسان بعد الحكم باسم الرب ـ يجعل المسيطرين على الثروة مسيطرين على التراث فيسطر صاحب المال الفاسد على الإعلام المضلل فيصبح صاحب العملة بديلا من الملكية بالمال الفاسد وصاحب الكلمة بديلا من التراث بالإعلام المضلل: المافيا.

هزيمة المسلمين لم تستطع تغيير الرؤية الإسلامية التي تعتمد على الأقل مبدئيا على تحرير الإنسان من الوساطة الكنسية ومن الوصاية السياسية وتجعل السياسة فرض عين، وهو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقصى المنكر ربا الأموال في التبادل وربا الأقوال في التواصل.

والمعروف هو عكسهما أي العدل في التبادل والصدق في التواصل: فالقرآن يعلمنا بأن الله أعلن الحرب على الربا والتطفيف ومقته متعلق بالأقوال التي تناقض الأفعال وهو النفاق والكذب. فهذه القيم الأربع هي جوهر الخلقي في السياسي، وهي فرض عين.

وكونها فرض عين يحول دون الوساطة الروحية (الكنسية) والوصاية السياسية (الحكم بالحق الإلهي) وهذا هو الغرب الوسيط والتشيع الحالي ويناظرهما في الغرب الحديث الكنسية العلمانية (النخب الملحدة) والوصاية العلمانية (المافية الخفية) باسم الإنسان أو البديل الديموقراطي من الرب في الثيوقراطيا، فيكون النظام الثيوقراطي والنظام الديمقراطي كلاهما برقع يخفي الوجه القبيح لسلطان الكلمة والعملة في نظام مافياوي كان يحكم باسم الرب وصار يحكم باسم الإنسان فلا يكون الرب والإنسان إلا أداتي خداع في النظام الغربي الحديث: وذلك عين ما فضحه طوفان الأقصى فأقنع به شباب الغرب فثار عليهما.

وتلك هي علة الإجماع الغربي على حماية إسرائيل بحرب الإفناء والتصفية العربية لأصحاب هذه الثورة التي هي جوهر السياسة الإسلامية التي تجعل مقاومة نوعي الحكم باسم رب وإنسان موظفين لتعويضهما برؤية إسلامية تجعل السياسة فرض عين لأنها أمر الجماعة المستجيبة لربها وتديره بشوراها (الشورى 38).

والاستجابة إلى الرب تعني الصدق في التواصل لأن الله في الإسلام أقرب إلى إلإنسان من حبل الوريد ويعلم كل شيء فلا يمكن أن يمر عليه النفاق أو الكذب. وهم يكونوا مستحبين إذا انجزوا فرض العين المؤدي إلى التشاور والإنفاق من الرزق بعدل التبادل والتعاون (سورة الماعون) فيتساخروا بعدل ومحبة.

فتكون المعادلة السياسة محررة من المستويات المافياوية لأن فرض العين أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ليس فيه أي إمكانية للوساطة ولا للوصاية بل هي شرط الخروج من الخسر أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (سورة العصر).

فيكون المسلم بذلك قد حقق ما أمرت به الآية 104 من آل عمران شرطا في الإيمان وما جعلته الآية 110 منها شرطيات في الانتساب للأمة الخيرة فلا يكون المسلم مسلما حقا من دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي بالتحرر من تنكري دين العدل في الثيوقراطيا وفي الأنثروبوقراطيا وجهي الأبيسيوقراطيا.

فالسياسة لا تبقى في هذه الحالة تحقيقا لقيم بها تنظم الجماعة وظيفتها الأولى أي التربية التي تعد الإنسان لرعاية ذاته وحمايتها بل تجعله خاضعا لمن تستعمله النخبة الخبيثة لخدمتها لكونها هي بدورها في خدمة من يوظفها في نهب ثروة الجماعة يعطيه منها فتاتها والباقي يسحبه ليرضي خفي المافيا.
التعليقات (0)