كتب

لماذا لا يتكلّم تلاميذُنا العربيّة الفصحى؟ كتاب يجيب

يجب على المُدرِّس تحفيز بناء مهارات الحكي عند التلميذ وأن يكون واعيا بالمراحل التي يفترض أن ينطلق منها..
يجب على المُدرِّس تحفيز بناء مهارات الحكي عند التلميذ وأن يكون واعيا بالمراحل التي يفترض أن ينطلق منها..
الكتاب: السرد الشفوي وبناء المعارف عند الطفل
المؤلّف: نجيبة بوغندة
الناشر: دار يس للنشر
الطبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 391


تقف نجيبة بوغندة، كاتبة وباحثة تونسيّة متخصصة في أدب الطّفل، على مشكلة عويصة تواجه تلاميذنا داخل فصولهم مع اللغة العربيّة رغم كونها اللغة الرسمية الأولى؛ ذلك أنهم لا يتقنون استعمالها عند كل استخدام يرومون منه بناء النصوص السردية شفويا خصوصا، "فتراهم يبدؤون سردهم باللسان الفصيح مع تأتأة تبيّن عدم تملكهم لها، ثم تنفجر ألسنتهم باللهجة العامّية، وبصورة تلقائية، مستعملين تلك اللهجة التي تعجز، رغم طلاقتها، عن تمكينهم من السرد بما تمليه ضوابط المدرسة".

وتضيف بوغندة مؤكدة أنّ هذه المشكلة لا تقف عند المستوى الشفوي فحسب، ذلك أنّ النتائج تظهر جليّة في السرد الكتابي ضمن الأنشطة اليومية للفصل، أو من خلال الاختبارات التعديليّة أو الإشهاديّة.

هذه "الإعاقة" الشاملة في بناء النصوص السردية الفصحى وتوظيفاتها الشفوية والمكتوبة، تجعل من تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية وحتى المستويات الجامعيّة المتخصصة، يتعاملون مع اللغة العربية الفصحى بوصفها لغة غريبة وأجنبية، شأنها في ذلك شأن باقي اللغات الأجنبيّة، بيد أن هذه "الإعاقة" لا تعني أنّ تلاميذنا عاجزون عن الحكي بقدر شعورهم بالغربة عن خطابهم الأصل،ي و"هم من ثم بحاجة لمن يعترف بهم ويساعدهم على التعرّف على أنفسهم حتى يقدروا على استعادة توازنهم، وهو ما نلاحظه داخل الأقسام، إذ يمتلك التلميذ الفكرة مثلما يمتلك طريقة حكيها، لكن خطابه يأتي بلغته الأم التي استمدها من محيطه الاجتماعي والثّقافي عامة، ومن محيطه الصغير الذي تمثله أسرته باعتبارها النواة الأقرب إلى التّأثير فيه".

في هذا الإطار، يأتي كتاب "السرد الشفوي وبناء المعارف عند الطفل"، لمؤلفته نجيبة بوغندة والصّادر حديثا عن دار يس للنشر، والذي يروم توظيف فنون السرد الشفوي، في اتجاه مساعدة تلاميذ المدارس في البلدان العربية على استعادة توازنهم، وتجاوز الصعوبات التي يواجهونها عند الحكي والتخلي عن الخوف، واكتساب الثقة في النفس في بناء تعلّماتهم.

وقد قامت نجيبة بوغندة بتحسّس ملامح هذا السرد، من خلال الدّراسات الحديثة وكذلك الأدب العربي، في ثلاثة أبواب كبرى، تبدأ بتبيان السرد الشفوي وعلاقته باللغة والمقدّس والمعرفة، ثمّ تفكيك علاقة المعرفة بالسرد الشفوي وأثره في بناء العلوم وتطورها (مدخل نفسي معرفي)، وتنتهي بالوقوف على علاقة التعليم البنائي بالقدرة التواصليّة، وتحديد منزلة السرد الشفوي ووظائفه في البرامج الرسمية؟ (مدخل تعليمي تعلّمي).

أهميّة المبحث

تجمل الكاتبة نجيبة بوغندة أهميّة الكتاب في كونه خطوة صادقة نحو البحث عن كلّ العوامل الإيجابيّة، التي تكون خادمة للسّرد الشّفوي الذي تبدو ملامحه غائبة في معظم الأحيان عن تلميذ مدرستنا الابتدائيّة، في اتجاه تكوين أجيال تحقق القدرة على التّعرّف على ذواتها، ولا تعجز عن التّعبير عمّا يشغلها ويشبع حاجاتها. ومتى حققنا ذلك، نكون قد ضيّقنا اتّساع الهوّة بين الطّفل والمؤسسّة التربوية، وحسّنا من مستوى القدرة على التّواصل، وأعددنا جيلا قادرا على إدارة الحوار المدرسي والحوار المجتمعي عندما يكبر، كما يكون مساهما فاعلا في الإبداع الذي نتوق إليه.

مفهوم السرد الشفوي

تشير بوغندة إلى أنّ ما يمكن تبيّنه من كلمة "السرد"، أنّ الأمر يتعلّق بالاتّساق والتّرصيف الجيّد والنّسج الحسن وتشابك المعاني، من خلال قوّة بنائه وتتابع أحداثه، وفي ذلك ما يحيلنا على قدرة هائلة لصاحبه على مواصلة الكلام في أريحية تامّة ودون انقطاع، نتيجة تراكم المكتسبات الدّاعمة للرصيد المعجمي المتين، الذي يساهم في متانة المضمون وغزارته اللّغويّة والمعنويّة التي تشدّ السّامع إليه وتؤثّر فيه.

وترى بوغندة أنّه يمكن أن نتبيّن من بعض المعاني لكلمة "السرد" أنّها تعني اللسان، وهو ما يزيد تأكيد متانة ارتباط السّرد بالمجال الشفوي بالدّرجة الأولى، وهذه الأهمية تظهر آثارها في المجال الكتابي، ولا تتوقّف عند حدود الشّفوي.

في هذا الإطار، تضيف نجيبة بوغندة أنّ القدرة المتحدّث عنها أعلاه في تعريف "السّرد"، واستنادا إلى "سيمون دوك"، فإنها: "ملكة ذهنيّة مسؤولة عن إنتاج اللغة واستعمالها للأهداف التّواصليّة. ومتى نجح التلميذ في إنتاج مقام تواصلي شفوي، فهو بالتّأكيد قد حقق قدرة على حسن استعمال اللغة المناسبة للمقام المقترح، متحكّما في زمانه ومكانه وشخصياته والأحداث المناسبة لكلّ واحدة منها".

والسّرد مصطلح نقدي حديث، يعني "نقل الحادثة من صورتها الواقعيّة إلى صورة لغويّة"، على حدّ تعريف آمنة يوسف في مؤلفها "تقنيات السّرد في النّظريّة والتّطبيق"، وهو الحكي الذي يقوم على دعامتين أساسيّتين، أوّلهما أن يحتوي على قصّة ما، تضمّ أحداثا معيّنة. وثانيهما أن يعيّن الكيفيّة التي تُحكى بها، وتسمّى هذه الطّريقة سردا، ذلك أنّ قصّة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعدّدة، ولهذا السبب، فإنّ السّرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي، تضيف بوغندة.

المدرسة التونسيّة ونظام المحاكاة الشفوي القديم

تقول بوغندة؛ إن المدرسة التونسية تقوم في بعض جزئيات العمل من خلال مادّة التواصل الشفوي مثلا، على عالم المحاكاة الشفوي القديم، إذ تشجع عند استخراج البنية على إعادة الصيغ بما يتيح للطفل التمكن منها. وترى ذلك جليا، بحسب تأكيدها، في مادّة الإنتاج الكتابي الذي يعتمد بعض المدرّسين فيه على تكرار القوالب الجاهزة كما وردت على لسان أصحابها، "قاصدين من وراء ذلك إثراء العمل المنتج، فيطالبون تلاميذهم بحفظ مقاطع تخصّ الأعمال أو الأقوال والوصف، والحال أنّ الأخذ عن الآخر لا يكون بتبنيه كاملا، وإنّما بتوظيفه بطريقة موجزة من خلال عبارة أو كلمة يكون مكانها منطقيّا في النّص وغير مسقط بطريقة سمجة، تلغي أحيانا شخصيّة السارد لتتلبّس فكرته بما قاله غيره، فيفقد قيمته الفنية الذّاتيّة".

عوائق تملّك مهارات السرد الشفوي ومقترحات حلولها

تواجه التلميذ العديد من التحديات في أثناء السرد الشفوي، يقطع مع كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المؤسسة التربوية، ولكنّ الحقيقة أن هذه اللغة ليست سوى وهم فضحه الاستعمال اليومي للغة من قبل الطفل، جعله يتعامل معها كلغة غريبة أو أجنبية في تواصل التلميذ مع غيره، حتى داخل المؤسسة التربوية ذاتها.

في هذا السياق، تعدّد الكاتبة نجيبة بوغندة الأسباب التي تقف حائلا دون تملّك التلميذ لقدرة السرد الشفوي، والتي يأتي على رأسها ضعف المهارات اللغوية. فبحسب تجربتها الطويلة في مجال التدريس في المدارس الابتدائيّة، تشير بوغندة إلى أنّ التلميذ في مدرسة اليوم يواجه صعوبة في تنظيم الأفكار والتعبير عنها بوضوح وبطلاقة، كما يجد صعوبة في استخدام المفردات المناسبة وتركيب الجمل بشكل صحيح.

يحتاج الطّفل عامّة وتلميذ المرحلة الابتدائيّة خاصّة، العيّنة التي يتناولها الكتاب بالدّرس، إلى طرق معيّنة تمكّنه من تحقيق سرد شفاهي منتظر، له خصوصيته، ويعتمد على التدرّج في بناء المعنى وخصوصية كلّ فئة عمريّة، وتنويع الأنشطة ودفع الطّفل إلى المشاركة الإيجابيّة في كلّ أنشطة الفصل، مع الحرص على إشعاره بالثقة في نفسه، وتثمين ما يأتيه من سرد مهما كانت المحاولة بسيطة.
في هذا السياق، تذكر بوغندة ما يشعر به بعض التلاميذ من قلق وخجل عند الكلام أمام الجمهور، وهو أمر له أسبابه الخفية، قد تكون الوضع الاجتماعي أو النفسي وأسباب ظاهرية كتنمّر أصدقائه عليه أو عدم ثقته بنفسه. وأيّا كانت الأسباب، فإنّ المحصّلة واحدة: تراجع قدرتهم على التعبير، والخوف من مواجهة الآخر في مختلف مقامات التّواصل الشّفوي (الحوار/ السّؤال/ طلب المساعدة/ الفعل التّشاركي/ الإفصاح عن التّمشّي...)، وهو ما يحدّ من قدرتهم التفاعلية ويؤخّر بناء شخصياتهم، ويُضعف قدرتهم على تملك المعارف.

ولمعالجة هذا الضعف في تملّك المعارف اللغوية والتعابير الشفويّة، تقترح بوغندة منح مساحة زمنية معتبرة للسرد الشفوي، ذلك أنّ ضيق الوقت الممنوح للتلميذ عند الحكي قد يزيد من الضغط على التلميذ، ويؤثر على قدرته على تنظيم الأفكار والتعبير عنها بشكل مناسب، مما يدفعه إلى اتّخاذ موقف المتفرّج المستقيل من عمليّة بناء المعارف، ويكتفي بالفتات الذي بناه غيره.

من ناحية أخرى، ترى بوغندة أنّ اكتظاظ الأقسام في بعض المدارس يقلّل من حظوظ الفرد من نسبة مشاركته التفاعلية الشفوية، كما أنّ التشتت وفقدان الانتباه لدى التلميذ، خاصّة مع انتشار وسائل التكنولوجيا التي تدفع التلميذ إلى الانطواء والاكتفاء بنفسه، عواملُ تقلّل فرص التواصل والنقاش والتحاور وفرص النقاش التي تقوي ملكة الشفوي.

كذلك تلفت الكاتبة نجيبة بوغندة إلى مسبّبات أخرى عمّقت الهوة بين التلميذ والجانب الشفوي الذي يكاد ينعدم خاصة إن كان بالفصحى، من ذلك قلة التدريب والتمرين وكثرة مواد التدريس وغياب دور العائلة الموسعة، ونقصد بذلك غياب حضور الجدّة والجدة والأعمام والأخوال ممن قد ييسرون تلك التملكيات في ظل غياب الأبوين للعمل. طبعا هذا لا يعني أن التلميذ لا يتفاعل شفويا، ولكنه يعجز عن تحويل تلك القدرة إذا كانت بالفصحى، ويقف مرتبكا أمام لغة يراها غريبة عنه، وهو عكس ما يحدث إن وافقنا أن يتحدّث بالعامية.

المطالعة الفريضة الغائبة

لمعالجة جملة هذه المعوقات، تقترح الكاتبة نجيبة بوغندة ضرورة عودة المتعلّم إلى المطالعة، وهي دعوة توجهها على وجه الخصوص إلى وزارة التربية والتعليم بإعادة النظر في هذه المادة، التي اعتبرتها برامجنا الحالية رافدا من الروافد التي تغذي مجال اللغة العربية، لكن على أرض الواقع لا وجود لها، وهو ما أثر سلبا في مادة الإنتاج الكتابي باللغات التي تعتمدها مناهج التدريس، ففاقد الشيء لا يعطيه. كما يجب على المُدرِّس تحفيز بناء مهارات الحكي عند التلميذ، وأن يكون واعيا بالمراحل التي يفترض أن ينطلق منها، كإعداد المحامل المحفّزة والتدرّج بعرضها عليه، وخلق وضعيات دالة تُنطق الطّفل آليّا.

ويحتاج الطّفل عامّة وتلميذ المرحلة الابتدائيّة خاصّة، العيّنة التي يتناولها الكتاب بالدّرس، إلى طرق معيّنة تمكّنه من تحقيق سرد شفاهي منتظر، له خصوصيته، ويعتمد على التدرّج في بناء المعنى وخصوصية كلّ فئة عمريّة، وتنويع الأنشطة ودفع الطّفل إلى المشاركة الإيجابيّة في كلّ أنشطة الفصل، مع الحرص على إشعاره بالثقة في نفسه، وتثمين ما يأتيه من سرد مهما كانت المحاولة بسيطة.

وزارة التربية قادرة على تحويل الدفّة وإنقاذ المتعلمين من هذا الفشل الصارخ، بإصلاح حقيقي شامل يراعي حاجات الطفل الوجدانية والمعرفية وخلق مناخ للإبداع، يشجّع المجدّدين داخل فصولهم ويثمن مبادراتهم الشّخصيّة، وهي مطالبة بإعادة النّظر في أهمية مادة المسرح الخادمة للشفوي والقاطعة مع الخوف والارتباك، والدافعة على الإيمان بالذات، ومن ثم الانخراط في عمل تفاعلي يمكّن الطفل من التّعبير عما يخالجه.
التعليقات (0)