كتب

نمط جديد من الرأسمالية تفرزه الشعبوية في العالم.. قراءة في كتاب

كتاب يناقش صعود اليمين والشعبوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، ومسوغات هذا الصعود في الديمقراطيات الغربية، ومؤشرات تنامي هذه الظاهرة في دول الاتحاد الأوروبي..
كتاب يناقش صعود اليمين والشعبوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، ومسوغات هذا الصعود في الديمقراطيات الغربية، ومؤشرات تنامي هذه الظاهرة في دول الاتحاد الأوروبي..
الكتاب: "صعود اليمين الشعبوي الأميركي والتأثير في منظومة العلاقات القتصادية الدولية"
المؤلف: مهند حميد مهيدي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

يلعب اليمين المتطرف وخطابه الشعبوي، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، دورا فاعلا قاد إلى تبلور توجهات جديدة انعكست على الخطاب الخارجي لها، الأمر الذي يلقي بظلاله على النظام الاقتصادي العالمي برمته. وكون الولايات المتحدة الأمريكية هي الموطن الأساس للرأسمالية وحاملة لوائها فإن أي تغييرات قد تطرأ على تبني تلك التوجهات فيها ستنعكس على العالم أجمع.

وفي ظل صعود اليمين الشعبوي فإن الرأسمالية العالمية اتخذت بالفعل وجها مغايرا بتبني توجهات تتعارض مع طروحاتها التي عاشت في كنفها لقرون، وهو ما يؤسس لنمط جديد من الرأسمالية، بدأت ملامحه تتضح بشكل قوي في الولايات المتحدة وتحديدا في عهد الرئيس دونالد ترامب. حول هذه الفكرة يدور كتاب الأكاديمي العراقي مهند مهيدي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأنبار.

 يعرض مهيدي في كتابه الأطر الفكرية والتاريخية لمفهومي اليمين والشعبوية، والتأصيل الفكري والمفاهيمي لظاهرة اليمين في الفكر والفلسفة، ويتناول النظريات المفسرة لظاهرة اليمين المتطرف والشعبوية.

كما يناقش صعود اليمين والشعبوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، ومسوغات هذا الصعود في الديمقراطيات الغربية، ومؤشرات تنامي هذه الظاهرة في دول الاتحاد الأوروبي، ليبحث بعد ذلك بالتفصيل الآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية لصعود الشعبوية في الولايات المتحدة وانعكاسات كل ذلك على العلاقات الاقتصادية الدولية. وفي الفصل الاخير من كتابه يبحث مهيدي في مستقبل النظام الاقتصادي العالمي في ظل تصاعد ظاهرة الشعبوية، ومستقبل النظام الرأسمالي في قيادة الاقتصاد العالمي، وتحول الاقتصاد العالمي من المركزية العالمية إلى مركزية الأقطاب.

محفزات الشعبوية

يرى مهيدي أن ثمة مجموعة من المحفزات والعوامل التي أسهمت وتسهم في تنامي ظاهرة اليمين الشعبوي في الديمقراطيات الغربية، ربما يكون أكثرها حضورا العوامل الاقتصادية، إذ يرتبط عادة صعود هذه الجماعات بحدوث الأزمات الاقتصادية، كونها تحمل في طياتها البطالة والظلم والتفاوت، وتضع معالم الهوية المكونة للرباط الاجتماعي (الامة، السلطة، الأمن) موضع إعادة النظر، وهو ما حدث مع أزمات الرأسمالية ، كأزمة 1929، وأزمة 2008، وهي أزمات تؤثر بشكل مباشر في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتزيد كذلك من نسبة الدين العام للدولة، وتخلق التضخم والبطالة، وتعد نتائج الانتخابات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية 2008 أكبر دليل على العلاقة الايجابية بين الأزمات الاقتصادية ونجاح جماعات اليمين المتطرف،

تكمن إشكالية العلاقة بين الشعبوية والديمقراطية في كون الشعبويين يدعون أنهم من يمثل الشعب الحقيقي، وأن من سواهم يفتقر إلى الشرعية، فهم لا يعادون النخبة ولكنهم معادون للتعدد.. وتبدو المقايضة واضحة بين صعود الشعبوية وضعف الديمقراطية.
عملت هذه الجماعات على تجيير الغضب الشعبي لمواجهة النظم السياسية الفاسدة، التي كانت وراء الأزمة، فعمدت إلى وضع حلول ضمن برامجها الانتخابية تحاكي مشاعر الكراهية والعنصرية لدى الجمهور تمثلت بشكل أساسي في إيقاف الهجرة وطرد المهاجرين الأجانب كونهم، من وجهة نظرهم، يزاحمون مواطني البلد على فرص العمل.

على جانب آخر، اجتماعي، باتت مسألة الهجرة تشكل مصدر قلق للحكومات الغربية وما يشبه الأزمة لقطاعات من المجتمع الغربي، حيث ينظر إلى الجموع البشرية القادمة من الشرق الأوسط أو من المكسيك باعتبارها خطر داهم يهدد سوق العمالة التي تعاني أصلا ظروفا صعبة.

وفي الوقت نفسه تسعى أحزاب اليمين المتطرف دائما إلى الربط بين المهاجرين والمسلمين، والترويج لفكرة أن ازدياد تدفق هؤلاء المهاجرين سيقضي بعد عدة عقود إلى تغيير وجه المجتمعات الغربية الديني، ومن شأن ذلك الإضرار بالمبادىء الديمقراطية للدولة. كما تدعم هذه الأحزاب والجماعات اليمينية الطرح الذي يربط بين ارتفاع مستويات الهجرة وارتفاع معدلات الجريمة. يقول مهيدي أنه ما بين أوائل ثمانينيات القرن الماضي واليوم سجلت الأحزاب اليمينية المتطرفة في البلدان الأوروبية نموا انتخابياما بين 1 ـ 7 في المئة من الاستحواذ على الأصوات، وفي البرلمان الأوروبي ارتفع عدد ممثلي اليمين المتطرف من 37 إلى 52 بين عامي 2009-2014.

شعبوية ترامب

في الولايات المتحدة تتضح المعالم الشعبوية لحكم دونالد ترامب من الفئات الاجتماعية التي استند إليها أثناء حملته الانتخابية، فمعظم الذين صوتوا له كانوا من الذين ينتمون للطبقة العاملة، وفقا لمبدأ "ثورة الطبقة العاملة ضد النخب السياسية الفاسدة التي تدير البلاد". وقد شكل مجيئه إلى رئاسة الولايات المتحدة مقدمة لصعود تيار شعبوي يميني ناقم على النخب السياسية والمؤسسات المرتبطة بها. وأكثر ما يمكن ملاحظته على التوجهات السياسية لترامب أنها تميل للاهتمام بالداخل، من دون أن تصل إلى درجة الانعزالية، وتتعلق باستخدام القوة والثروة ليس لأجل إصلاح النظام السياسي العالمي بل لأجل أن تتم صياغته لمصلحة الولايات المتحدة، وبما يضمن تحقيق تدفقات مالية بدلا من الاستثمار في خارجها.

يقول مهيدي: "تكمن إشكالية العلاقة بين الشعبوية والديمقراطية في كون الشعبويين يدعون أنهم من يمثل الشعب الحقيقي، وأن من سواهم يفتقر إلى الشرعية، فهم لا يعادون النخبة ولكنهم معادون للتعدد.. وتبدو المقايضة واضحة بين صعود الشعبوية وضعف الديمقراطية..". ويضيف أنه قد يقول أحدهم أن الشعبويين يطالبون دائما بالاستفتاءات، أي استشارة الشعب، غير أن ذلك لا يتعلق بالاستشارة بقدر تعلقه برفض إشراك الشعب بشكل منتظم في السياسة، فالهدف هو التصديق على توجهاتها بوصفها تعبر عن مصالح الشعب، وهنا يتم القطع بين الشعب والمؤسسات الديمقراطية.

اقتصاديا يواجه الاقتصاد العالمي عقبات عدة وضعها اليمينيون الشعبويون بشكل متعمد في طريق حرية التجارة ومفاهيم العولمة الاقتصادية، التي من المتوقع أن ينتج عنها وجه عكسي للرأسمالية الدولية التي تتزعمها الولايات المتحدة. لقد قوضت سياسات ترامب الانعزالية الاستثمار في الأعمال التجارية، وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فإن لاتدفقات العالمية للاستثمار الأجنبي المباشر انخفضت بنسبة 13 % عام 2018، لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ الأزمة المالية العالمية.في المقابل تقف الصين على الجانب الآخر لتنادي بحرية التجارة، وتسعى لمجابهة التحديات الخطيرة التي باتت تواجهها منظمة التجارة العالمية، في ظل تبني الولايات المتحدة سياسات حمائية، حتى أضحى المشهد العالمي يشي بحالة من التبدل الأيديولوجي؛ أميركا الاشتراكية والصين الرأسمالية!.

يشرح مهيدي أنه بسبب صعوبة ولوج الشركات الأمريكية إلى السوق الصينية، وتغلغل الصادرات الصينية ، من جهة أخرى، في السوق الأمريكية ، فرضت الحكومة الأمريكية في مارس 2018، تعرفات جمركية على الفولاذ والألمنيوم، مستهدفة بالأساس كلا من الصين والاتحاد الأوروبي، بهدف خلق سياج من الحماية للشركات الأمريكية من المنافسة الصينية. لكن هذه السياسة ستترك العديد من الآثار السلبية على الاقتصاد الامريكي نفسه، سواء بالحد من رفاه المستهلك الامريكي، أو تعزيز انتشار الحمائية على صعيد الاقتصاد العالمي كإجراء مضاد، ما حدا بأحد المحللين الامريكيين إلى وصف هذا التوجه بالقول إن أمريكا تطلق الرصاص على أقدامها.

خطاب ترامب الشعبوي اتسم بطابع التبسيط الشديد تجاه العديد من القضايا المعقدة للتأثير في توجهات الناخبين، وهو ديدن الشعبوية في كل مكان.
استثنى ترامب كندا والمكسيك من قرار فرض التعرفة الجمركية بعد إدراكه حجم الأضرار المترتبة على هذا القرار. فالبلدين من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وفرض هذه التعرفة ستكون له عواقب وخيمة على الطرفين، إذ أنها ستؤدي إلأى رفع أسعار المنتجات الكندية والمكسيكية التي يشتريها المستهلكون الامريكيون، وستزيد من تكلفة السيارات والسلع التي ينتجها الامريكيون في المكسيك وكندا، وغالبية هذه التكلفة ستأتي من جيوب دافعي الضرائب الامريكيين.

ووفقا لترامب فإن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة المكسيك وكندا، هي أسوأ اتفاق تجاري في التاريخ، لذلك ابلغ ترامب شركاءه بعزمه إعادة التفاوض حول شروط هذا الاتفاق، وبعد سلسلة من المداولات تم التوصل إلى اتفاقية جديدة. ويلفت مهيدي إلى أنه بحسب خبراء فإن الانسحاب من نافتا كان سيكلف الولايات المتحدة ما يقرب من 187 ألف وظيفة في مدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، وكان سيلحق ضررا كبيرا بقطاعات الزراعة والصناعات التحويلية والسيارات، وسيكلف الولايات المتحدة 88 مليار دولار من صادرات الخدمات إلى كندا والمكسيك.

 يرى مهيدي أن خطاب ترامب الشعبوي اتسم بطابع التبسيط الشديد تجاه العديد من القضايا المعقدة للتأثير في توجهات الناخبين، وهو ديدن الشعبوية في كل مكان. وقد اتخذ موقفا متشددا إزاء قضية الهجرة، شأنه شأن اليمين المتطرف في أوروبا، حيث تحتل معاداة الهجرة موضعا أساسيا في خطاباتهم، وتكون أكثر تأثيرا حين يتعلق الأمر بالتبعات الاقتصادية لها.

وقد استند ترامب في سياسته الخارجية إلى مبدأ الصفقة وفقا لمفهوم براغماتي، الأمر الذي جعل من جميع الاتفاقات التي أبرمتها الولايات المتحدة محلا لإعادة التفاوض. وفي البعد الاقتصادي استندت سياسته الخارجية إلى معارضة أطروحات التحررية الاقتصادية وتبني خيار الوطنية كبديل عبر تقييد التجارة، متجاهلا الأثر الكارثي لهذا التوجه على الولايات المتحدة نفسها، وبقية دول العالم.
التعليقات (0)