كتاب عربي 21

قصة قاتل الفراشات: حسرة أب نزح للغرب

أحمد عمر
رحلة لجوء طويلة للسوريين- جيتي
رحلة لجوء طويلة للسوريين- جيتي
لا أنام، عنوان رواية لإحسان عبد القدوس، وقصتي تشبهها من وجهين؛ وجه الحرمان من النوم ووجه الحب.

لم أعد أباً، فقدتُ أبوّتي منذ أن وطئت قدمي بلاد الفرنجة، وأمسيت طفلاً، وصار أولادي آبائي، فقد تعملوا لغة الأعاجم وأتقنوها، يعملون وهم طلاب في الجامعات، في أعمال لها أسماء طريفة مثل "الميني جوب"، "والهاف تايم"، وهي التي تبيحها الدولة للطلاب، وأجورهم كريمة، ولديهم سيارات. والآباء بالفطرة يعطفون على أولادهم، ألم يقل الشاعر صاحب قصيدة "لا أنام": لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض، لكن آبائي ينامون وهم أيقاظ، ويضيقون بي، ولا يسمعونني، أما الطاعة، فهي ناقوس يدق في عالم النسيان.

ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا.

قلت كثيراً لأصدقائي، وليس لي هنا أصدقاء، فأصحابي جميعاً وراء أعالي البحار وأداني الجبال، وقد أنشأنا نادياً في ربوع "الواتساب"، أطلق عليه المؤسس اسم "الغروب"، وأصله هو الكروب، والكروب لفظ أعجمي، ويعني الرهط والمجموعة والثلة والشلة، وقد يكون أصله عربياً، يقول ابن منظور: الكَرْبُ، على وَزْن الضَّرْبِ مَجْزُومٌ: الـحُزْنُ والغَمُّ الذي يأْخذُ بالنَّفْس، وجمعه كُرُوبٌ. وكَرَبه الأَمْرُ والغَمُّ يَكْرُبهُ، كَرْباً: اشْتَدَّ عليه، فهو مَكْرُوبٌ وكَرِيبٌ، والكَرْبُ: القُرْبُ. والكَرْبُ: الفَتْلُ؛ يقال: كَرَبْتُه كَرْباً أَي فَتَلْتُه.

لكني ألفظها الغروب، فقط طاب لي هذا اللفظ، وغربت شمسي، بعد أن وجهت إلى بلاد بني الأصفر عنسي.

"الغروب" يروّح عن النفس حيناً، لكنه يزيد الكرب أحياناً أخرى. نجتمع ونتبادل الشكوى مثل الأرامل والثكالى، والوقوف على الأطلال. قلت لهم إن أسعد لحظات حياتي "الغاربة"، كانت لحظات لعبي مع أولادي، لم أجد سعادة في طعام أو وصال، فهي لذات من الدرجة الثالثة، اللذة الكبرى هي في لهوي مع الأولاد وعناقهم.

أمس قرأت منشوراً لصديق روى فيه مطاردة وقعت له، حوصر في ركن وبدأ المحاصرون في لكمه، فاستيقظ على ابنيه، وهما يترافسان، فيصيبان وجهه، وقد تورمت شفتاه، ولا يعرف أمن لكمات المحاصرين في الحلم، أم من رفس ولديه؟ ثم إنه قبّل قدميهما ونام.

لكني لا أنام مثل حطان بن المعلى وإحسان عبد القدوس.

لم أكن أبخل عليهم بشيء أقدر عليه، ثياب جديدة وألعاب، وسياحة بالقدر المستطاع، ومجلات مصورة، ثم مع ظهور الفيديو و"السيدي"، رأينا كل أفلام ديزني لاند، وهي أفلام ممتعة، لكنها لا تعلم أدباً ولا خلقاً، بل تفسدها. وقلت للغروب: إنّ عهدي انقضى، وإن كان ابني يعطف عليَّ أحياناً، فيتصدق علي بثيابه التي ضاقت عليه، أو زهد في طرازها، فالثياب تبلى في هذه البلاد بالموضة لا بالاهتراء. وكنا نلبس أكسية آبائنا، تضيّقها أمي لنا، حتى تناسب أعمارنا. وقد تهبني ابنتي هاتفاً جوالاً قدم، وضاقت عليه الموضة، واشترت جديداً، والحمد لله أنها لا تطلب له أجراً، فكل شيء في بلاد العلوج له ثمن. ليس كل البنات كريمات، فبعضهن يحتفظن بالقديم ضّناً بذكرياتهن، أو للحاجة إلى جهازين؛ ابنتي الصغرى لديها ثلاثة أجهزة من هواتف الجيب!

أولادي لا يأكلون ما أعدُّ لهم من أطباق في أوقات فراغي، ووقتي كله فراغ وسديم، وينفرون من لحم الخروف، بل ويغلقون أنوفهم من ريح لحمه، ويقبلون على طعامين؛ وهما من أشهر الأطعمة في بلاد العلوج: البيتزا والشيبس، أما الشراب الأثير، الخبيث، فهو الكولا، وهو شراب لا أطيقه وأتجنبه، بل إني لا أستطيع استراطه. قالت لي زوجتي مرة: ارفق بأولادك وتلطف بهم، وأرتني فيديو لشيخ حمصي يستقبل أولاده بالعناق، فبينتُ لها أني أشدُّ حباً لأولادي من الشيخ المذكور، وبرهنت لها على ذلك، ووقفت على الباب عند عودة أولادي واحداً واحداً من الجامعة أو من العمل، فاتحاً ذراعي لهم مثل فزاعة عصافير، فوجدت أنهم عمي، لا يرفعون عيونهم عن أجهزة الهاتف، وآذانهم مسدودة بالسماعات، كأن في آذانهم وقرا، أو إنّ العصافير فزعت من فزاعة العصافير فطارت.

ذكرت لكم أني غدوت طفلاً في هذه البلاد، وأذكر أني عندما كنت تلميذاً، طلبت مني المدرسة إحضار ولي أمري، من أجل التوقيع على وثيقة. يزعمون أنَّ التاريخ يتكرر، ولا أحبُّ تعبير "يكرر نفسه" فالتاريخ ليس عاقلاً، ولو كان عاقلاً ما كرر نفسه، وأنَّ المؤسسات الحكومية الأعجمية تطلبني بين الحين والآخر من أجل إجراءات وثائقية، وهي معقدة، ولا أحسن قراءة كتبهم وفهم حديثهم، فأستعطف أولادي وأتوسل إليهم كي يصحبوني ويترجموا لي، فيماطل أولياء أمري طويلاً. وكان أبي يماطل قليلاً لانشغاله بأعماله، أما آبائي الجدد فيشترطون علي أن أخرس وأتجنب الكلام بلغة الفرنجة لأن لغتي مضحكة، لكن الموظف الحكومي يسألني فأجيب بهزة الرأس، وقد أضطر إلى جواب قصير، فيضحك من عجمتي، وتنظر لي ابنتي شزراً، مغتاظة من خيانتي العهد المقطوع.

عملت في كثير من الأعمال، وقد بلغت الستين، وهو عمر لا يغري الشركات بي، وكل الأعمال التي عملت فيها من الدرجة الأخيرة، عضلية، مثل العتالة، والبستنة، وهي لا تحتاج إلى تدريب كبير، وكنت مكرماً في الديار، ديار ليلى، وديار مية، وديار عبلة، أميراً على رهط من الموظفين، يخاطبونني بلقب الأستاذ، فدارت بي الدنيا، وقذفتني من منزل عالٍ إلى خفض. ثم ما تلبث الشركات أن تطردني طرداً مؤدباً، فأعود إلى البيت منتظراً صدقات أولادي، وكثيراً ما آكل ما يفضل منهم، فهم لا يقدرون النعمة، يأكل واحدهم نصف البيتزا ويرمي بنصفها. والبيتزا طيبة، لكنها مضرة بصحة أمثالي، البيتزا تسبب السمنة لفزاعات العصافير، وقد سمنت كثيراً، وتورم بطني من الحزن. قرأت مرة أن الحزن من أسباب السمنة.

كان لوالدي رحمه الله غرفة، يعود إلى البيت، فنستقبله طامعين في لمسة، فيمسح رؤوسنا، أو يسهو بسبب كروبه وهمومه أو ديونه، أو مشاحناته في السوق، فالسوق أصل الشر، وقد يأكل طعامه على عجل، وينصرف إلى غرفته للراحة. ليس لي غرفة كما لآبائي في بلاد العلوج، فهم ينصرفون إلى غرفهم من غير طعام، أو لمسة يد كأنها ضربة جزاء في مباراة، فأبقى وحيداً، منبوذا مثل البعير الأجرب.

أخشى أن أموت فيحرقوا جثتي، يقشعر بدني خوفاً من الحرق، الذي أمسى وصية أثيرة للمحتضرين العلوج، وموضة شائعة، فهم يوصون بحرق جثثهم وذرّها في البحر!

وجدت أنّ آبائي لا يخاطبونني بنداء الأبوة: أبي أو بابا أو يابو، وإذا اضطروا للكلام، كلموني من غير خفض لجناح الذل من الرحمة.

لا تزال لي فائدة واحدة، فهم يستغيثون بي لقتل فراشة تسللت إلى غرفهم سعياً وراء الضوء، فأكرّ على الفراشة في عرينها، مغيثاً، منجداً، سعيداً بأني لا أزال مفيداً، نافعاً. مع أنّ الفراشات رسل خير وبشائر نعمة، أصيدها، فتذوب بين أصابعي، وتتحول إلى دقيق ناعم، إمّا لهشاشتها، وقد ضرب العرب المثل بخفتها، وإمّا لأني أريد أن أظهر لهم أني بطل مقدام من عصر المعجزات الغارب، ليس أقل بطولة من الزير سالم الذي كان يصيد الأسود ويحمل على متونها القرب، أو ربيعة بن مكدم "حامي الظعائن".

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (5)
عبدالرزاق
الخميس، 24-08-2023 02:10 م
أستاذنا الغالي، اسأل الله أن يلهمك الصبر و طول البال. ما ذكرته لنا يدمي القلب و إن غلفته بحنكة و فن راق بالبسمة الحانية. هذا هو حال الأولاد في الغرب، نهجر الأوطان و نتغرب تضحية لمستقبل أبنائنا، فنجدهم قد أخذهم السيل الجارف... أسأل الله لنا ولهم الهداية و السداد. ما لنا إلا البدء بهواية جديدة أو مشروع ثقافي أو أدبي، عل خريف العمر يمتلؤ خيرا و بركة و يرفع قدرنا في أعين أبنائنا؛ ففي الغرب، القيمة لمن يكون منتجا.
Taofik Nassan
الأربعاء، 23-08-2023 08:51 ص
نفتخر بك وبأمثالك من أبناء بلدنا الحبيب
إلى الصديق العزيز الكاتب والأديب أحمد عمر
الثلاثاء، 22-08-2023 11:37 ص
*** المقدام : - 3- الشكر الجزيل، والتقدير الكبير المستحق، نبديه لأستاذنا الفاضل الكاتب والأديب أحمد عمر، فلا نستطيع بكلماتنا أن نفيك حقك، فلك منا جمهور كبير من قراءك ومتابعيك ومشاركيك بالتعليقات على صفحات مقالاتك، من قراء العربية، من سائر أنحاء المعمورة في بلاد العرب والشرق والغرب والعجم، ممن تناءت بهم الديار، ولكن تقربهم منك قوة الروابط الفكرية والوجدانية، ممن يعتبرون أنفسهم من أعز أصدقاءك، وأخلص ندماءك، ونعتبرك أقرب إلينا من بعض ذوي قربانا وجيراننا. فقراءك ينتظرون نفثات قلمك، بما وهبه الله إياك من موهبة أدبية وفكرية نادرة، وأسلوب أدبي جذاب وممتع ومتميز، يمتعنا ويؤنسنا ويُسري عن أنفسنا، وينسينا متاعب الحياة اليومية، ويرفع من معنوياتنا في مواجهة مسئولياتنا الاجتماعية والعملية. فأحمد عمر بكتاباته، يُشعر كل واحد فينا بأنه يخصه بحديثه إليه، وكأنه مطلع على مكنون نفوسنا، وننتظر زياراتك لنا بمقالاتك الجذابة في عقر دارنا، التي تعبر عما يدور في خواطرنا، وما نود أن نقوله، ولكن تضيق به صدورنا، ولا تنطلق به ألسنتنا، ولا تسعفنا فصاحتنا في التعبير عنه، وقد نستغرق في مخيلاتنا في مناقشات حامية الوطيس معه، وكأنه يجالسنا ونجالسه. فتباعد الديار لم يعد كما كان في زمن مضى، فالعالم قد أصبح بحق كما يقال قرية صغيرة، متاح التواصل بين سكانها من مختلف أرجائها، بأيسر مما كان قائماً بين سكان قرى متقاربة في أجيال سبقتنا. وظاهرة الهجرات المؤقتة والدائمة ستتزايد، من بلاد الوفرة السكانية إلى بلاد قد تناقص مواليدها، والتواصل الحضاري نتائجه دائماً إيجابية، فهكذا نشأت وتوسعت الحضارة العربية الإسلامية وتواصلت بغيرها عبر العصور. ونشجعك على الإقدام على دراسة اللغة الألمانية بتعمق أكبر، فهي لن تصعب على من كان متمكناً مثلك من لسان قومه، وستضيف إليك فهماً أفضل للغتك القومية، وقد أصبحت دراسة اللغات الأجنبية متاحة وسهلة على مواقع الانترنت لتعليم اللغات، ويمكن في أشهر قليلة أن تشهد تحسناً سريعاً، بما في ذلك حسن نطقها، وعلى الله التساهيل.
الهجرة وصراع الحضارات في صالح أجيالنا المعاصرة
الإثنين، 21-08-2023 10:30 م
*** المقدام : - 2- ولا نعلم لم تخيلنا احمد بن عمر في خيالاتنا، ولعلنا كنا نتخيل أنفسنا في مكانه، كما نتمنى لأنفسنا، شاب وسيم مازال في مرحلة العنفوان، منطلقاً في الدنيا لا يحمل لها هماً، مع الشعراء والأدباء الهائمين في دنيا الجمال، الذين يتبعهم الغاوون في كل وادٍ، وكنا نظنه يعيش حراً طليقاً من كل قيد، يهز كتفيه الخالية من حمل كل مسئولية، دون أي قيود أسرية أو أبوية تطوقه، ويرطن مع جاراته ممن جاورهن في دار سكناه الجديدة بلسان الحسناوات الجرمان، بما لم نسمع به، بما لم يجري على ألسنتنا في بلاد العرب، وللأسف فمقالة الكاتب واعترافاته الذاتية قد جاءت لتوقظنا من أحلامنا وتخيلاتنا، بل قل بالأحرى أوهامنا، فتتبخر الصورة الفنية الجميلة المبهرة التي رسمناها من بنات أفكارنا، فإذا احمد بن عمر رغم كونه قد نأت به الديار، ما زال من بني جلدتنا، متصفاً بصفاتنا، وحاله من حالنا، في استغراقنا في شئون حياتنا، ويحمل هموماً كهمومنا، وأنه يجر كما نجر ورائنا طابور طويل من الذراري، وتضيع خصوصيته مثلنا في خصوصية ذويه، وإن تباعدت به البلاد، فتعيدنا اعترافاته، رغم ما فيها من مبالغات أدبية، فمكانة كاتبنا محفوظة، ومكانته العالية مقدرة لدينا، فإذا تصوراتنا لتلك الشخصية المتخيلة، كانت من أحلام مناماتنا، وأطماع شبابنا، الذي تباعدت به عنا السنون في كهولتنا. (ملحوظة جادة على هذر المشيبة عاليه: إن الهجرة والغربة الاضطرارية أو الإرادية، والاحتكاك وصراع الحضارات الذي يواكبها ، رغم مصاعبها، فنتائجها في غالبيتها إيجابية، بما تضيفه للخبرات الحياتية لأجيال عربية مسلمة، ستعيد بناء مجتمعاتنا في الشرق والغرب من جديد، وإن غداً لناظره قريب).
صولات وجولات احمد بن عمر في بلاد الفرنجة الجرمان
الإثنين، 21-08-2023 10:07 م
*** المقدام : - 1- خالص اعتذارنا لكاتبنا العزيز احمد بن عمر، عن سوء ظننا، الذي هو حسن ظن عند غيرنا، وأحياناً عندنا، فقد سولت لنا أنفسنا، الأمارة بالسوء، أو قل هي مراهقتنا المتأخرة المتمكنة المستوطنة من قديم، وريثة طموحات شبابنا المهدرة، حيث تمنينا أن نكون مكانه، فيما اعتقدناه فيه بتصوراتنا المريضة في مخيلاتنا، بأن كاتبنا يصول ويجول ويمرح ويلهو منطلقاً في بلاد الفرنجة، لا يحمل للدنيا هماً في بلاد الحريات المطلقة، والصرعات (الموضات) المستغربة، والتجارب الجديدة المدهشة، وموئل الفكر والفعل المنفلت، الموطن الأصلي لبنات الأحمر من البيض الحسان، المخاويات لبنات الجن في أسرهن للأبصار، وتلاعبهن بالنفوس الطواقة والرغبات الدفينة، والمعجبات والهائمات بالصبابة بالشعراء والأدباء القادمين من بلاد ألف ليلة وليلة البعيدة، فبنات الغرب هن فيما ندعيه، وما نسمعه مما يحكى لنا، يصلن ويجلن ويمرحن بلا حسيب أو رقيب، وليس لأحد من سلطان عليهن من قريب أو عزيز، من المتمكنات من القلوب والجيوب، إلا ما تمليه عليهن نزواتهن وأهوائهن، عافانا الله وعافاكم من مكرهن العظيم، وأبعدنا عن ما ساء من سبيلهن.