قضايا وآراء

الإعلام العربي المستقيل عن وجع الشعوب

غازي دحمان
لماذا تجاهل كثير من الإعلام العربي كارثة القارب؟- الأناضول
لماذا تجاهل كثير من الإعلام العربي كارثة القارب؟- الأناضول
ما الإعلام إذا لم ينتقد الخطأ ويسلط الضوء على المثالب ويكشف النواقص والعيوب؟ إن لم يفعل ذلك يفقد شرعيته ومعناه، والغرض الأساسي الذي نشأ من أجله الإعلام، وخاصة في جانبه المتعلق بالتحليل والمتابعة والتقصي، وتقديم الحقائق التي تختفي خلف واجهات تصنعها القوى الحاكمة والمستفيدة، عبر أدوات الحفر والاستكشاف والشك.

بالأمس القريب حصلت مذبحة في البحر الأبيض المتوسط، راح ضحيتها المئات من سوريا ومصر وفلسطين والعراق، عشرات المنابر في هذه البلاد، صحافة وقنوات فضائية ومواقع إخبارية لم تعرّج على الخبر، ففي صحف هذه البلاد كتبوا عن كل شيء تافه، واستعرض "قادة" الرأي في هذه البلدان قدراتهم في التحليل الجيوستراتيجي وعن صعود الصين وهبوط أمريكا، سجلوا تنبؤاتهم بشكل العالم في الثلاثين عاما القادمة، وأسالوا حبرا كثيرا عن مؤامرات الإخوان المسلمين، ولم يتناول أحد منهم قضية أبكت قلوب المصريين والسوريين و.. ولو حتى من باب التعاطف والتعزية.

صحف أوروبا، في اليونان وفرنسا وبريطانيا، وحتى الصحافة الأمريكية، ضجت بالخبر وأشبعته تحليلا ونقدا وحتى توجيه اتهامات صريحة للسلوك اليوناني، ونقد لاذع للسياسات وللأخلاق الأوروبية المتهمة بالاشتراك في الجريمة بسبب تقصيرها في تبني سياسات واضحة تجاه اللاجئين، وطالبت أغلب مقالات الرأي بضرورة إيجاد سياسات بديلة، وحتى إيجاد بدائل للهجرة عبر المساعدة على تنمية المجتمعات المُصدرة للاجئين، في الوقت الذي كان فيه أصحاب اللحم والدم يفاخرون بقدرتهم على فضح أساليب وطرائق تفكير الإخوان المسلمين، ويرسمون الطرق والمسارات لروسيا للوصول إلى قمرة قيادة النظام الدولي بمعية الصين!

والمفارقة أن صحف أوروبا، في اليونان وفرنسا وبريطانيا، وحتى الصحافة الأمريكية، ضجت بالخبر وأشبعته تحليلا ونقدا وحتى توجيه اتهامات صريحة للسلوك اليوناني، ونقد لاذع للسياسات وللأخلاق الأوروبية المتهمة بالاشتراك في الجريمة بسبب تقصيرها في تبني سياسات واضحة تجاه اللاجئين، وطالبت أغلب مقالات الرأي بضرورة إيجاد سياسات بديلة، وحتى إيجاد بدائل للهجرة عبر المساعدة على تنمية المجتمعات المُصدرة للاجئين، في الوقت الذي كان فيه أصحاب اللحم والدم يفاخرون بقدرتهم على فضح أساليب وطرائق تفكير الإخوان المسلمين، ويرسمون الطرق والمسارات لروسيا للوصول إلى قمرة قيادة النظام الدولي بمعية الصين!

ترى ألم تصل الأخبار إلى مسامعهم؟ ألم يخبرهم أحد بعويل طالع من المنوفية ودرعا؟ وإن سمعوا لِمَ لم يتعاطفوا مع حزن الأمهات وضياع الآباء؟ أم أن هذه القضايا تافهة في نظرهم ولا تستحق مناقشتها في صفحات الرأي وإشغال عقول النخب بمثل هذه السفاسف؟ وبدل ذلك، تناولوا قضايا تخص موازين القوى العالمية وتقدير أوزان اللاعبين وترجيحات السيطرة والنفوذ، في حين أن مثل هذه الحوادث لو حصلت في البلدان التي تتزعم النظام الدولي، التي يتوقع محللونا الكبار أن تراتبيتها ستتغير وينحازون بقوة للا موضوعيتهم هذه، لغيّرت مسارات الحكم وأسقطت حكومات ورؤساء دول، ولحوّلتها الحافة إلى قضية العالم المركزية.

ليس في الأمر سر، فتناول مثل هذه القضايا سيفتح الباب على البحث عن الأسباب التي تقف وراء ظاهرة مخاطرة آلاف الشبان في هذه الدول لركوب البحر واختيارهم المغامرة غير مضمونة النتائج بدل الاستقرار في بلادهم، وسيضطر أي تحليل منطقي للحديث عن سوء السياسات العامة والاستراتيجيات التنموية والتشغيلية التي تتبعها أنظمة الحكم في بلادنا، والحديث عن سوء توزيع الثروات واحتكار مراكز قوى في هذه الدول للثروة والسلطة، بل سيضطرون إلى القول إن الثورات المضادة التي تدّعي أنها أنقذت البلاد من مصائر قاتمة كانت ستجلبها الثورات؛ ليست سوى ائتلاف عصابات من العسكر وأجهزة المخابرات ورجال أعمال واجهات، وأن هؤلاء لا يعنيهم من البلاد التي ابتليت بحكمهم سوى رفاهية نسائهم وأرصدة أبنائهم، وأن مخارج الاقتصاد في هذه البلدان يجب أن يتم توجيهها لخدمة هذه النخب "العصابات" بالدرجة الأساسية.

تناول مثل هذه القضايا سيفتح الباب على البحث عن الأسباب التي تقف وراء ظاهرة مخاطرة آلاف الشبان في هذه الدول لركوب البحر واختيارهم المغامرة غير مضمونة النتائج بدل الاستقرار في بلادهم، وسيضطر أي تحليل منطقي للحديث عن سوء السياسات العامة والاستراتيجيات التنموية والتشغيلية التي تتبعها أنظمة الحكم في بلادنا، والحديث عن سوء توزيع الثروات واحتكار مراكز قوى في هذه الدول للثروة والسلطة

في الإعلام، مثل هذه القضايا تعتبر شائكة وتسبب الصداع، وقد تجلب المخاطر لمتناوليها، فلماذا يورط الكاتب نفسه بها، ما دامت هناك قضايا يعلك فيها ما يشاء ويتنمر على القراء عبر استعراض مفاهيم الجيوبوليتيك والذكاء الاصطناعي، وحتى الحديث عن عبقرية قرار عودة بشار الأسد إلى الجامعة العربية الذي مثّل ضربة معلم للنظام العربي؛ من شأنها وضعه على خارطة القوى الفاعلة للنظام الدولي في وقت قريب موعده بالأمس.

ما الإعلام إن كان على هذه الشاكلة؟ إذا تخلى عن طبيعته الاشتباكية وعن روحه المتمردة والرافضة، إن لم يحسب له الحاكم ألف حساب، وإن لم يضع المسؤول يده على قلبه وهو يطالع الصفحات وتنقطع أنفاسه وهو يرى، بالتلميح والتصريح، أصابع الاتهام موجهة له مع كل تقصير وتلكؤ، وإن لم تشعره التعليقات والتحليلات أن مستقبله السياسي قد ينتهي الآن، وليس غدا، ما لم يكن واعيا لمتطلبات وظيفته؟

الغريب أنه في بلادنا يصنع الكاتب عظمته بمدى قدرته على التطبيل للحاكم، فترى على سبيل المثال أحدهم مُثقلا بالألقاب التي ربما تنوء الجِمال عن حملها، (دكتور ورئيس مركز أبحاث وزميل في الجامعات الغربية وأستاذ مشارك في كتاب كذا وكذا)، ويكاد لا يتكنس من الندوات والمؤتمرات التي تعقد في شرق العالم العربي وغربه وتناقش مصائر ومستقبل العالم، في نفس الوقت هو بعيد كل البعد عن وجع أبناء بلده، بل يسخر وحتى يشمت بثورتهم على مستغليهم، ولا يخجل في نفس الوقت من مديح الحاكم والثناء على عبقريته وقدراته الخارقة.. لمن يكتب أمثال هذا؟

twitter.com/ghazidahman1
التعليقات (0)