مقالات مختارة

الله أم الإنسان؟

محمد جميح
عربي21
معدلات الجريمة في ازدياد، حالات التفكك الأسري والاضطراب النفسي والتفسخ الاجتماعي تسجل معدلات عالية، الإدمان وتجارة المخدرات تتسع، الحرائق تنتشر، والحروب تتدحرج كرتها بشكل مخيف، والغرب المتمدن الذي كان يتفرج على صراعات نصف الكرة الجنوبي لعقود طويلة بدأ يدخل مراحل خطيرة من الصراع مع استعار الحرب في أوكرانيا.

ومع تفجر الصراعات ترتفع الأسعار وتتزايد معدلات الفقر والبطالة، ويلجأ الناس إلى الجريمة التي تدخل مراحل متطورة من التنظيم، وتزدهر تجارة الجنس والمخدرات، وتتراكم الاحتقانات، لينطلق الجمهور للشوارع، يقطع الطرق ويهاجم رجال الشرطة، فتعم الفوضى ويهتز النظام، وتزداد موجات العنف والنار، ويقترب الإنسان من معدلات خطيرة من انعدام الأمن الغذائي والنفسي، ويفقد الثقة في نفسه، وتذهب أحلامه وطموحاته هباء مع كل معدلات التراجع التي تطالعنا بها نشرات الأخبار كل يوم، ويتعمق الإحباط، ويزيد الاحتقان ومشاعر الغضب والاستياء، في مشاهد يمثل الإنسان دور البطولة فيها بكل جدارة.

إنه الإنسان، بطل كل هذه الفصول التراجيدية، الإنسان الذي لا يكتفي بما يكفيه، فينطلق باحثاً عمَّا له وما لغيره، ويتسبب في خراب مادي وروحي ونفسي كبير، الإنسان الذي يجري طول الوقت، باحثاً عن السلطة والثروة والجنس، وينطلق من حرب إلى أخرى، ومن صفقة لغيرها، ومن لذة لما هو ألذّ، وكلما أوغل في «الشبع» زاد «جوعه» وكلما جمع في يده مصادر القوة زاد ضعفه وخوفه من المصير، وكلما أرضى رغبة الانتقام زاد توحشه وسعير نفسه المنفلتة من نوازع الخير ووخزات الضمير وقيم الجمال.

إنه الجري الذي لا ينتهي لإشباع الغرائز، والذي ينتهي إلى جوع وخواء مريع، إنه التحرر الكامل للغرائز البيولوجية الذي ينتهي إلى نهم لا يشبع وعطش لا يرتوي، وبالتوازي مع «الانفتاح الاقتصادي والثقافي والجنسي» الذي تشهده الكثير من البلدان، تتزايد معدلات الفقر والتجهيل القِيَمي والجرائم الجنسية المختلفة، ويتضخم معها الشعور بالخواء والخراب الداخلي، إلى أن ينتهي إدمان القوة والثروة وإدمان الجنس والكحول والمخدرات، ينتهي بهذا الإنسان البائس إلى الانتحار.

ومع أن موارد العالم تكفي الجنس البشري لحياة كريمة، لكن جشع الإنسان حولَّ هذا العالم إلى عالمين متمايزين: عالم نسبة سكانه 5٪ يمتلكون 95٪ من المقدرات، وعالم آخر نسبة سكانه 95٪ ليس لهم إلا 5٪ من الثروات، وهذا الخلل في الميزان الاقتصادي نتج عن خلل في الميزان الأخلاقي، وشلل في «القيم الروحية» أدى بهذا «السوبرمان» إلى ارتياد الملاهي وصالات القمار وعيادات الطب النفسي، قبل أن ينتهي إلى كومة من لحم متهالك وعصب تالف لا ينفع معه شيء.

إن مقدرات العالم تكفي كل الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، لكن كل تلك المقدرات لا تشبع نهم إنسان واحد أطلق العنان لغرائزه التي لا تملؤها الدنيا كلها.

هذه هي المعضلة، إنها في الإنسان ذاته، هو الذي فجر الحروب، وهو الذي احتكر الأرزاق، وهو الذي خرب نظام العالم، وأفسد كل شيء.

ثم بعد كل هذا الفساد يلجأ ذلك الإنسان إلى نوع من المكر الساذج لإخلاء نفسه من المسؤولية، ليقول إن الله هو السبب في كل ما يجري، أو يحاول التلطيف من حجم التهمة ليقول إن الله هو الذي رضي بكل ذلك، ولو لم يرض الله بذلك لمنع حدوثه، تمادياً في الجدل الذي يتوخى الإنسان من خلاله أن ينفي وجود الله الذي لا يستحضره إلا لكي يحمله مسؤولية الشر والفساد الذي ظهر في البر والبحر «بما كسبت أيدي الناس» حسب آيات القرآن الكريم.

وبدلاً من أن يواجه نيتشه الحقيقة العارية في أن الجشع والفساد والحروب والظلم والشر الذي انتشر كان بسبب الإنسان ذهب الفيلسوف الألماني إلى أسهل الحلول لمشاكل العالم بالقول إن الله هو سبب كل تلك الشرور، وإنه «قد مات» أو على حد تعبير فيلسوف القوة «لقد مات الله، قتلناه بأيدينا» لينطلق الإنسان الذي لم يشأ نيتشه أن يتهمه، ينطلق بعدها، ليضع نفسه مكان الله، ثم يحاول التحكم في مسارات العالم، إلى أن وصلنا إلى الحربين العالميتين، حين ألقى الإنسان – وليس الله – قنبلتين نوويتين على هيروشيما ونغازاكي، لينطلق بعدها لغزو الفضاء والتحكم بمقدرات العالم، ونشر المجاعة، والمتاجرة بكل شيء، لتتحول القيم إلى كاش مالي وسياسي في رصيده، ثم بعد ذلك كله ينسب لله – الذي لا يؤمن به أصلاً – مسؤولية أفعاله الشنيعة ضد الطبيعة وكائناتها المختلفة، ناهيك عن جرائمه في حق أبناء جنسه.

المشكلة – إذن – في الإنسان وليست في الإله الذي يحاول الإنسان أن يلقي بمسؤولية جرائمه عليه، وهي الدعوى التي لم تعد مستساغة ولا مقبولة، حيث لم يعد من الذكاء استعمال هذا الأسلوب العتيق في التهرب من تحمل تبعات أفعال هذا الإنسان، لأن هذا التهرب، ولأن إلقاء المسؤولية على غير الجاني لن يحل الإشكال، بل سيسهم في إيجاد غطاء للتستر على المجرم، لتضاف جريمة أخرى إلى جرائمه في تلويث وإفساد البر والبحر والفضاء.

الذي فجر الحربين العالميتين هي النازية والفاشية وليس الله، والذي أشعل ما بعدهما من حروب هما حلفا الناتو ووارسو وليس الله، والذي هجر الفلسطينيين هم الصهاينة وليس الله الذي زعموا أنهم شعبه المختار، والذي دمر العراق هم آل بوش، ومن بعدهم الإيرانيون، وليس الله الذي ألمح بوش الابن مرة إلى أنه يلهمه سياساته، والذي يزعم مرشد إيران أنه ظله على الأرض، أما الذي يدمر أوكرانيا اليوم فإنه الصراع الغربي الشرقي القديم، مهما حاول المتصارعون توظيف الخطاب الديني لصالحهم وادعاء التحرك بناء على تعاليم السماء، وسبب التخلف والصراعات والفساد وتراجع معدلات النمو والتعليم والصحة في بلداننا، السبب هو ذلك العربي: شعباً ونظاماً، ولا علاقة لله بالفساد والظلم والحروب، مهما ادعى التحالف الثيو- سياسي أن ذلك كله جاء من الله، وتنفيذاً لتوجيهاته.

بقيت الإشارة إلى نصوص قرآنية تتلألأ كلمع النجوم في هذا الليل الفوضوي الرهيب، من مثل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون». ومن مثل: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم..».، إضافة إلى النص الذي يشع حكمة: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس» لنختم بالرد القوي في الآية: «إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون».
صدق الله العظيم

القدس العربي
التعليقات (2)
يزيد صلاح
الجمعة، 24-02-2023 04:04 م
(تجاوز بعض الرواة عصر "بوذا" ما قبل الميلاد وقفزوا بافتراءاتهم إلى المسيح عليه السلام، فألصقوا الإنجيل المقدس.. لقد اختلطت المسميات في كتاب "إنجيل بوذا" فارتأى الباحث ضرورة التفريق بين مذهب "بوذا" التاريخي الأصيل وبين "بوذا" صنيعة الرواة وما نُسِبَ إليه من التراث الهندي)... إقتباس من كتاب (لا إنجيل قبل الإنجيل - بوذا الرجل الطيب) ، تأليف الباحثة (سناء محمد قطان) صادر عن دار أسامة للنشر والتوزيع في الأردن.
أحمد القاضي
الخميس، 09-02-2023 07:11 ص
أستاذ محمد جميح المحترم، تحية طيبة و عطرة و سلام الله تعالى عليك، قرات لك هذه المقالة الاكثر من رائعة و التي اختصرت حكم بالغة و عديدة. لا اجد الكلمات المناسبة التي تعبر عن مشاعري تجاهها. يحتاج المرء إلى سنين عديدة من البحث و التأمل مع المقارنة و التحليل ليصل إلى هذا المستوى من الكتابة. هناك مقالات اخرى بقلمك و كلها نالت اعجابي لما احتوته من حكم و قيم راقية. وفقك الله سبحانه و تعالى لما يحب و يرضى و أرجو دائما ان يظل قلمك مثل الريشة المبدعة التي ترسم معالم في الطريق.