مقالات مختارة

الديمقراطيات الشوفينية

عمار يزلي
1300x600
1300x600

عدة مفاهيم كانت إلى حد ما وإلى زمن قريب، مرتبطة بالأنظمة الشمولية، ومنها “الشوفينية”، التي ارتبطت بعهد الاشتراكيات في أنظمة تمجد الانتماء الجغرافي والعرقي تزامنا مع انتهاج الاشتراكية نظاما اقتصاديا اجتماعيا، وهو ما لم يكن يتماشى مع التعاليم الاشتراكية لدى المؤسسين، حتى أننا نجد هناك سجالا سياسيا إيديولوجيا سيّالا خلال الفترة بين 1917 و1945.


في الواقع، مفهوم الديمقراطية مثل الاشتراكية لا يمكن نظريا أن يلتقي مع الشوفينية، تماما مثل ما نقول “الإسلام والقبَلية”، لكن للأسف النظري لا يكون أحيانا إلا في الخطب والواجهات السياسية والإعلامية، التي قيل عنها أكثر من مرة “نفاقا” تعمل بمكيالين.


لقد أظهر الغرب الأوروبي، بشكل خاص، الذي كان إلى فترة ماضية، قبل الحرب العالمية الثانية، يمثل “المركز” فيما بقية البلدان تمثل المحيط والهامش، وهذا ما أدى إلى ظهور مفهوم “المركزية الأوربية”. أوروبا، التي انفردت خلال القرنين السابقين للثورة الفرنسية، أي انطلاقا من بداية الحملات الاستكشافية الجغرافية نهاية القرن الـ15، لدى البرتغال ثم الإسبان، واكتشاف “ماجلان” لمضيق ماجلان وعبور المحيط الهادي، والذي كانت رحلته الاستكشافية الاستعمارية أو رحلة تجوب محيط الكرة الأرضية بحرا، وصولا إلى ظهور التجارية المركانتيلية، خاصة مع ظهور بريطانيا العظمى قوةً اقتصادية جنبا إلى جنب مع فرنسا وبلجيكا وألمانيا..


القرنان السابع عشر والثامن عشر وما بعدهما، أسسا لفكرة أن أوروبا هي الحضارة الكبرى والمركز العالمي لكل تقدُّم وثقافة وعلم وقيم، حتى ولو اختلف الغرب فيما بينه على مواضيع تنافسية اقتصادية وريادية في الكتلة الغربية الأوربية. كان هذا طبيعيا قبل أن تظهر الولايات المتحدة قوةً اقتصادية مهيمنة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ودورها في إعادة تشكيل وبناء أوروبا المحطمة لتضمَّها إليها لاحقا تحت جناح الحلف الأطلسي.


نتحدَّث عن هذا الموضوع اليوم، ليس من باب التاريخ، بل من باب الحاضر وعودة الشوفينية التي كانت مرتبطة بالأنظمة الشمولية والثيوقراطية، لتصبح لصيقة بأوروبا الديمقراطية. الديمقراطية الغربية التي بُنيت على الرأسمالية الممجِّدة للحريات وخاصة الحريات الفردية، وللعقلانية ولفصل العامّ عن الخاص، وهو ما يمثل المبادئ الثلاثة للعلمانية. الشوفينية هي شكلٌ من أشكال العنصرية والدونية تجاه كل من لا ينتمي إلى نفس الفضاء واللون واللغة والقيم. هذا الشعور والموقف الشوفيني من “الأغيار” نجده أيضا في الثقافة اليهودية: “اليهود ضد الغوييم”: الغوييم هم الأغيار “الأميين”، كما ذُكر في القرآن الكريم.


ولأنَّ الثورة الفرنسية بالأساس، وباقي الديمقراطيات الغربية، أسِّست على الثالوث: حرية، عدالة، أخوّة، فإن اليهود قد ساهموا بقوة في دعم الثورة الفرنسية في المدن ضد الإقطاع والكنيسة التي كانت تُرهق كواهل الناس وتفرِّق بينهم وتحتجز اليهود في القيطوهات، وتنشر العداء ضدهم، وهذا إلى غاية الحرب العالمية الثانية، منذ أن اعتمد عليهم نابليون في حملاته تجاه مصر وروسيا، لينقلب عليهم بعدها، كما حصل لليهود كل مرة عبر التاريخ.


تعود اليوم الشوفينية الضيقة في الخطاب السياسي الغربي وفي المواقف من دول “الأغيار”. ويبدو أن حرب أوكرانيا قد أماطت اللثام عن هذا الجانب الذي كان مرتديا لباس النُّسَّاك إلى فترة قصيرة. كما أن احتضان قطر لكأس العالم في كرة القدم، لم يكن ليقابَل بذلك الفعل المضاد السلبي لولا هذا الشعور الفوقي بدونية “الأغيار”؛ فهم وحدهم وفقط، من يحقُّ لهم تنظيم البطولات العالمية، فالبطولات، عندهم، لهم وحدهم دون غيرهم. هذا هو المنطلق السيكولوجي الذي تنطلق من الاسلاموفوبيا والعربوفوبيا والروسوفويبا، وهو ما يعني أن مفهوم الديمقراطية لم يعد ذا معنى بالأساس.

 

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)