كتب

الدين ورهان التأسيس للخطاب الحقوقي ومناهضة الهيمنة

الروحاينة المهمة التي يزخر بها الدين تمكن من بناء الضمير الذي يقاوم الفظائع
الروحاينة المهمة التي يزخر بها الدين تمكن من بناء الضمير الذي يقاوم الفظائع

الكتاب: لو كان الله ناشطا حقوقيا: نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة
الكاتب: بوافنتورا دي سوسا سانتوس
ترجمة البشير عبد السلام
دار النشر: دار الإحياء للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى ـ السنة 2022

 
منذ أكثر من نصف قرن، وتحديدا مع إرساء قواعد وهياكل الشرعية الدولية في الأمم المتحدة، بدأ يتبلور خطاب حقوق الإنسان، ويتدرج في التأسيس لأجياله المدنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية، وأصبح يكتسح الساحة الثقافية والسياسية، ويخترق إيديولوجيات الدول والمجتمع السياسي والمدني على السواء، حتى أصبح مرجعية للفاعل السياسي السائس والمسوس، وأيضا مرجعية للفاعل المدني المشارك في هموم التنمية.

وإذا كان التوتر بين المعسكرين الغربي والشرقي، قد ساعد على التغطية على سؤال الشرعية، أي شرعية الحامل لخطاب حقوق الإنسان بالتعريف الغربي، بسبب أزمة النسق الشرقي وقتها (أزمة الحرية السياسية تحديدا)، فإن انكسار هذا المحور وهيمنة النموذج الغربي لعقود طويلة، أعاد سؤال الشرعية إلى التداول اليومي، لاسيما بعد مراقبة طويلة لسلوك الفاعل السياسي الحامل لهذا الخطاب، أو بالأحرى، النموذج الغربي الذي يتمثل هذا الخطاب الحقوقي.

استقراء هذا السلوك، سواء في تدبير علاقات الشمال مع الجنوب، أو من خلال سياسات الهيمنة، أو من خلال ملاحظة الازدواجية في التعامل، أو من خلال انتهاك القواعد المؤسسة للشرعية الدولية، أو دوس قواعد القانون الدولي في عدد من الممارسات الغربية (العراق، فلسطين، ليبيا، البوسنة والهرسك...)، حرك كثيرا من الأسئلة حول شرعية تمثيل النموذج الغربي للخطاب الحقوقي، وهل صار صالحا لأن يبشر بحقوق الإنسان أو يدعي تماهي سلوكه معها، أو يزعم أنه يحرسها في العالم، ويدافع عنها، وينتفض ضد كل من انتهكها.

هذه الأسئلة التي وضعت شرعية النموذج الغربي في تمثيل الخطاب الحقوقي، لم تبق في حدود مساءلة ومحاكمة السلوك السياسي الغربي المطبوع بسمة الازدواجية والهيمنة، بل تعدت ذلك إلى نقد التأسيس الغربي لحقوق الإنسان، ومحاولة البحث عن خطابات متعددة في نماذج وتجارب أخرى في العالم (دول الجنوب)، يمكنها أن تنهض بمهمة التأسيس الجديد لهذا الخطاب، بحيث يتجاوز أعطاب الازدواجية والانتقائية والهيمنة، وتوظيف حقوق الإنسان كأجندة سياسية للسيطرة على مقدرات الشعوب، وأحيانا كذريعة للاستعمار بمختلف مستوياته.

والمثير في عملية البحث هذه، أنه في الوقت الذي تكرس فيه منطق إبعاد الدين من المجال العام، أصبحت العديد من الكتابات، تعاكس هذا التيار، وتحاول أن تبحث في خطابات الدين المختلفة عن إمكانية إعادة التأسيس لخطاب حقوق الإنسان، بالنحو الذي يتحرر فيه من أعطاب التأسيس الغربي.

في مبررات البحث عن لاهوت حقوقي

تأتي في هذا السياق، محاولة بوافنتورا دي سوسا سانتوس المعروف في الأوساط الأكاديمية باشتغاله بنظرية "إيبستمولوجيا الجنوب"، تلك النظرية التي تمركزت أساسا حول تطهير المعرفة من المصاحبات الكولونيالية وتثمين الأفكار التي أنتجت في دول الجنوب، وبشكل خاص أفكار الشعوب المضطهدة والمهمشة والمستغلة من قبل دول الشمال.

خلفية الرجل ومساره العلمي، فضلا عن أدبياته، تشير إلى هذا الاهتمام المحوري، تكشف عن اتجاه أفكاره نحو تثمين ثقافة الهامش واستقراء تصورات الجنوب لمواجهة هيمنة الشمال، فالرجل اشتغل قبل عقدين على مفهوم دمقرطة الديمقراطية 2004، واشتغل على نزع الاستعمار عن المعرفة وإعادة تشكيل السلطة 2007، وركز جانبا من اهتمامه على ثورات السخط 2015، واشتغل على أعطاب الديمقراطية في أوروبا، من خلال تعميق النظر في الهامش الأوربي 2016، وساعدته هذه الدراسات المشككة في جوهر النموذج الديمقراطي والحقوقي الغربي على تشكل نظرته الإيبستيمولوجية، من خلال كتابه النوعي: "تشكل إيبستمولوجيات الجنوب: الأنطولوجية المؤسسة 2019.

 

يقدم "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية درسا ملهما لإمكانية أن يؤدي الدين دورا تقدميا، من خلال استثمار نصوصه لبناء خطاب تحرري، ينهض بالطبقات الكادحة للدفاع عن كرامتها ومناهضة الهيمنة، بل يقدم بالنسبة إلى المؤلف درسا أكثر أهمية بخصوص إمكانية أن يؤدي الدين دورا في تشكيل خطاب حقوقي أصيل، يستطيع أن يدافع عن الكرامة الإنسانية ويعيد تعريفها، ويدافع عن الإنسان،

 



هذا المسار المختزل من سيرة الرجل العلمية والأكاديمية، تبين السياق الذي جاء فيه كتابه موضوع المراجعة، أي: "لو كان الإله ناشطا حقوقيا"؛ أي سياق تفكيك واقع التراجع الذي يشهده العالم في مجال العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وما ترتب عن ذلك من اتساع المعاناة الإنسانية، لاسيما في دول الجنوب، حيث تعيش الدول المهمشة والمضطهدة والخاضعة للهيمنة الغربية.
 
لكن الملحظ المهم المسجل، أو بالأحرى التحول المهم في نوع المقاربة، ليس فقط استنفاذ الغرض من إعادة تأسيس الخطاب الحقوقي من داخل النموذج الغربي، ومحاولة البحث عن إمكانية لهذا الإسهام من داخل ثقافة الجنوب، بل إن هذه المساهمة، اتجهت رأسا إلى الدين، بشتى تعبيراته المسيحية والإسلامية، لاختبار إمكانية هذا التأسيس.

يكتسي التحول أهميته في تجاوز مفاهيم العلمنة التي تفرض البحث عن محاولة التأسيس من خارج الخطاب الديني، إلى اختبار النص الديني المختلف، قصد التأسيس للخطاب الحقوقي من داخله.

يقدم "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية درسا ملهما لإمكانية أن يؤدي الدين دورا تقدميا، من خلال استثمار نصوصه لبناء خطاب تحرري ينهض بالطبقات الكادحة للدفاع عن كرامتها ومناهضة الهيمنة، بل يقدم بالنسبة إلى المؤلف درسا أكثر أهمية بخصوص إمكانية أن يؤدي الدين دورا في تشكيل خطاب حقوقي أصيل، يستطيع أن يدافع عن الكرامة الإنسانية ويعيد تعريفها، ويدافع عن الإنسان، دون السقوط في سياسة الانتقاء أو الازدواجية أو الهيمنة، ودون أن يتحول هذا الخطاب نفسه إلى آلية لإرهاق الشعوب الأخرى والهيمنة على مقدراتها، وأيضا دون أن يفرض مركزية أخرى على غرار ما قام به الخطاب الحقوقي الغربي من فرض مركزية الإنسان الأوروبي، وتهميش إنسان دول الجنوب أو قهره واستعباده.

تقوم أطروحة هذا الكتاب على فكرة البحث عن الخطابات والتصورات المغايرة للخطاب الغربية في التأسيس لحقوق الإنسان، والكاتب في هذا المسعى الجدي لنخل واستقراء هذه الخطابات، لا تستهويه الكتابات النقدية للنموذج الغربي، التي تنطلق من الأرضية نفسها، وتنتهي في المحصلة إلى تزكية نموذج آخر مهيمن، ولكنه يبحث أساسا عن الخطابات الجدرية التي تناهض الهينة الغربية، إذ يركز بشكل خاص على الأصولية الدينية المحافظة بشتى تعبيراتها، بما في ذلك لاهوت التحرير المسيحي (نموذج أمريكا اللاتينية).

الدين كفاعل تحريري

لا يزكي الكتاب فكرة محورية دور الدين في المجال العام، بل ينطلق من أطروحة أخرى، تعدُّ أن للدين دورا محوريا في تحرير الإنسان وصون الكرامة الإنسانية ومناهضة واقع الظلم والهيمنة، وأن الخطابات الدينية المختلفة، تلتقي حول هذه السمات المركزية التي تصلح لعملية التأسيس للخطاب الحقوقي.

ومع خلفية الرجل اللادينية، إلا أن ذلك لم يمنعه من نقد العلمانية الحداثية لإنكارها دور الدين في المجال العام، إذ بنى نقده على الإمكانية التي يوفرها الدين لبناء تصورات موضوعية حول الكرامة والحقوق، هذا فضلا عن الروحاينة المهمة التي يزخر بها الدين، التي تمكن من بناء الضمير الذي يقاوم الفظائع، والقوة التحفيزية التي تدفع البشرية نحو الخلاص من الظلم والهيمنة.

 

قد يبدو مزج الأديان كلها في بوتقة واحدة، ومحاولة التماس خطاب حقوقي من خطاباتها المختلفة، أمرا غير مستساغ داخل العالم العربي والإسلامي بحكم أن الفكرة الغالبة في هذا النسق، أن الإسلام وحده من يوفر هذه الإمكانية دون غيره، أو أن الدين على الأقل في التجربة المسيحية، ساهم في بناء تجربة رجعية زكت واقع الظلم واللامساواة والهيمنة.

 



يعتقد الكاتب بجزم أن الخطابات الحداثية المتعلقة بحقوق الإنسان أضحت عاجزة عن القيام بمحاولة تأسيسية أو تصحيحية لنموذج الحقوقي الغربي، وأنها لذلك لم تعد قادرة على مواجهة التحديات الحقوقية التي يواجهها إنسان اليوم حتى لو أرادت القيام بذلك، ويرى أن بناء خطاب حقوقي جديد مناهض للهيمنة، هو وحده السبيل الممكن لهذه المحاولة التأسيسية، ويقترح لذلك الاقتراب من اللاهوت الديني في تعدده وتقديمه بغير الاقتصار على دين دون آخر، ويعدّ أن هذا الاقتراب يفيد في هذه المحاولة التأسيسية؛ لأن النص الديني يمتلك رصيدا هائلا يمكن للتعبئة ضد الهيمنة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية وصون الكرامة الإنسانية.

في الفائدة العملية لأطروحة الكتاب في سياق عربي إسلامي

قد يبدو مزج الأديان كلها في بوتقة واحدة، ومحاولة التماس خطاب حقوقي من خطاباتها المختلفة، أمرا غير مستساغ داخل العالم العربي والإسلامي، بحكم أن الفكرة الغالبة في هذا النسق أن الإسلام وحده من يوفر هذه الإمكانية دون غيره، أو أن الدين على الأقل في التجربة المسيحية، ساهم في بناء تجربة رجعية زكت واقع الظلم واللامساواة والهيمنة. 

لكن الاقتراب الذي قام به الكاتب، يقدم خطوة أولى مهمة، يمكن أن تساعد المثقفين في العالم العربي، من توسيع آلياتهم النقدية تجاه التجربة الحداثية الغربية، وتمكن السياسيين أيضا من التأسيس لقاعدة صلبة لوحدة شعوب مختلفة في دول الجنوب، ضد الهيمنة التي يمثلها النموذج الغربي، وبناء منصة تلتقي فيها شعوب مختلفة، من أجل بناء خطاب حقوقي وسياسي مختلف، يؤسس للعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، من داخل تصورات موضوعية لا تزكي الهيمنة ولا تخدم أجندتها، كما توفر هذه المساهمة مساحة مهمة لفك الاشتباك بين تيارين أساسيين داخل المجتمعات العربية والإسلامية؛ تيار يناهض دور الدين في المجال العام بدعوى أنه يسير في اتجاه معاكس للديمقراطية وحقوق الإنسان، وتيار يرى أن للدين دورا محوريا في المجال العام، وأنه يمكن من بناء تجربة ديمقراطية على أساس مختلف للنموذج الغربي.

والجوهري في هذا الحل الذي يفك الاشتباك بين التيارين المتصارعين في العالم العربي والإسلامي، أنه يعيد قراءة التجربة الغربية من زاوية نقد نموذجها القائم أساسا على فكرة المركزية الغربية والنزعة الكولونيالية والهيمنة على شعوب الجنوب، كما يعيد قراءة النص الديني، وذلك من زاوية قدرته على التثوير في المجال الاجتماعي والإنساني، وذلك بالتركيز على الرصيد التعبوي والتحفيزي الذي يمتلكه لمناهضة الظلم وتحقيق العالة الاجتماعية، وأيضا على صون الكرامة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الإنسان بشكل إنساني موضوعي، لا انتقائية فيه ولا ازدواجية فيه، ولا انتصار لمركزية ما ضد هامش ما.

يصر الكاتب في مجمل فقرات كتابه، أن يرسخ قناعته بأن فهم العالم هو أكبر من فهم الغرب للعالم، وهي قناعة تتعارض مطلقا مع منطق بعض التيارات الأصولية المحافظة، التي تحاول أن تفرض نمط رؤيتها للعالم، وتحتكر تعريفها لمفهوم الكرامة الإنسانية، وتتناقض أيضا مما تعتقده التيارات الليبرالية التي تتماهى مع الرؤية المركزية الغربية، التي لا ترى الكون إلا من منظار ما يراه الغرب، بل تعتقد أن سبب تقدم الغرب هو رؤيته للعالم، وبذلك تحاول أن تفرض هذه الرؤية، وتعتقد أنها السبيل الوحيد لتقدم دول الشرق.

تشير مقدمة الكتاب إلى فائدة مهمة للكتاب في سياق التداول العربي، هي ما يزخر به من أدبيات وإحالات ومراجع متعددة ومختلفة، تجتمع كلها على نقد المركزية الأوروبية ونقد نزعتها الكولونيالية، وهو ما يساعد في نظر مترجم الكتاب في استيعاب تجربة النقد هذه، وإثرائها وإغنائها وتحقيق التراكم فيها، بالشكل الذي يضمن تعدديتها، ويجعلها حاضرة بقوة في المجال التداولي العام، حتى تترسخ فكرة أن الحركية الفكرية والأكاديمية التي تضطلع بنقد الشمال، هي أوسع بكثير مما يتصور الشمال، بل أوسع بكثير مما يتصور الجنوب عن مكوناته وأهم الفاعلين فيه.
 
يتوزع الكتاب على خمسة فصول، يناقش في الأول لاهوت التحرير، وضمنه يناقش مبررات لاهوت التحرير (مناهضو مينة النموذج الغربي)، وينتقد نظرة الغرب للدين، وبشكل خاص إقصاءه من المجال العام، ويستقرئ أنماط لاهوت التحرير، ويركز على تعددية هذا اللاهوت وشموله للاهوت الأصولي واللاهوت المحافظ واللاهوت التقدمي، بينما يعالج الفصلان الثاني والثالث نموذجي الأصولية الإسلامية والأصولية المسيحية، ويدرج ضمن الأصولية المسيحية المسيحية العربية، ويخصص الفصل الرابع لمناقشة نقاط التماس بين أنماط اللاهوت السياسي، سواء من زاوية مبادئها المتخاصمة، أو من زاوية ارتباك جذورها بخياراتها، أو من زاوية ارتباك المقدس والمدنس، أو الديني والعلماني، أو المتعالي والمحايث. في حين، يحاول في الفصل الخامس، التأسيس لمنظور آخر لحقوق الإنسان، غير علماني أو متجاوز لما هو علماني (ما بعد علماني)، وذلك بالتركيز على ما تتيحه الخطابات الدينية المختلفة من تعريفات مختلفة عن النموذج الغربي للذات الإنسانية، ومعاناتها مع الظلم والهيمنة، ومن توق راديكالي نحو التحرر وتحقيق أفق ما بعد الرأسمالي، والمحفزات الثقافة التي تتضمنها هذه التعبيرات لصون الكرامة الإنسانية، ومن قدرة على تقديم رؤية أخرى للعالم تخالف النظرة المركزية الأوروبية.


التعليقات (1)
د. محمد سعيد
الجمعة، 14-10-2022 09:36 ص
مع كل الشكر للاهوت التحرير كقراءة معاصرة للدور المبدئي للدين في مقاومة الهيمنة والسيطرة والتمييز والاستغلال والفساد والحرب، أي الجرائم المعاصرة الأكثر جسامة، ثمة حاجة لتكوين فريق بحثي من العلماء الأكثر نباهة والحقوقيين الأكثر نزاهة للعمل على دور الإسلام في التحرر وانعتاق الإنسان من أشكال العبودية القديمة والمعاصرة عبر التأصيل القرآني لفكرة العدل في الدولة والمجتمع والعلاقات بين الدول والمجتمعات هذا نداء لمشروع حضاري فكري نحن وكل المظلومين بأمس الحاجة إليه في ظروف الخواء الفكري والانحدار الأخلاقي وتدهور حقوق الإنسان والبيئة على الصعيد العالمي
الأكثر قراءة اليوم