قضايا وآراء

صحابيّات إعلاميّات وحقوقيات

رانية نصر
1300x600
1300x600
قد تكون الصّورة الذهنيّة المُتَصَوَّرة لدى الآخر عن دور المرأة المسلمة في مجتمعها غير مكتملة أو مجتزأة؛ لكونها صورة نمطية تقليدية، اقتصرت لدى البعض على تأدية المهام الزوجية والأسرية فقط!

وبالرغم من عِظم وأهميّة هذا الدور في بناء الأسر والمجتمعات الإسلامية؛ إلّا أنه لم يُسلّط الضوء بشكل كافٍ على أدوارها العظيمة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة عن دورها التقليدي!

والنّاظر بعين فاحصة قليلاً في التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر؛ يدرك أنّ دور المرأة لم يقتصر تحديداً على الدوري التقليدي على عظم أهميّته؛ بل تعدّاه ليشمل كافة مجالات الحياة، ومِن ذلك المجال الإعلامي والدعوي والحقوقي. وسيناقش هذ المقال أحد أهم هذه النماذج النبوية الجديرة بالذكر، كعَلم من أعلام العمل الإعلاميّ؛ ألا وهي أسماء بنت يزيد بن السّكن بن رافع بن امرئ القيس بن عبد الأشهل، رضي الله عنها.

أسماء الأنصاريّة الأوسيّة الأشهليّة؛ إحدى أبرز الكاريزمات النسائيّة القياديّة اللواتي لمَعَ نجمهُنّ في عهد النّبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك للأدوار الرّياديّة التي اضطلعت بها منذ بداية دخولها الإسلام وحتّى وفاتها، رضي الله عنها.

أسلمت أسماء في العام الأول للهجرة، وحَسُن إسلامُها، وأخذت نفسها بالحزم والعزم في جميع أمور دينها، فقامت بأدوار متنوّعة خلال مسيرة دعوتها، فنراها مرة باحثة عن الحقيقة في مجال طلب العلم، ومرة حقوقيّة تدافع عن حقوق بنات جنسيها فيما سمح لها به الشرع، ومرة إعلاميّة ومُحاورة مفَوّهة بجرأة وشجاعة أدبية راقية حتى لُقّبتَ "بخطيبة النساء"، وأخرى فقيهة ومربيّة وطبيبة تداوي الجرحى في أرض المعارك، ومُسَعّرة حرب تُحفّز وتشجع الرجال على الإقدام، فلا تفتأ تنظر يمنة أو يسرة إلّا وتلمح خيالها وأثرها المبارك في كل ميدان فاعلة ومتفاعلة لا تخشى في الحقّ إلا الله.

اهتمّت أسماء رضي الله عنها وأرضاها بنقل الرسائل النبوية التي كانت تتلقاها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى بنات جنسها، فكانت خير رسول عن خير رسول.

هذه الصحابية العظيمة (أسماء بنت يزيد) قامت بعدة مهام أهّلتها لتصّدر الدور الدعوي والإعلامي النسائي، فضلاً عن خصائصها الشخصية والفكرية، فالذي ميّز هذه الشخصيّة الفذة هو الجرأة المحمودة في مقام السؤال والاستفهام، فكانت حريصة رضي الله عنها على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحكام النّساء دون خجل أو وجل؛ حتى في أدق التّفاصيل. ويقال إنها جاءت رضي الله عنها يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن الطهارة فأوكل أمرها صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها، فلم يمنعها حياؤها كونها امرأة من التّفقّه في أمر دينها!

كانت أسماء امرأة رَجُلة العقل، قوية الإيمان، أُعَطيت الفصاحة والبيان، صاحبة همة باسقة، وإرادة عالية، وشكيمة صلبة، كانت شجاعة ومبادرة، وقد رُوِىَ أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت: "بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدةُ النساء إليك: إنّ الله تعالى بعثك إلى الرّجال والنّساء كافة، فآمنا بك واتّبعناك، ونحن معشر النساء محصُورات مقصُورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فُضّلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحجّ بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإنّ الرجل إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربّينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الأجر والخير؟!".

فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه لأصحابه فقال عليه السلام: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا.. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: انصرفي يا أسماء وأعلمي مَن وراءك مِن النّساء أنّ حُسن تَبَعُّل المرأة لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتّباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال. فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشاراً بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويشير هذا الحديث لدلالات عظيمة ترشد المرأة المسلمة والداعية إلى مبادئ هامة ومنهجيات دقيقة، منها:

أولاً: أن أسماء جاءت إلى رسول الله تسأله؛ وهذه إشارة إلى مشروعيّة سعي المرأة وخروجها في طلب العلم الشرعي والتّفقه في الدّين بالضوابط الشرعيّة المرعيّة والمعروفة من اللباس المحتشم، وإذن الولي.. إلخ.

ثانياً: مشروعيّة الحديث أمام الرجال؛ فلم يُنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أسماء رضي الله عنها حديثها وسؤالها أمام الصحابة؛ وهذه حجّة على من يدّعون أنّ صوت المرأة عورة، أو الذين لا يجوّزُون حديث المرأة أمام الرجال، سواء في مقام العلم أو العمل أو المعاملات الحياتية الروتينية!

ثالثا: ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على سؤال أسماء رضي الله عنها إشارة إلى استحباب طلب العلم والمعرفة والسؤال؛ بل ووجوب تفقّه النساء في شؤون دينهم.

رابعاً: ذكاء أسماء رضي الله عنها جعلها تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المساواة بين الرجل والمرأة في الأجر لا في المهام والوظائف؛ لأنها أدركت بفطرتها السّوية أنّ الرجال خُلقوا بقدرة لا تستطيعها المرأة؛ فاستحالت المساواة بينهما، وهذه فطنة وحذاقة قلما نجد مثيلها في الأصوات المنادية اليوم بمساواة المرأة بالرجل!

فالمرأة المسلمة قائدة ورائدة وداعية وإعلامية وحقوقية ومعلمة وتربوية وزوجة وأم صالحة فارسة في ميدانها، وقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة؛ بما يحفظ كرامتها كأنثى، فليست بحاجة لنماذج غربية وافدة لا تمثل هويّتها وعقيدتها الإسلاميّة!

كانت تطالب أسماء بحقوق قريناتها وتدافع عنهن مراعية حدودها كامرأة، فلم تُفقدِها جرأتُها إحساسها بكونها أنثى مسلمة محتشمة؛ ولم تفعل كما يفعلن النسويّات اليوم الباكيات والمدّعيات والدّاعيات لحرية المرأة المُطلقة.

وهذا النموذج الحقيقي الذي يجب أن نصدّره اليوم كقدوة مُشرّفة تَحتذى به أخواتنا وبناتنا المسلمات والداعيات، فنهضة الأمة لن تقوم على أكتاف الرجال وحدهم؛ بل المرأة عنصر مهم في هذه النهضة وهذه المسيرة تساند فيها الرجل بما يتوافق وطبيعتها البشرية، وفي حدود الضوابط الشرعية.. فالنساء شقائق الرجال، يكمل أحدهما الآخر لعمران الأرض ونهضة الأمم وإقامة الحضارة ضمن التكاليف التي خصصها الله عز وجل لكل منهما.
التعليقات (0)