كتاب عربي 21

إنقاذ الطفل ريّان: كما لو كان فيلماً أمريكياً!

أحمد عمر
1300x600
1300x600
تحوّلت قرية شفشاون المغربية إلى قبلة للجيران والإعلام العربي بل والعالمي، وسهر الناس منتظرين إخراج الطفل الواقع في البئر وأنشدوا "طلع البدر علينا".. وقرأت توقيعات لكتاب معروفين ذكروا "اليقظة الإنسانية"، ووجدت مشاهير جعلوا من الطفل قائدا، وقالوا "بالوحدة العربية"، وأن الخصومة بين الجزائر والمغربي ولت إلى غير رجعة، وتذكرت حرمة المواطن الأمريكي والأوروبي خارج بلاده، وصرخة الإيطالية أم جوليو ريجيني وهي تندب ابنها المقتول في مصر قائلة: قتلوه كما لو أنه مصري!

نعرف قوة الإعلام وبأسه، لكن لم يخطر في بالنا أن يجعلوا من ابننا أميرا وهو يحتضر.

كأنّ بلادنا مدن فاضلة، لا يقع فيها أطفال في الآبار، والآبار لا تحفرها سوى الدولة. الآبار ممنوعة في سوريا حرصاً من نظامها الموّقر على الأمن القومي المائي، والأمن المائي يعني عطش الشعب، كأنّه لا تغرق في بحارنا سفن وعبارات في البحر.. الحياة مثالية في التلفزيون الرسمي العربي، كأنه لا تسحق في شوارعنا الدباباتُ سياراتٍ عابرة. الأخبار سعيدة في البلاد العربية خوفاً من توهين روح الأمة الهش، وإضعاف الشعور القومي الرقيق. نعرف حرص حكوماتنا على معدل الترفيه، فقد أعلنت السعودية انتهاء حقبة الحزن والخوف، وبدأت مرحلة الفردوس الأرضي.

الرئيس العربي أكثر الناس حرصاً على الأضواء، يغار من الطالعين على القمر والغارقين في البحر، فما الذي جعل ريّان يخطف منه الأضواء والأخبار؟
الرئيس العربي أكثر الناس حرصاً على الأضواء، يغار من الطالعين على القمر والغارقين في البحر، فما الذي جعل ريّان يخطف منه الأضواء والأخبار؟

ما زال خبر الطفل ريان وذيوعه في وسائل الإعلام ومحطات الأخبار يحتاج إلى تفسير، فكأنه طفل من كوكب العالم الأول، وليس من العالم الأخير! تحوّل بئر شفشاون إلى برج أعلى من برج خليفة، مثله مثل فتية كهف ثام لوانغ في تايلند الذين شغلوا الإعلام العالمي، واجتهد في إنقاذهم إحدى عشرة دولة من دول العالم الأول وألف فني ومهندس وطبيب.

لا ليس اسم ريان هو السبب، ووجدت أن كثيراً من المذيعين والضيوف من محللين وأطباء وهم يتابعون أخبار الطفل ريان في غيابة الجب، ويحاولون وصف حالته الصحية، ويبثون الأمل في الشعوب العربية التي صارت أربعة منها تحت الاحتلال؛ تلفظ اسمه كاسم بطل فيلم ستيفن سبيلبرغ "إنقاذ الجندي رَيان" الذي مثّل دوره توم هانكس.. ويفتحون راء ريان كثيراً، حتى أنهم يمدونها ويجعلون الفتحة ألفاً. وريّان اسم باب من أبواب الجنة، يدخل منه الصائمون.

نافس طفل لم يبلغ الخامسة الرؤساء العرب، وهم يقومون بوظيفتهم الأساسية الجليلة التي انتخبوا من أجلها، وهي استقبال الرؤساء ووداع شعوبهم إلى الهاوية، وأخبار حرب أوكرانيا وروسيا الوشيكة.. وخبر لون كمامة السيسي النيلي في الصين على صفحات التواصل، وكان قد زارها من أجل المباركة بسنة النمر، وتردى خبر معركة الفنان محمد صبحي مع قائد معركة الترفيه تركي آل الشيخ إلى مرتبة أدنى، واعتذار باسم سمرة عن مؤازرة ابن بلده محمد صبحي لصالح تركي آل الشيخ حتى يبث مسلسل مصري اسمه "منورة بأهلها" في شبكة سعودية.. لن تنور بأهلها إلا إذا رضي تركي آل الشيخ.
نافس طفل لم يبلغ الخامسة الرؤساء العرب، وهم يقومون بوظيفتهم الأساسية الجليلة التي انتخبوا من أجلها، وهي استقبال الرؤساء ووداع شعوبهم إلى الهاوية، وأخبار حرب أوكرانيا وروسيا الوشيكة

وتذكّر بعضهم الحديث النبوي: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد".. الأمة تتألم من كل أعضائها، وليس من شفشاون، لكن أرباب الإعلام شاؤوا أن نتألم على هذا العضو، فتوجّعنا.

وإن نجماً سينمائياً قسم بالسكين لهفته ووطنيته ودينه قسمين؛ قسمٌ لفوز فريقه في كأس الأمم الأفريقية على الفريق العربي الخصم، وقسم للطفل في الجبّ، ومن حسن الحظ أن مصر لم تلعب ضد المغرب. وإنَّ خبر الطفل احتل ربع شاشة الجزيرة، وكانت الجزيرة مباشر قد أفردت بثها لخبره يوماً أو يومين، مثله مثل خبر تحرير العاصمة الأفغانية من الاحتلال، أو خبر اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس!

ليس دين الطفل أو مذهبه السبب أيضاً، فالأطفال على الفطرة جميعاً، وقد أخذ خبره بمجامع القلوب، فمنصات الإعلام وسائل مضبوطة ومراقبة، يحرسها حراس يزنونها بميزان الذهب، فلمَ لمْ يحظَ أطفال آخرون بهذه العناية الإعلامية، مثل طفل "كفروحين" السوري حسن الزعلان، فقد سقط في بئر أيضاً، وإن عمال الصيانة والمتطوعين في إدلب أغاثوه ما استطاعوا إليه سبيلا، لكن خبره بقي أسير وسائل التواصل، ولم يعزِّ به ملك أو رئيس، ولم يُذكر حتى في شرائط الأخبار تحت الشاشة؟

الطفل ريّان ليس من بلاد الثورات، ليس ابنة البلتاجي، ولا عمران دقنيش ابن الثورة، لا ينتمي لطرف سياسي، ليس من شعب المطرب محمد حجار، ولا من شعب الدكتور محمد بديع. التضامن معه لن يجلب تهمة سياسية، وملك المغرب ليس السيسي ولا الأسد ولا قيس سعيد، فهو ملك شرعيته موروثة، وليست مغتصبة حديثاً، ولم يرتكب مذبحة، وليس بحاجة لصورة بجانب الطفل. ولم نشهد استغلالاً سياسياً سافرا في المغرب للطفل في الدعوة السياسية، سوى محاولات مثل محاولة وزير الخارجية المغربي الذي عقد مؤتمراً في الغربة، ولو كان ريان سورياً في مناطق النظام لوجد أحد أمرين: إما التعظيم والنهب السياسي لقصته، أو الإنكار واتهام أهل الطفل بالاختلاق، ولنا في خبر عمران دقنيش أسوة.

غرقت عبارة في النيل على متنها 1032 نفساً، أو يزيد، وبالأمس غرقت عبارة فُقدَ منها تسعة أطفال كانوا يعملون وهم دون سن العمل ومعهم الطفلة شروق، وكأن شيئاً لم يكن. أما في سوريا، فالنظام يقصف الأطفال في المدارس، وروسيا وإيران تذبحهم في الأسواق، وفي اليمن نرى هياكل عظمية لأطفال من غير أن يرف لنا جفن. عاش ريان في حفرته، موؤوداً خمسة أيام، جائعا، عطشا، مستغيثا، بحقوق إنسانية حرم منها في حياته السالفة!

سيارات إسعاف جاهزة وطائرات حوامة، وحرس ملكي، تغريدات لمشاهير، وفنانات يبكين، ومذيعات يذرفن الدموع، وربما نشهد في قادم الأيام استغلالاً لقصته، كأن يُمنح والداه منحة للحج، أو بطاقة إقامة ذهبية في بلاد ناطحة السحاب، ربما يحفرون لأبيه بئراً في شفشاون، ويُحكمون إغلاقها هذه المرة حتى لا يسقط فيها إخوته.

اشتكى والده أنهم استغلوا اسمه في وسائل التواصل من أجل جباية العواطف، وقد يصح أنهم خطفوا الأنظار من أطفال اللاجئين الوافدين في السويد، الذين انشغلت بهم وسائل التواصل الاجتماعي، فالإعلام العربي لن يخاصم حكومة السويد. ذكرت تقارير إخبارية موثقة أن آلاف الأطفال خطفوا من أهلهم النازحين في السويد، وأن أمّا انتحرت من الوجد والحزن، وإن بعض الأطفال اغتصبوا. دائرة الطباشير القوقازية هي نفسها، والدولة الخاطفة هي أكثر الدول تقدما ماديا في العالم.

قالت سيدتنا أسماء يوما لابنها: "إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها"، ولن ينفعها الخضاب بعد موتها.

أُنقذ فتية الكهف جميعا ومات طفلنا الوحيد.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
الثلاثاء، 08-02-2022 08:56 ص
مقالك يا أخي أحمد في غاية الروعة ، و لن يكون تعليقي المتواضع هذا مثله : (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) صدق الله العظيم . لا أدري كيف كان أحد إخوة النبي يوسف - عليه السلام – متأكداً من أن بعض المارة من المسافرين سيجدون الطفل يوسف و سيخرجونه بسلام من البئر و يصطحبونه معهم إلى جهة غير اتجاه بيته الذي لا بدَ أنه كان مكاناً غير بعيد عن مكان لعبهم كأولاد صغار . ثم كانت لقطة الإنقاذ – من دون أجهزة إعلام تحت السيطرة و التوجيه – فقالت الآية الكريمة (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى? دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى? هَ?ذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي أن من أرسل الدلو للبئر ، وجد يوسف متشبثاً فيه- و الله أعلم - فأدرك أنه غلام على الفور من دون الكشف عن العورة – كما كانت تفعل بعض الدويلات للتأكد من أن من التحقوا بالعسكرية هم ذكور و ليسو مخنثين – و صاح يا "بشرى" و لم يقل يا "بشار" لأنه ببساطة لم يكن من الشبيحة النبيحة المنحبكجية !! ثم بمخالفة صريحة لقانون "الأسواق المفتوحة " الذي نادت أمريكا في عصرنا بوجوبه ، أسرَوه كبضاعة بيعت بثمن بخس و ما كان ضرورياً أن يكون هنالك تكتم على بضاعة استرخصوها و ما عرفوا قيمتها . المهم أن الفرج ليوسف قد تحقق بعد الشدة ثم حصلت له شدائد أخرى لترفعه إلى المقام السامي الذي يستحقه في مرحلة شبابه و كهولته و شيخوخته حتى توفاه الله في مصر و جرى دفنه فيها مع أخوته . ما حصل مع يوسف لم يحصل مع ريان أو عمران أو إيلان – رحمهم الله - فأطفالنا هؤلاء فارقوا الحياة في عصر "التنك لوجيا" و ما كان بالإمكان إنقاذهم لعدم وجود المنقذين المحليين الأكفاء من قاع الهرم إلى قمته . بعد أن قام فريق هولندي بإنقاذ الملاحة في قناة السويس في العام الماضي بإزاحة السفينة الجانحة حين لم تفلح كراكات مصر بإزاحتها –بل و كانت أضحوكة و محل سخرية العالم - ، صار ضرورياً لزعامات العرب أن تقوم بالاتفاق مع هولندا لتخصيص فريق إنقاذ للعرب من الخليج إلى المحيط تحت الطلب ، و بطبيعة الحال بعد موافقة ماما أمريكا . لا حول و لا قوة إلا بالله .