كتب

أي دور للجهد المؤسسي للمسلمين في رقي الحضارة الإسلامية؟

كتاب يكشف السّتار عن تاريخ مؤسسات الحضارة العربية الإسلامية المجهول والمقصي
كتاب يكشف السّتار عن تاريخ مؤسسات الحضارة العربية الإسلامية المجهول والمقصي

الكتاب: أضواء على المؤسسات في الحضارة العربية الإسلاميّة: تاريخ التنظّم في العالم الإسلامي الوسيط
المؤلّف: د. الصحبي بن منصور
الناشر: مجمّع الأطرش لتوزيع الكتاب المختص
الطّبعة الأولى: 2022
عدد الصفحات: 410


لمّا كانت الحياة الاجتماعية والاقتصاديّة والثقافية مؤشرا لحضارة أيّ مجتمع من المجتمعات، على حدّ تأكيد سامي الشايب في مؤلفه "المؤرخ وتحديّات المستقبل"، فإنّه من الأهميّة بمكان دراستها و إيلائها الأهمية البحثية اللازمة باعتبارها تعبّر في النهاية عن حضارة ذلك المجتمع الإنساني. 

ولأنّ المعركة الحضاريّة وتحدياتها الرقمية تفرض على الباحثين في الحقلين الحضاري والإسلامي "المساهمة في توضيح ما أشكل من صورة نظام الحكم والإدارة في التاريخ الإسلامي"، وقوفا على تجربة المسلمين في تجسيم تصوّراتهم في ميدان تنظيم دواليب الدّولة خلال العصر الوسيط، وكيفيّة صهرها على النّحو الذي يستجيب لرسالة الإسلام الحضارية و"معرفة مدى استفادة الحكّام المسلمين من التجارب الإدارية للأمم الأخرى سواء في بلدان الفتوحات أو في غيرها" وكذا الحاجة الماسّة للتمييز بين الدّخيل والأصيل في مؤسسات دول الإسلام منذ إحداثها إلى انبلاج فجر العصر الحديث.

ونظرا لأنّه عدا كتاب "المؤسسية والمؤسسات في الحضارة الإسلامية" للدّكتور محمّد عمارة، وهو عبارة عن محاضرة مشفوعة بنقاشات كان قدّمها سنة 2007 في إطار أنشطة المعهد العالمي للفكر الإسلامي و"تمثّل نواة مهمّة لدراسة رائدة لو تمّ استكمالها وإثراؤها والتعمّق في تفاصيلها" فإنّ المدّونة الحضاريّة من المراجع ذات الصّلة تعاني فقرا مدقعا ويقتصر الموجود منها على تناول موضوع المؤسسات بأسلوب عام من قبيل كتاب "تاريخ النظم والحضارة الإسلامية" للدكتورة فتحية عبد الفتّاح البيراوي، أو اقتصار مراجع أخرى على مرحلة تشكّل الإسلام خلال دُوله الأولى فقط أو أنها ركّزت على بلدان إسلامية وأغفلت دولا أخرى، فإنّه كان من الضرورة العمل أوّلا على "لملمة شعث المعلومات المتوفّرة في مصادر التراث عن المؤسسات خلال مدّة زمنيّة طويلة وفي مساحة جغرافيّة شاسعة تسبر أغوارها، وتخيط نسيجها وتكمل فراغاتها"، ثمّ، وهذا الأهم، إيجاد خيط ناظم لمختلف هياكل الدّولة في الحضارة الإسلاميّة، وكذلك "التعرّف على أبرز المظاهر الدالّة على الإبداع العربي والإسلامي في مجالات التنظّم الجماعي والوقوف على التحوّلات والتطوّرات المسجّلة في نظم الإدارة والحكم وعواملها ونتائجها".

في هذا السياق المعرفي يتنزّل موضوع كتاب الباحث الدكتور الصحبي بن منصور: "أضواء على المؤسسات في الحضارة العربية الإسلاميّة: تاريخ التنظّم في العالم الإسلامي الوسيط"، الذي اجتهد كاتبه في طرحه مسألتي المؤسسات والتنظّم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة خلال العصر الوسيط. و د.الصحبي بن منصور، حاصل على الدكتوراه في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والدينية: تخصص تاريخ، من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس وكذلك على الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية والدّينية: تخصص حضارة إسلامية، من المعهد العالي للحضارة الإسلامية.

فكرة الكتاب

يتعمق المؤلّف في دراسة أجهزة الدّولة وأساليب إدارتها من قبل مسلمي العصر الوسيط، أوّلا بشكل منفصل، وثانيا بشكل عام يهدف إلى تنزيله في إطاره الحضاري العام. وقد انبنت الدراسة انطلاقا من ظواهرها الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسية والذهنية في بعديها المادّي والرّمزي، وفق تأكيد أ.د. محسن التليلي، أستاذ الحضارة بجامعة سوسة ومقدّم هذا الكتاب.

ويؤكّد أ.د.عبد اللطيف البوعزيزي، رئيس جامعة الزيتونة ومُصدِّر الكتاب، أنّ المؤلف نجح في كشف السّتار عن تاريخ مؤسسات الحضارة العربية الإسلامية المجهول والمقصي، وذلك من خلال "تسليط الضّوء الكاشف على الجهد المؤسسي للمسلمين، الذي ترك بصمة لامعة في سجلّ التنظّم الذي عرفته أكثر الأمم تطوّرا من عصر إلى آخر".

 

يبين المؤلف الصحبي بن منصور أنّ التاريخ المؤسساتي في الحضارة العربية الإسلامية تشكّل نتاجا لتفاعل الشعوب التي أدخلها العرب ضمن الحدود الجغرافية لدولتهم الإسلامية الشاسعة، لكن هذا التاريخ العظيم ظلّ مكبوتا، لأنه ملقى على هامش التاريخ الرسمي للسلالات الحاكمة التي استأثرت بالأضواء الكاشفة دون تاريخ الأمّة الذي انبنى على المؤسساتية،

 



ويثمّن التليلي ما أنجزه المؤلف، عادّا العمل لبنة مهمّة من لبنات النسق الفكري السّاعي إلى إعادة الاعتبار لدور المؤسسات والنّظم في إعلاء شأن الحضارة العربيّة والإسلاميّة ومقوّماتها المتّصلة بقيم العلم والمعرفة والنّفع العام وبدور المسلم في صنع الحياة ومواكبة التاريخ مسلّطا أضواء بحثه على  المؤسسة رافدا من روافد التاريخ الإسلامي باعتبارها ظاهرة مؤثرة في كلّ مجالات الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها، جديرة بكل عناية واستلهام من أجل تطوير العمل والبناء والمعنى والرّمز ومراكمة الخبرة وتحفيز المهارة وتطويعهما لخدمة المجتمعات العربية والإسلاميّة والنهوض بها نحو الأفضل الإنساني.

أهميّة الكتاب

يستقي الكتاب الذي بين أيدينا أهميته من جدّة المبحث المشتغل عليه والذي يسلّط الضّوء على مختلف المؤسسات التي شكّلت صورة ناصعة لرقيّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة والتي لم يسبق جمعها في مؤلف متخصص وإنّما ظلّت متفرّقة ضمن مصادر التاريخ المختلفة.  ثمّ إنّه من نافلة القول أنّ أحد أهمّ المعايير التي يمكن اعتمادها في قياس مدى تطوّر المجتمعات الإسلاميّة هو "دراسة المؤسسات التي كانت طابعا مشتركا من الناحية النظريّة في كلّ المجتمعات الإسلاميّة، وإن كانت مختلفة على أرض الواقع في الأماكن والأزمنة المختلفة من التاريخ الإسلامي، وفق تأكيد آدم جيه سيلفرستاين، في كتابه "التاريخ الإسلامي: مقدّمة قصيرة جدّا"، الذي يرى تمركز الحضارة الإسلامية على ثلاث مؤسسات هي: المسجد والجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر والخلافة / الإمامة. هذا فضلا على كون "دراسة المؤسسات" كانت "إطار الفعّالية الإسلاميّة والنّظام الإسلامي الذي كان نظام دولة"، كما يذهب إلى ذلك سامي الشايب في كتابه "المؤرخ وتحدّيات المستقبل".

بنية الكتاب

اجتهد الكاتب في بناء "مقاربة تحليلية موضوعيّة نأت به عن إطلاق الأحكام الجاهزة وعن مصادرة مظاهر التعدّد والاختلاف وأنماط التعبير والإنتاج المتنوّعة" مستندا في ذلك إلى جملة من المصادر والمراجع والدّراسات المختصّة وإلى تخطيط محكم ومناسب لمادّة عمله التي ضمّنها خمسة فصول ردّها إلى بابين واضحين: باب للبيئة التي احتضنت نواة الحضارة العربية والإسلامية وباب لمؤسسات الدّولة الإسلاميّة، وقد سعى الكاتب من خلال تخطيطه إلى تحصيل إجابة موضوعيّة عن سؤال مركزي محوره تاريخ التنظّم المؤسساتي في العالم الإسلامي الوسيط.

التاريخ المؤسساتي على هامش التاريخ الرسمي للسلالات الحاكمة

يبين المؤلف الصحبي بن منصور أنّ التاريخ المؤسساتي في الحضارة العربية الإسلامية تشكّل نتاجا لتفاعل الشعوب التي أدخلها العرب ضمن الحدود الجغرافية لدولتهم الإسلامية الشاسعة، لكن هذا التاريخ العظيم ظلّ مكبوتا، لأنه ملقى على هامش التاريخ الرسمي للسلالات الحاكمة التي استأثرت بالأضواء الكاشفة دون تاريخ الأمّة الذي انبنى على المؤسساتية، غير أنّ الأنانية الفرديّة لذوي السلطان هي التي أقصته، وعلى هذا النحو تحوّلت السلطة من الجماعة (المؤسسات) إلى الفرد (الاستبداد). ذلك أنّ الدّولة عند مسلمي العصر الوسيط بلغت درجات غير مسبوقة في مجال المحافظة على المال العام الذي يمثّل دعامتها الرئيسية، حيث تمكّن الفقهاء والخلفاء من تجسيم أحد مقاصد الشريعة الخمسة وهو حفظ المال، وذلك من خلال بناء مؤسسات متماسكة هيكليّا وقانونيا وتكوين موارد بشريّة وخبرات مهنيّة وبلورة طرق تسيير ورقابة ذات نجاعة فائقة.

تطور العصر الوسيط ثمرة التعديلات على هيكلة المؤسسات وإصلاحها

لم يفت الكاتب التأكيد أن تطور العصر الوسيط وما يقتضيه من مجاراة المسلمين للتطوّرات والتحوّلات التي أحاطت بدولتهم، كان وراء ما أدخلوه من تعديلات وإصلاحات على هيكلة مؤسساتهم. ويمكن الانتباه إلى ذلك من خلال فصل بعض المهام في مؤسسة أصلية وتحويلها إلى مؤسسة مستقلة، في إطار إحكام ضبط اشتغال مرافق الدّولة، على غرار انفصال الشرطة ثمّ الحسبة عن القضاء، وأثناء إحداث ديوان ردّ المظالم الذي كان في درجة وسط بين وظيفة القضاء و وظيفة الحسبة، وعند الفصل بين الحرس والشرطة أو عند وضع ديوان الزّمام الذي ستكون له مهمّة الرّقابة المالية والإداريّة على حسابات بقية الدّواوين، وكذلك على غرار ضبط التكامل بين دواوين الخاتم والرسائل والبريد ومنع التداخل بينهما، بما يُخلّ بين الصادر والوارد في مركز الحكم العام ببلاط الخليفة، والشيء نفسه على صعيد ضبط الوظائف والعلاقات بين دواوين الخراج (الموارد) وبيت المال (العدّ والخزن) والنفقات (الصّرف).


التعليقات (0)