قضايا وآراء

معضلة حفتر بعد أن أصبح إصبعًا سادسة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
كان د. جمال حمدان رحمه الله يصف بعض المشكلات السياسية والتاريخية في مصر وطريقة تفاعل المصريين معها؛ بأنها نتيجة لما أسماه جرثومة "الوحدة السياسية"، والتي جاءت من تجانسها الطبيعي والبشري المحكم. فكل شيء في مصر متجانس بالفعل (الطبيعة والمناخ والمعمار والحضارة واللغة..)، وهذا التجانس في رأيه كان سببا رئيسيا في قبول المصريين بأشياء كثيرة كان يجب أن لا يقبلوها.

وأفاض الراحل الكبير في حديثه عن الطاغية والطغيان ودورانهما حول هذا المعنى.. وفي نهاية الأمر هذا هو القدر الجغرافي والطبيعي لمصر بغض النظر عن طبيعة التعامل والتفاعل معه، قدر محتوم كان له أثر سيئ استغله البعض لصالحه.. لكن المصريين بذكائهم الطبيعي أوجدوا أنواعا أخرى من التنوع الذي يمنح المجتمع ركائز قوة متعددة، كنقابات الحرفيين والعمال ومشايخ الطرق الصوفية ومؤسسة العلماء والأوقاف والأحزاب والجماعات السياسية والدينية.

لكن حركة الضباط قضت تماما على كل هذه الركائز تحت كل العناوين الشعبية والثورية والاشتراكية والوحدوية، وانتشرت الجرثومة التي أشار إليها العلامة جمال حمدان كما تنتشر كل الجراثيم بقوانين التكاثر والانتشار المعروفة في الدنيا والحياة.

لكن ما يعتبره حمدان طبيعة جرثومية - طبيعية وقسرية - وأنتجت ما أنتجت.. لم يمنع غيابه في مجتمعات أخرى من أن ينتج ما أنتجته الحالة المصرية، وليبيا واليمن وسوريا نماذج واضحة، لذلك فالتجانس الذي أشار إليه حمدان غير موجود في هذه البلدان، وكان طبيعيا أن تتوزع مراكز الثقل والتأثير وتتوازن، وتمنع هيمنة أحد المكونات على الجميع.

* * *

لكن وكما يقولون دائما اختراع مائة نظرية أسهل من تطبيق نظرية واحدة على الأرض. ليس هذا فقط، ولكن التطور التاريخي والاستراتيجي يضيف للواقع مكونات جديدة كل يوم تمنحه زوايا نظر جديدة بطبيعة الحال، وتفاعل وتعامل جديد بكل طبائع الأحوال، بل والأهم طبائع البشر أنفسهم وما يحوطهم ويداهمهم ويحاصرهم ويخترقهم من ألف حال وحال.

وليس أدل على ذلك من الحالة الليبية بعد ثورة فبراير 2011م. وأصل ومتن ونهاية الحكاية تكمن في أن المشير "خليفة بالقاسم حفتر" يعتبر أن الأخ العقيد لم يمت وإن غاب عن الدنيا، فروحه وشخصيته حلت في المشير كما يحدث في حالة القردة والأفاعي والفيلة و التماسيح والنمور والطواويس والببغاوات التي تمضي أرواحها متنقلة بين الحيوان والإنسان في شبكة واحدة لا نهاية لها، كما تقول الأساطير الهندية، وهو ما حدث نصا وفصا وأصلا وظلا مع الأخ العقيد وسيادة المشير. وقد رأينا منذ عدة أيام اللواء صقر الجروشي وهو يحدث أهل المقابر بلغة تشير إلى مثل تلك الأساطير قائلا: أنتم تعلمون ولا تعلمون.. إلى آخر ما قاله.

* * *
الداخل الليبي قد يكون مفهوما بعض الشيء بمنطق أن كل ثورة لها في الغالب ثورة مضادة، وهذا من طبائع الأشياء لأن الوضع القائم سيرفض بشدة الوضع القادم وسيدافع عن سلطته و مصالحه بكل الطرق.. والخارج الإقليمي أيضا قد يكون مفهوما بعض الأشياء لا بعض الشيء فقط. أما الدولي فهو بالفعل مثير ومريب وخبيث بل وقصير النظر وأرعن

وعلى ذلك وضع سيادة المشير أفكاره وتصوراته عن مستقبل ليبيا، الوطن والشعب والقائد، كلهم كتلة واحدة تنصهر في الصيرورة، الواحد في الكل والكل في واحد، وأنا هذا الواحد.

المشكلة لا تكمن فقط في أن الرجل جاء بهكذا تصور بعد ثورة عاصفة على "واحد" كان قد سبقه واستمر في تلك الصيرورة على صدر الوطن والشعب أربعين سنة، ولا في أن الزمن الوجودي واللاوجودي لم يعد يسمح بمثل هذه الأفكار والخزعبلات، المشكلة تكمن - حقيقة - في أن الرجل وجد من يسانده ويدعمه في الداخل والخارج (الإقليمي والدولي)، ليس لأنه بالفعل يمثل قيمة تاريخيه وحلا ضروريا لأزمة مركبة ومتداخلة، وتضرب عميقا في الواقع الليبي الصعب الذي تم تجريفه وتسطيحه وتفكيكه وتعليبه وتغليفه وتجميده على مدى أربعين سنة، ولكن وهو الأهم لأنهم وجدوه ستارا يمكن الاختفاء في ثناياه وتلافيفه، وكل يبحث عن مراده ومبتغاه، والذي هو بالحق والحقيقة لا يتصل بصالح ليبيا ولا بمستقبل ليبيا. عسكري وقادم من أمريكا وكان متمردا على النظام السابق، ويمكن أن يمثل حالة نموذجية للثورة المضادة في هدوء وخفاء شديدين.

* * *

الداخل الليبي قد يكون مفهوما بعض الشيء بمنطق أن كل ثورة لها في الغالب ثورة مضادة، وهذا من طبائع الأشياء لأن الوضع القائم سيرفض بشدة الوضع القادم وسيدافع عن سلطته و مصالحه بكل الطرق.. والخارج الإقليمي أيضا قد يكون مفهوما بعض الأشياء لا بعض الشيء فقط.

أما الدولي فهو بالفعل مثير ومريب وخبيث بل وقصير النظر وأرعن، لأن ليبيا المدنية المستقرة المتصالحة مع نفسها أرضا وشعبا وتاريخا وجغرافيا ستكون إضافة استراتيجية لأوروبا كلها، وهو ما لا يمكن انتظاره من حكم على رأسه من هو مثل حفتر. فأي مكايدة تلك التي تدفع دول بحجم وتاريخ فرنسا وإيطاليا وروسيا وبريطانيا بل وأمريكا - وقت ترامب - الى اتخاذ مواقفها التي اتخذت؟.. وأي رهانات بائسة تلك على شخص بائس في ظروف تاريخية أكثر بؤسا؟..

سيكون عليكم جميعا في نهاية الأمر وبعد طول تَمنّع، أن تشكروا تركيا على تدخلها في الوقت المناسب تماما لتمنع سقوط طرابلس بل وسقوط ليبيا كلها في قبضة المجهول، وهو أسوأ سيناريو تنتظره أوروبا من أطول ساحل يطل عليها. ولا زالت المكايدة، مضافة إليها المكابرة، تصف تركيا من طرف خفي باعتبارها قوات أجنبية يجب خروجها (مؤتمر برلين 2)! كيف أيها السادة المؤتمرون وتركيا هي التي صنعت المشهد الحالي بأكمله، ومنعت سقوط عاصمة من كبريات حواضر العواصم العربية، بل ومنعت توغل الحرب الأهلية إلى الأبعاد الأخطر في البنية الاجتماعية العميقة للأمة الليبية بكل تكوينها القبلي والعرقي، والتي كان من الممكن أن تستمر وتتسع إلى حدود لا يعلم مداها أحد إلا الله في منطقة مضطربة ومستعدة أصلا لهذا الاتساع ولمزيد من الاضطراب؟ وستتعجب من هذه المواقف الكسولة لتونس والجزائر حتى جاءت تركيا وضبطت موازين كل شيء، وظلت طرابلس مرفوعة الرايات والمآذن والبيوت والعمائر. يجب على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي أن يتوجها بالشكر والعرفان لتركيا على الدور الذي قامت به منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019م، لا أن يعرِضُوا به من هنا وهناك.
سيكون عليكم جميعا في نهاية الأمر وبعد طول تَمنّع، أن تشكروا تركيا على تدخلها في الوقت المناسب تماما لتمنع سقوط طرابلس بل وسقوط ليبيا كلها في قبضة المجهول، وهو أسوأ سيناريو تنتظره أوروبا من أطول ساحل يطل عليها

* * *

العقل الاستراتيجي الرشيد سيتطلع بكثير من الاهتمام لدور مصري وتركي مشترك وواسع في ليبيا، على مستويات كثيرة ولأسباب كثيرة، منها أن معضلة حفتر تلف وتدور وتنتهي في الإمارات وروسيا؛ الأولى تستطيع مصر الترتيب معها والثانية تستطيع تركيا التفاهم معها. أضف الى ذلك أن مصر لها حضور نفسي عميق في الوجدان الليبي، وهذه حقيقة من حقائق الواقع لا بد من توظيفها على الأرض فورا وبكل قوة وفي مجالات عديدة؛ على رأسها تنظيم القوات المسلحة والأمنية تعليما وتدريبا وتنظيما، وقل مثل ذلك عن التعليم والصحة والتعمير والزراعة والبترول. وإذا تم كل ذلك بتوافق وتفاهم استراتيجي كامل مع تركيا ولاحقا بتوافق مع تونس والجزائر، فسيأتيه فورا دعم أطلسي بترتيبات وتفاهمات ليست صعبة ولا بعيدة.

المعضلة الحقيقية بالفعل هي في أن حفتر لا يُرى له ولا هو يرى لنفسه موقعا في أي عملية سياسية تصل الليبيين بمستقبلهم، ولا حل له إلا بالسير قدما للأمام في الترتيبات الكاملة للانتخابات أولا وتحت تأمين دولي كامل، ثم الدخول بقوة صادقة في عملية سياسية واسعة تفسح المجال للجميع حضورا ومشاركة، وشيئا فشيئا ستتساقط عنه كل دعائمه حتى يخر ساقطا، أو يفر هاربا.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)