مقالات مختارة

خير الدين حسيب.. رئيس جمهورية المثقّفين العرب

عبد الله السناوي
1300x600
1300x600

ظاهرة خير الدين حسيب، لا مثيل لها في ما مرّ على حركة الفكر والسياسة في العالم العربي من تجارب ورجال خلال نصف القرن الأخير. هو رجل فكر وعمل، ارتبط دوره بإرساء قيم العمل المؤسّسي وإطلاق المبادرات والمؤسسات، التي تؤكد قدرة العالم العربي على المقاومة في أوقات الانكسار.


عهدت عنه الصرامة في مستويات الالتزام؛ أن يمضي كل شيء وفق ما هو مخطّط، وأخذ وقته في التفكير والتخطيط. لم يكن يتسامح في ما يعتقد أنه خطأ، أفضت صرامته إلى صدامات معه، غير أنه عندما حلّت لحظة الرحيل، لم يكن بوسع أحد إنكار الحقيقة التي كان لا بد أن تقال في نهاية المطاف؛ إنه «أبو القومية العربية المعاصرة» و«رئيس جمهورية المثقّفين العرب».


ليست هناك مبالغة بالنظر إلى الأدوار التي أدّاها، والمبادرات التي أطلقها، والأفكار التي حاول بلورتها في مشروع نهضوي جديد، يستلهم إرث ثورة يوليو ويضيف إليه وفق احتياجات العصور المتغيّرة، حتى يمكن استئناف التطلع إلى المستقبل من جديد.


خير الدين حسيب ابن جيل حلم ذات يوم، بعيد بأمة عربية منيعة وموحّدة ووطن عربي حر ومستقل يتمتع مواطنوه بالعدالة والكرامة. اتفقت أهداف جيله واختلفت توجهاته وجرت صدامات واشتباكات بين فصائله السياسية، أُدخل المعتقلات إثر سيطرة البعثيين على الحكم في بلده العراق بعد انقلاب أحمد حسن البكر (1968)، لكنه أُفرج عنه بعد وقت لم يطل بتدخل من ميشيل عفلق، مؤسس البعث تقديرا للدور الذي أدّاه على رأس المؤسسة الاقتصادية العراقية.


المثير؛ أن الرجل الذي اعتُقل وعُذب واضطر إلى مغادرة بلاده متخفيا بعد الإفراج عنه، نُسبت إليه مفارقتان في التاريخ العراقي الحديث:


الأولى، بحكم خلفيته الأكاديمية، التي حصل بمقتضاها على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية العريقة في المالية العامة، وخبرته العملية في بداية حياته بالعمل في مجموعة شركات نفط العراق المحدودة، التي تخضع بالكامل لسيطرة الاحتكارات الأجنبية، أدرك مبكرا الأهمية المحورية لتأميم النفط.


صاغ دراسة استشرافية توصّلت إلى أهمية إنشاء شركة نفط وطنية عراقية تتولى مسؤولية الاكتشافات الجديدة، وكان ذلك تمهيدا لتأميم النفط العراقي، الذي جرى فعلا عام (1972) في عهد أحمد حسن البكر، فيما كان هو منفيّا.


الثانية، كوطني عراقي اشتبك في صراعات وأزمات بلده في ستينيات القرن الماضي، منحازا إلى القوميين العرب المتأثرين بتجربة جمال عبد الناصر في مواجهة البعثيين، وجد نفسه في وضع دفاع مستميت عن خصومه السياسيين، الذين اضطروه للنفي الطويل عقدا بعد آخر.


لم تكن قضيته الخصومة السياسية، ولا تصفية الحسابات.


كان العراق وجودا ومصيرا هو القضية عندما تعرّض منذ تسعينيات القرن الماضي إلى حصار قاس، قبل غزوه واحتلال عاصمته بغداد عام (2003). بعد نحو شهر واحد من احتلال بغداد، استضافت العاصمة اللبنانية بيروت ندوة دولية عن آثار وتداعيات الاحتلال ومستقبل المقاومة، التي بالكاد كانت تتحسّس أقدامها الأولى.


يُنسب له أكثر من غيره الأبوة الروحية لفكرة المقاومة العراقية، حاول بقدر ما يستطيع دعمها سياسيا وإعلاميا وماليا، فكان ينسق بين جماعاتها المتضاربة، ويضبط الميزان حتى لا تستحيل شرعية المقاومة إلى احترابات طائفية تأخذ من العراق وحدة ترابه.


في لحظتَي الحصار والاحتلال، تأكّدت وطنيته العراقية دون أدنى تصادم مع قوميته العربية، التي وهبها عمره. بقدر مساوٍ عمل على تدعيم المقاومتين العربيتين في فلسطين ولبنان، وحيث يهب أي بلد عربي طلبا لاستقلال قراره وحريته.


وكان تأسيس «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت عند منتصف سبعينيات القرن الماضي، نقطة التنوير في قصته كلها. في ذلك الوقت، حاول القوميون الناصريون إعادة بناء الحركة العربية الواحدة من جديد، بعد موت زعيمها والانقلاب على سياساته وخياراته في مصر.


جرت محاولة لإحياء «الطليعة العربية»، وقد كان تنظيما قوميا ممتدا في العالم العربي، توافرت له قدرات مالية استنادا إلى أعضائه في دول الخليج، غير أن المحاولة لم يُكتب لها نجاحٌ يتسق مع الرهانات عليها.
كان الخيار الآخر إنشاء مؤسسة بحثية كبرى تُعنى بدراسات الوحدة العربية وما يعترض العالم العربي من تحديات وأزمات، وقد تولى إدارتها حتى عام (2017).


لم يكن وحده في التفكير والتخطيط وتوفير الاحتياجات الضرورية لاستدامة العمل والإنتاج الفكري، هناك مؤسسون آخرون، لكنه يستحق أن يُنسب إليه ما وفّره من مؤسّسية في العمل يغيب عادة عن التجارب العربية.


وفق المفهوم نفسه، ساعد على إطلاق «المؤتمر القومي العربي» في تسعينيات القرن الماضي، متوليا أمانته العامة قبل أن يجري تداول المنصب.


باليقين، فهو أكبر تجمع قومي عربي على أساس «المشروع» لا «الإيديولوجيا»، ضمّ تيارات وأحزابا وشخصيات قُدر لها أن تصعد إلى السلطة في بلدانها بأوقات مختلفة، ووفّر فرصة تقارب وامتزاج حقيقية بين مثقّفي ومفكري المشرق والمغرب العربي، كما لم يحدث طوال العصور الحديثة.


لا تكمن أهمية المؤتمر القومي العربي في ما صدر عنه من بيانات ومواقف، بقدر ما أتاحه من تفاعلات بين تيارات ونخب العالم العربي القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، تحت الالتزام العام بقضية الوحدة العربية.


بأية قراءة للخرائط الفكرية والسياسية للمشاركين في الدورات السنوية للمؤتمر القومي العربي، تكشف تنوّع نخبه وعمق أثره في ما جرى من حوادث في العالم العربي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي استبق عواصف ما جرى عام (2011).


إحدى دعواته الأساسية إنشاء ما أسماه «الكتلة التاريخية»، التي تضم التيارات السياسية الرئيسية في العالم العربي.


بصورة أو أخرى، جرى اختبار تلك الفكرة التي أطلق من أجلها «المؤتمر القومي الإسلامي»، نجحت في حالات وأخفقت في أخرى، وكان الإخفاق الأكبر في ما جرى بمصر قبل الإطاحة بجماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة عام (2013).


أكثر دعواته شيوعا، ما أطلق عليه عام (2010) «المشروع النهضوي العربي» الذي عكف على صياغته نخبة من المفكرين والباحثين العرب تحت إشرافه، وهو إعادة صياغة لمشروع «يوليو» مع إضافة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتجدّد الحضاري.


نحن أمام رجل اجتهد إلى أقصى حد ممكن في وصل الجسور بين الفكر والعمل، وفق أداء مؤسّسي يوظف الطاقات ويراكم الخبرات.


هكذا ساعد في إطلاق سلسلة من المؤسسات مثل «المنظمة العربية لحقوق الإنسان» أوائل ثمانينيات القرن الماضي، و«مخيمات الشباب العربي» و«المنظمة العربية لمكافحة الفساد»، وغيرها من المؤسسات التي عمل على ديمومتها، بتوفير وقفيات لها تحقّق لها قدرا من الاستقلالية في ممارسة مهامّها.
بالعمل المؤسّسي الصارم، اكتسب أدواره وخصوماته، غير أن الحقيقة لا بدّ أن تقال في نهاية المطاف، إن ظاهرته فريدة وخسارته فادحة.

* كاتب وصحفي مصري

 

(عن صحيفة الأخبار اللبنانية)


0
التعليقات (0)

خبر عاجل