قضايا وآراء

الجنرال ومليكه.. عجز وحزن وأمر قد جرى

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
تقول الحكاية التي تختفي وراءها ألف حكاية أن اللواء محمد نجيب خلع سترته العسكرية وقدم استقالته إلى الملك فاروق يوم 5 شباط/ فبراير 1942 "لعجزه عن حماية مليكه" هكذا قال في استقالته التي قدمها إلى السراي، لكن الملك رد عليه استقالته وشكره على ذلك.. كما روى لنا الأستاذ صلاح الشاهد في مذكراته المهمة "ذكرياتي في عهدين" بعد 10 سنوات وخمسة أشهر و3 أسابيع (26 تموز/ يوليو 1952) سيقوم اللواء محمد نجيب بتقديم إنذار الجيش إلى الملك بالتنازل عن العرش قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا ومغادرة البلاد قبل السادسة مساء يوم.. وسيحمل على ماهر باشا رئيس الوزراء والمشهور بلقب رجل الأزمات الإنذار للملك، ليس هذا فقط بل وسينصحه بالقبول، وسيوافق الملك دون أي مناقشة.

فقط طلب أن يتم وداعه رسميا بصوره تليق بملك تنازل عن عرشه باختياره، وتشترك الحكومة في وداعه ممثله في رئيسها، والجيش ممثلا في اللواء محمد نجيب، وتمت الموافقة على ذلك كله.. لكن مصيرا حزينا سيلقاه الاثنان في النهاية، الملك والجنرال.. ستكتسب الحكاية أهميتها هنا ليس من الحدث الذي ترويه، بل مما يكمن خلف ما ترويه، ومما هو موصول بحاضرنا بألف سبب.

كانت القوات البريطانية في أتون الحرب العالمية الثانية، وكانت مصر في هذا التوقيت ميدانها الكبير خاصة على حدودها الغربية، حيث روميل ومونتجمري والعلمين.

وفي صباح الاثنين 2 شباط/ فبراير 1942 تقدم رئيس الحكومة حسين سري باشا باستقالته إلى الملك فاروق.. إلى هنا والأمر عادي، وزارة تستقيل ووزارة تتشكل، لكن غير العادي بعد استقالة سري باشا هو طلب السفير البريطاني "اللورد كيلرن"، في 3 شباط/ فبراير 1942، من الملك فاروق تكليف رئيس حزب الوفد النحاس باشا بتأليف الوزارة.. هكذا جاءت الأمور من لندن مباشرة.. ويقولون إن ذلك حدث لسببين: الأول هو أن النحاس كان رئيس الحكومة التي عقدت معهم معاهدة عام 1936، والثاني هو أن النحاس بصفته زعيم حزب الأغلبية في ذلك الوقت كان قادرا على السيطرة على الشارع وضبط إيقاعه، بحيث لا تخرج المظاهرات التي تناوئ الإنجليز وتهتف "إلى الأمام يا روميل" القائد الألماني..

* * *

كانت الحياة السياسية في هذه الأيام خصبة وثرية ومليئة بالرموز والزعامات والكوادر.. كان الناس يعيشون في المجرى العام للسياسة لا على حدودها ولا خارجها كما سنرى بعد ذلك، وكانت قضية استقلال البلاد هي الوهج الذي يمنح الجميع ألف طاقة وطاقة.. والغريب أن الدولة (قضاء وجيشا وشرطة ومؤسسات ومصالح) كانت على مستوى عال من المهنية والمعرفة والأمانة والتحديث.. وقد أوردت لنا مذكرات د. نجيب باشا محفوظ (حياة طبيب) وأحد رواد النهضة العلمية الحديثة في مصر؛ تفاصيل وشهادات هامة حول ذلك.

أيضا كانت الحركة الوطنية تسير في دروبها الشاقة بإخلاص وتجرد وتفان، وكان درب من دروبها هو التقدم بالدولة والمجتمع والشعب والسير بقوة في اتجاه التحديث.. كان هناك الفدائيون والمجاهدون في القناة وفي فلسطين (خط الدفاع الثاني عن الأمن القومي المصري بعد جبال طوروس في سوريا!؟) وكان هناك الطلاب في الجامعات الثلاث (جامعة إبراهيم وفؤاد وفاروق) وكانوا في حقيقة الأمر هم الوقود الحقيقي والمضيء للمظاهرات والاعتصامات المطالبة بالاستقلال والحرية.. وكانت هناك الأحزاب والجماعات والجمعيات الدينية والفكرية.. كانت مصر درة تاج الشرق.

* * *

استدعى الملك رؤساء الأحزاب وبعض الشخصيات البارزة إلى الاجتماع في قصر عابدين، وكان النحاس باشا في زيارة حزبية للصعيد، ودعي على عجل إلى القصر للتشاور مع باقي رؤساء الأحزاب، وتركهم الملك يفكرون بعض الوقت على أن يعود إليهم بعد ساعة، واجتمع الجميع - بمن فيهم النحاس باشا - على رفض طلب السفير البريطاني.. وأبلغوه بذلك، فما كان من المندوب السامي إلا أن ذهب هو وعدد من قادة القوات البرية والبحرية والجوية البريطاني إلى الملك ودخل عليه مكتبه وسلمه الإنذار التالي: "إذا لم أسمع قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دُعي إلى تأليف وزارة، فعلى الملك أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج". وانتهى المجتمعون إلى الاحتجاج على الإنذار بصفته خرقا لاستقلال مصر الذي نصت عليه معاهدة 1936.

إلا أن السفير لم يعتبر ذلك ردا، وفي التاسعة مساء حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين وحضر السفير مع قائد القوات البريطانية وبعض الضباط مسلحين واجتمعوا بالملك بحضور أحمد حسنين باشا (رئيس ديوان الملك)، وهدده السفير إما بتكليف النحاس بتأليف الوزارة، أو بالتوقيع على وثيقة تنازل عن عرش مصر!

وقبل الملك الإنذار مرغما ورحل السفير البريطاني عن القصر، واجتمع مجددا مع زعماء القوى الوطنية وكلف النحاس بتأليف الحكومة. وقد رفض النحاس هذا الشكل، ولكن الملك أصر وأجبر النحاس على قبول رئاسة الحكومة فوافق النحاس على أن تكون حكومة وفدية خالصة، ثم ذهب إلى السفير البريطاني وأبلغه بنبأ تكليفه بتأليف الوزارة وطالبه بسحب إنذاره لملك مصر.

وقال النحاس باشا بعد ذلك أنه ضحّى يوم 4 شباط/ فبراير بقبوله رئاسة الوزارة بعد الإنذار البريطاني، وأنه قدم التضحية راضياً ليجنب الوطن "هزة كبرى" بعزل الملك وهو رمز البلاد. ويكاد يكون هذا التفسير صحيحا، فلم يعرف عن الناس غير الوطنية الصادقة والنظرة البعيدة لمرامي الأحداث.. وموقفه من انفصال السودان أشهر من أن يعرّف.

سنعرف بعدها أن كبار الوفديين كانوا قد قرروا في عام 1943م عزل الملك وإعلان الجمهورية (أن يعزل المصريين ملكهم شيء.. وأن يعزله السفير البريطاني شيء آخر تماما). وبالفعل عرض الأمر على مجلس الوزراء الذي أقره وعهد إلى نجيب الهلالي باشا بأن يصوغ بأسلوبه العميق مبررات خلع الملك، فأعد بيانا وسلمه إلى وزير التجارة "غنام باشا" الذي ذهب به إلى منزل النحاس، حيث كان الوزراء مجتمعون عنده وتم توقيعهم جميعا على البيان كقرار صادر من مجلس الوزراء بخلع الملك وإعلان الجمهورية (أين هذا البيان؟؟) لكن ذلك لم يحدث. كان المشهد العام في الشرق الأوسط، وفي مصر تحديدا، يستعد لإعلان الجمهورية من الجيش، لا من السياسيين، وتلك حكاية يطول لها حبل الحكايات.

وفي 18 حزيران/ يونيو 1953 يصبح اللواء محمد نجيب أول رئيس للبلاد بعد إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية، لكن مصيرا حزينا كان في انتظاره. ففي 14 كانون الأول/ ديسمبر 1954 وأثناء نزوله من سيارته داخل قصر عابدين فوجئ بقوة من البوليس الحربي تحيط به، فنهرهم وصعد إلى مكتبه، ويأتي له مدير مكتبه السابق والذي سيصبح في غفلة من غفلات أم الدنيا وزيرا للحربية، المشير عبد الحكيم عامر، ويصحبه في سيارة إلى إقامته الجبرية والتي ستمتد ثلاثين عاما.. ليهبط حزينا كسيرا من علياء مكانته كقائد جيش عزل ملك البلاد إلى أسير حزين بعيدا في قصر مهجور، وليتذكر التاريخ دوما هذين الحدثين في الدرك الأسفل من صفحات إحباطاته.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)