مقالات مختارة

النفط يتقدم .. النفط يتقهقر

ليون برخو
1300x600
1300x600

لماذا يلجأ الصحافيون والكتاب إلى المصطلحات المتداولة في ساحة المعركة عند التحدث عن تقلبات الأسعار، ولا سيما التي تخص النفط؟ اقرأ أي مقال عن أسعار النفط وبأي لغة، وسترى أن الخطاب تكتنفه أطر لغوية، ترد بكثافة في البيانات العسكرية حول الأعمال الحربية. وفي آخر مقال أكاديمي قرأته، ناقش فيه الباحث ظاهرة اقتباس المفردات والعبارات العسكرية لنقل تضارب الأسعار وتقدمها وتقهقرها. الجيش "يزحف" و"يتقهقر" و"يتراجع" و"ينهزم" و"يخسر" و"يخفق" و"يقترب" و"يفوز" و"ينهار" و"يتقدم و"يحتل" و"ينسحب" و"تتهاوى" مواقعه و"يكتسب" مواقع جديدة. لا أظن أن المفردات التي وضعتها بين علامتي التنصيص ستثير تعجب القارئ الملم بالخطاب الخاص بصعود ونزول الأسعار. هناك رتابة في اللغة التي نستخدمها مثلا للتعبير عن تقلبات أسعار النفط. يقول المختصون في الإعلام والتغطية الصحافية والشق النفطي منها بصورة خاصة، إن هناك تواترا للأطر الخطابية المعادة والمكررة لحد الملل.

 

وأنا أسوق أمثلة لمرادفات تتواتر في الإعلام الخاص بالأسعار باللغة العربية، من الواجب أن أنبه القارئ إلى أن الظاهرة هذه دخيلة على لسان الضاد. أغلب أطر الخطاب الإعلامي والصحافي منه بصورة خاصة ما هي إلا استعارة من اللغات الأجنبية، وتأتي "الإنجليزية" في مقدمتها. و"صعدت" و"حلقت" و"ارتفعت" و"تسلقت" و"تجاوزت" و"تضاعفت" و"تضخمت" و"تخطت" الأسعار، مرادفات يلجأ إليها الصحافيون عند تقدم الأسعار. الأضداد لهذه المرادفات وغيرها يلجأ إليها الصحافيون لنقل وقائع الأسعار عند انخفاضها. فالأسعار "تهبط" و"تنحدر" و"تسقط" و"تتدهور" و"تتقهقر" و"تهوي" و"تخسر" أيضا.

 

والأضداد لا تقف عند الفعل، رغم أن الفعل في اللغة لولب ومحرك الجملة. فالقاع والحضيض والقعر والهاوية يقابلها الأوج والذروة والقمة. بمعنى آخر، المرادفة وما يضادها لا تقف عند قسم الفعل، بل تتخطاه إلى المكونات الأخرى للجملة. وإن أراد امرؤ أن يكون صحافيا ناجحا في تغطيته للمنحنى الأفعواني لأسعار النفط في الأشهر أو ربما الأسابيع القليلة الماضية، فما عليه إلا تبني سياسة المرادفات والأضداد. "الصاعد" و"النازل" جوهر الاقتصاد الرأسمالي رغم أن مريديه يقدمونه لنا وكأنه النموذج الذي لا يقابله نموذج آخر في الاقتصاد؛ لإحداث النمو، وتسلق المنحنى صوب القمة. وعلينا الحذر؛ لأن "الصاعد" في النظام الرأسمالي إيجابي عندما يخص ثروة البلد الرأسمالي. أما "الصاعد" من النفط والمواد الأولية الأخرى التي تخص شعوبا متقهقرة، فوقعه وقع "النازل".

 

و"الصاعد" في مداخيل الرأسمالية يحتفي به ويهلل له السياسيون. انظر كم هللت الإدارة الأمريكية الحالية للمكاسب التي حققتها البورصات في الولايات المتحدة قبل أن يعصف بها "النازل"، وتتهاوى قيمة الأسهم فيها إلى درجة أن شركة تقنية عملاقة واحدة، وهي أبل، خسرت أخيرا نحو 300 مليار دولار من قيمتها. التقدم والتقهقر ليس في الأسعار، بل ربما في أغلب المضامير صار جزءا من حياتنا المعاصرة، وأحيانا حتى على المستوى الشخصي. الدنيا كلها تقريبا في حالة تقهقر وتقدم.

 

إنها دنيا "صاعد" و"نازل". بيد أن النزول والصعود تبعاته مرتبطة بشكل متكافئ ومتناسب مع الدرجة التي نحن فيها من السلم. السقوط من أعلى سلم من 100 درجة سيكون وقعه أكثر إيلاما من السقوط من درجة أدنى بكثير. كلما زاد الارتفاع زادت الثروة والسطوة، لكن حذارِ؛ لأن السقوط من العلو لا تحمد عقباه في الغالب. ونحن الناس البسطاء لا حول ولا قوة لنا، ونجري وراء "الصاعد" و"النازل"، ونحن صاغرون. ونحن أيضا نرتفع ونهبط، ونتقدم ونتقهقر مع الأسعار، خصوصا عندما تخص قطاعات اقتصادية مؤثرة في حياتنا، مثل النفط والأسواق المالية وأسعار العملات. الهبوط الحاد في أسعار النفط لا بد أن يُدخِل الخوف في قلوب الدول النفطية وشعوبها من المستقبل.

 

وتقهقر البورصة في الولايات المتحدة وتبعاتها قد أدخل الفزع في قلوب الناس في الغرب؛ خشية تكرار الأزمة المالية لعام 2008، التي في ليلة وضحاها خسر الناس العاديون كل مدخراتهم وأصولهم وموجوداتهم. لكن السؤال الذي بدأ يؤرقنا منذ نحو عشر سنوات هو أن "النازل" و"الصاعد" بدأ يصبح مكونا أساسيا من حياتنا. في أمريكا، حيث يضع أغلب الناس ثرواتهم في البورصة، يتسمّر الناس اليوم أمام شاشاتهم أيا كانت، رقمية أو غيرها. إنهم يوجهون أبصارهم وأسماعهم وعقولهم ليس للاستمتاع ببرامج الترفيه التي ترافق أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة.

 

الأنظار مصوبة نحو منحنيات وأرقام الأسعار في البورصة، ومعهما تصعد القلوب وتنزل، كما تصعد قلوب الدول النفطية وتنزل مع "النفط يتقدم، النفط يتقهقر". أغلب الظن أن العام المقبل سيكون مليئا بالتقدم والتقهقر، وإن كان لي إطلاق تسمية عليه، فإنه سيكون عام الصعود والنزول. وقد نحس بـ "النفط يتقدم، النفط يتقهقر" ليس كل شهر، بل كل أسبوع وربما كل يوم. بيد أن توقعاتي هي أن العام المقبل سيكون عام "النفط يتقهقر".

 

عن صحيفة الاقتصادية السعودية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل