كتاب عربي 21

ملوك ينزحون من شعوبهم "فوق الشجرة"

أحمد عمر
نيوم- جيتي
نيوم- جيتي
طُردت شعوب عربية كثيرة من ديارها؛ نزح الشعب الفلسطيني، تلاه العراقي، ثم السوري والليبي واليمني. فقد نزح ملوك وهاجر رؤساء قبل نزوح الشعوب من أوطانهم، وقديماً قال المتنبي: "إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون همُ". والترف أعلى منازل الهجر والترحّل والنزوح. ينزح الناس إذا نزح ملوكهم، ونزوح الملوك نزوح فردي، فوق الشجرة، على خطوط "يا مسافر وحدك وفايتني" الجويّة، هو نزوح العدل والعقل. ويوصف الملوك الذين يحكمون شعوبهم بقوانين غريبة بأنهم مفصولون عن الواقع، وهو تعبير مترجم شائع في الصحافة والإعلام.

وكان سبب انطلاق نيران ثورات الربيع العربي من مستصغر الشرر، وهو أنَّ شرطة تونس حرمت بائع خضار على عربة متجولة من مكان في بلده، فضاقت به الأرض بما رحبت، فأحرق نفسه غيظاً وكمداً وثورة، والحرق عقوبة الله، فلا يحرق بالنار سوى رب النار. وفي الآثار أن حصين بن عمران، الملقب بمصافح الملائكة، هجرته الملائكة بعد أن اكتوى. ثم كان أن فرّ زين العابدين بن علي خوفاً من غضبة الشعب التونسي إلى جدّة، منفى الزعماء ومنتجع الملوك الظالمين.

أغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة

أما أحد أسباب انطلاق الثورة السورية واستقرارها في حمص، التي سمّيت بعاصمة الثورة، فهو أنَّ حكّام حمص بشّروا بالنزوح الرسمي والعمراني من المدينة القديمة، وبناء مدينة جديدة على الطرف العلوي منها باسم "حلم حمص"، فذعر أهل المدينة القديمة، وكان ذلك إيذاناً بقتل المدينة القديمة، وإيلائها الوافدين من القرى والأرياف والغزاة من أصحاب الأموال المغسولة من دماء الشعوب. فالمدينة القديمة مدينة سنّة، وهي مثوى الصحابة، ومدينة خالد بن الوليد الذي زحف مائة زحف ولم يهزم قط!

وقد انطلق سباق عمراني في عواصم العالم العربي بعد القضاء على الربيع العربي لبناء مدن فضائية، مدن "يوفو"، على غرار "إرم ذات العماد" و"مدينة النحاس" في الحكايات، مدن ينطبق عليها قول المغني المصري في أغنية دقّوا الشماسي: "لابني لك قصر عالي".

النهاية المعلنة للسباق هي سنة 2030، وقد أعلن ولي العهد السعودي بناء مدينة نيوم على البحر الأحمر، التي تبشر التقارير الحالمة بأنها أول مدينة فضائية على الأرض، وتوصف بأنها ستكون أذكى مدينة في الكوكب، وسيكون سكانها من الأذكياء. ستكون أكبر من نيويورك بـ33 مرة، وأحدث من برلين بعشر مرات. ستكون مدينة أفقية ممتدة مثل الثعبان وسكة القطار، مسوّرة بسورين مانعين للعواصف الرملية والحرافيش، يسكنها مليون نسمة لا غير، بحسب عدد "المقاعد والركاب"، نصف مقاعدها بجانب النافذة. وستبنى في البادية على "بلاج" البحر الأحمر، الأحمر من لون المرجان في الماء وليس من لون العذاب في الشرايين.

وليست مدينة الأحلام الوحيدة، فكل زعيم عربي له حلم مثل حلم حمص "الرائد"، يريد توقيعاً وأثراً يذكر به في التاريخ، غير السجون والمقابر، أما الغرض من هذه المدن، فهو محو الذاكرة، فهي مدن على الطراز الغربي، ولا يفلّ المدن القديمة إلا مدن جديدة.

ومِن العجائبِ، والعَجائبُ جَمَّة، أن نيوم اسمها إغريقي مركّب، فيه حرف عربي واحد يتيم مكتوب بالأحرف اللاتينية، ومؤخر إلى ذيل الاسم، في العتبة، قيل إنه من لفظ المستقبل وقيل إنه من اسم ولي العهد.

والغاية منافسة المدن القديمة العريقة والازراء بها على غير معهود عربي. ونذكر أن عبد الرحمن الداخل بنى مدن الأندلس على الغرار الأموي في دمشق، حتى أنَّ زائر إسبانيا يلحظ انتشار النخيل فيها، فقد استجلب الأمير الأموي عمته إليها. وزائر المدن الأندلسية يلحظ ضيق الأزقة ودورانها، وقد وجد الكاتب والمحامي نجاة قصاب حسن في كتابه حديث دمشقي، أنّ سببين كريمين وراء دوران الشوارع في الأحياء العربية القديمة وعدم استقامتها؛ الأول غايته الوقاية من الغزو، والثاني أخلاقي أدبي، فالدوران يحجب حركة النساء ويمنحهن حرية الحركة من العين المتلصصة، وهناك سبب ثالث؛ جمالي غايته الدهشة والمفاجأة.

القدس مدينة مهددة بالانتقاض والهدم، لكنها ما تزال صابرة وصامدة، وتذكر تقارير إخبارية ما جرى لآثار النبوة وحجرات أمهات المؤمنين، التي هُدمت كلها في مكة خوفاً من الشرك على ما يزعمون. والحفر يجري من تحت القدس بحثا عن آثار مزعومة، وقد صدرت آراء لشيوخ المداخلة تصف قبة الصخرة بالوثن، فالمداخلة يتورعون عن الشرك بالملك وولي عهده خوفا من النار.

في مصر التي دخلت سباق رالي المدن الفضائية، فقد أنفق رئيس مصر الانقلابية مليارات الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة، وفيها ناطحات سحاب في منطقة مفتوحة، وهي مبنية في الصحراء أيضاً ليس على معهود المدن قريبا من مياه الأنهار أو البحار. سينزح إليها الزعيم الوسيم والموظفون الكبار، مخلفين الشعب في القاهرة القديمة في الفقر والجوع والمرض والجهل

أما في مصر التي دخلت سباق رالي المدن الفضائية، فقد أنفق رئيس مصر الانقلابية مليارات الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة، وفيها ناطحات سحاب في منطقة مفتوحة، وهي مبنية في الصحراء أيضاً ليس على معهود المدن قريبا من مياه الأنهار أو البحار. سينزح إليها الزعيم الوسيم والموظفون الكبار، مخلفين الشعب في القاهرة القديمة في الفقر والجوع والمرض والجهل.

وقد غدت مدن الإمارات الكبرى مثل أبو ظبي ودبي مدناً عمودية، والامتداد الأفقي أولى وأكرم، وكان العمود قد صار مبغوضاً في القصيد والشعر، وسبّة، لكنه أمسى مستحباً في البنيان والحجر، وهي مدن بوليسية على غرار بيونغ يانغ، تراقب فيها المخابرات همسات العصافير على وسائل التواصل، خوفا من زلازل تعصف بالمدينة مع أنها خالية من عربات خضار.

أغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة

وأغلب الناشطين السياسيين يغردون في هذه المدن الحديثة بالرموز والإشارات والإيماءات، والنزوح من المدن إلى الدول المجاورة فرع من نزوح الملوك السياسي والعقائدي والشعبي، القصد من البناء الجديد هو الهدم، برهان ذلك ما تقدمه حكومات مصر وسوريا والإمارات من غزوات ليلية فكرية وعقائدية على البخاري ومسلم والشعراوي على برامج التلفزيون يقدمها مفكرون "متبولون" بالحداثة، و"متبول" على ما يقول "الفيلسوف" المطبول صاحب "عزازيل": أي متبّل بالبهارات، من غير أن يرفَّ له جفن أو يهتز له غبغب. حملات إعلامية على الأئمة، وليس على نتنياهو وبن غفير ومودي الذين يهدمون الديار أيضا؛ ديار سلمى وعبلة وأميمة.

في كل حضارة جديدة قصة مدينتين؛ أسبرطة وطروادة، مكة والمدينة، باريس ولندن، قندهار وكابل، برلين وبون، كييف وموسكو، دمشق والكوفة. وكان ولي العهد السعودي قد توعّد بمحاربة التطرف حتى صفقت له المذيعة الإنجليزية، في مخالفة لشروط مهنة الإعلام وحيادها. وقد صارت مدائن صالح -مساكن الذين ظلموا- مثابة لعروض الرقص والحفلات.

تدمير الذاكرة هو القصد والغاية: "ماما وبابا دقة قديمة دقة قديمة دقة قديمة، ماما وبابا دقة قديمة".

مدن السكّر والزجاج، و"دقّوا الشماسي" واعدة بالكوابيس، شامخة القضاء، القاضي فيها يؤجل العدل للصيف الماضي!

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (2)
أبو العبد الحلبي
الأربعاء، 01-02-2023 04:24 م
ليس كلَ بناءٍ يشيَدُه الناس ذو قيمةٍ إيجابيةٍ ، فمِن الأبنيةِ "الهدَامة" مثلاً كنيسةُ القُليس التي بناها أبرهةُ الحبشي في صنعاء لصرف الناس عن الكعبة المُشرَفة و مثلاً مسجدُ الضرار الذي بناهُ المنافقون على بُعْدِ ساعةٍ من المدينة المُنوَرة . في عصرنا الحالي، من يعتبرون أنفسهم "البنائين الأحرار" هُمْ في الحقيقة "الهدَامين العبيد" و لكونهم يعرفون ذلك تكتموا والتقوا في أوكار و سراديب ! فِعلُ البناء تنطبق عليه قاعدة "إنما الأعمالُ بالنيَات" التي أرساها الرسول عليه الصلاة و السلام فإن كانت النوايا سيئة أي لمجرَد اللعب و اللهو وإظهار "الإنجازات الفارغة" و تبديد ثروة الأمة فيما لا تحتاج له و تخريب اقتصاد البلد و على حساب التردَي في ظروف المعيشة و في الصحة و في التعليم و في الزراعة و الصناعة ... يكون الفِعلُ عبثاً لا طائل من تحته و تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة . قال الله تعالى في الآيات الكريمة 128 إلى 131 من سورة الشعراء ما ذكرهُ نبي الله هود عليه السلام لقومِهِ قومِ عاد (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فأرجوا الرجوع إلى تفسيرها ، لكن باختصار كانت هذه ثلاثة أسئلة فيها استفهام إنكاري عن الحماقات التي وقعوا فيها . بطبيعة الحال ، كان هؤلاء القوم ملتزمين بالمخالفة و بالعناد و بالباطل حتى أتاهم عذاب الله الذي أهلكهم عن بكرةِ أبيهم . أرسل سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثُلَة من الصحابة –رضوان الله عليهم - إلى بلاد الشام لتفقيه الناس بالإسلام و كانت دمشق محظوظة حيث كان "عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري" المشهور باسم "أبي الدرداء" تلميذ الرسول النجيب و حكيم الأمة هو من سيقوم بتدريس أهلها. روى ابن أبي حاتم رحمه الله " أن أبا الدرداء رضي اللّه عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البُنيان ونصبِ الحجر، قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ألا تستحيون، ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون ، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيُوعون، ويبنون فيوثِقون، ويأملون فيُطيلون ، فأصبح أملُهم غروراً، وأصبح جمعُهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعُمان خيلاً وركاباً ، فمن يشتري مني ميراث عادٍ بدرهمين؟ ".
سعدو
الإثنين، 30-01-2023 10:31 م
ان بطش ربك لشديد ونحن بانتظار البطشة الكبرى من المنتقم الجبار.