مقالات مختارة

عن الدلالات السياسية للحجاب في إيران

محمد جميح
جيتي
جيتي

الأشياء كالألفاظ تشير إلى دلالات محددة، وكما تتغير دلالات الألفاظ بتغير سياقاتها اللغوية والتاريخية فإن دلالات الأشياء تتغير بتغير سياقاتها التي تُحمِّلها إحالات سيميائية مختلفة، وفي حين أن السيمياء لغة مفرداتها الأشياء والألوان والهيئات والأشكال فإن مفردات السيمياء يمكن أن تُشحن بإحالات رمزية مثلما تحمل مفردات اللغة دلالاتها المختلفة.

وإذا أخذنا (الحجاب/المفردة) على المستوى اللغوي فإنه ينفتح على دلالات قاموسية وفقهية مختلفة، كما أن (الحجاب/القماشة) يمكن إعادة شحنه بدلالات أيديولوجية وسياسية مغايرة، وفقاً للسياقات المختلفة، ولنوعية ولون وموضة وحجم ووضعية الحجاب التي تمده بإحالات سيميائية متعددة.

وفي حين أن الدلالات اللغوية لمفردة الحجاب تدور حول الوظيفة التقليدية المرتبطة بأبعادها الدينية فإن لقماشة الحجاب أبعاداً يمكن أن تتجاوز هذه الوظيفة عندما تتحول إلى "علامة سيميائية" تنفتح على حقول أخرى غير دينية يعاد من خلالها شحن تلك العلامة بتداعيات رمزية مرتبطة بجملة من السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة.

ولعل الاحتجاجات الحالية في إيران تمثل واحدة من أبرز محطات خروج الحجاب عن معانيه القاموسية الدينية إلى سياقات رمزية سياسية، حيث يمكن أن نلحظ الأبعاد السياسية للحجاب من خلال تتبع حركة تلك الاحتجاجات التي اندلعت قبل حوالي ثلاثة أشهر إثر مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني بعد اعتقالها من قبل "شرطة الأخلاق" في طهران، وتعرضها للتعذيب الذي أدى إلى وفاتها، حسب تقارير حقوقية إيرانية ودولية، على خلفية حجابها "غير الملتزم"، حيث تحول الحجاب تدريجياً من مجرد مفردة ذات دلالات دينية إلى "علامة" تنفتح على أبعاد سياسية، بعد أن أصبح في أعين المحتجين والمحتجات "رمزاً" يشير لديكتاتورية "نظام ثيوقراطي يقمع الحريات وينتهك حقوق النساء".

والواقع أن تموضع الحجاب ضمن سياقات سيميائية/سياسية بعيدة عن الدلالات القاموسية/الدينية ارتبط بطبيعة المعارك التي دارت وما زالت تدور حوله في إيران وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، وهي المعارك التي غدا بموجبها الحجاب شعاراً سياسياً وأيديولوجياً، إضافة إلى كونه مفردة منتمية للحقول الدينية والفقهية. وبالعودة إلى الحالة الإيرانية نجد أن نظام شاه إيران الأسبق رضا شاه بهلوي الذي كان معجباً بالتجربة الأتاتوركية في تركيا حظر الحجاب وضيق على المحجبات بشتى الوسائل، حيث أقر الشاه في العام 1936 قانوناً يلزم الإيرانيات بخلع حجابهن، الأمر الذي زاد من حدة الخلافات السياسية بين الحوزات الشيعية والنظام، وأدى إلى توترات مستمرة وهو ما جعل نجله محمد رضا بهلوي يتخفف من سياسات والده إزاء الحجاب، حيث ألغى سنة 1944 القانون الذي أقر في عهد والده، وخلال تلك الفترات كانت المعارك تحتدم فكرياً بين أنصار الحجاب وخصومه، ولكنها معارك امتدت لما هو أبعد من الحجاب بمعانيه الدينية بتحول تلك المعارك إلى صراع فكري وسياسي وأيديولوجي بين فريقين:

فريق قومي متعصب يرى الحجاب من مخلفات العرب/البدو الذين "دمروا حضارة فارس العظيمة"، وبالتالي فإنه يحمل دلالات مرتبطة بعصور الهيمنة العربية على إيران، ومن هنا فإن المعركة ضد الحجاب كانت من وجهة نظر قومية هي معركة لتخليص إيران من تبعيتها لأفكار عتيقة ومتخلفة جُلبت من شبه الجزيرة العربية، حسب رؤية خصوم الحجاب من القوميين في إيران، فيما يرى أنصار الحجاب أنه شعيرة دينية إسلامية، وأنه جزء من المنظومة القيمية والسلوكية للشعب الإيراني المسلم.

وبعد انتصار ثورة 1979 التي طبعت بطابع إسلامي شيعي أصدر الراحل الخميني عدة توجيهات بفرض الحجاب في الأماكن العامة وبقوة القانون، الأمر الذي فجر موجة احتجاجات ضد السلطات التي أوكلت حينها لقواتها الأمنية مهمة التصدي لتلك الاحتجاجات، لتستمر السلطات الأمنية ممثلة بـ"شرطة الأخلاق" اليوم في مراقبة حجاب النساء وفرض عقوبات تتراوح بين السجن والجلد والغرامات المالية على كل من لم تلتزم بـ"الحجاب الإلزامي" الذي حدد النظام هيئته وشكله وطريقة لبسه. ومع مرور الوقت يتحول الحجاب في نظر الكثير من الإيرانيين من كونه "مفردة في قاموس ديني" إلى كونه "علامة في سياق سياسي"، حيث أصبح يشار إليه في إيران بـ"الحجاب الإلزامي" أو "حجاب النظام"، وهو الحجاب الذي يكون غالباً بلون واحد هو اللون الأسود، بما يحمله هذا اللون من رمزية تنفتح على دلالات "المظلومية التاريخية الشيعية" التي سوق لها النظام واستغلها بشكل جعله في نظر الكثير من الإيرانيين يتحول من ممثل للمظلومين إلى امتداد للظالمين الذين يرمز إليهم لون الحجاب الأسود، كما يرمز إلى الحزن على "شهداء أهل البيت" بما يمثلونه من رمزية استغلها النظام لصالحه على مدى عقود طويلة.

ومع استمرار واشتداد حركة الاحتجاج في إيران ضد النظام تحول الحجاب إلى "علامة" بارزة في الصراع بين السلطة السياسية والجمهور الغاضب، ولمزيد من تحميل الحجاب دلالات سياسية أقدم الكثير من الإيرانيات على خلع حجابهن في الأماكن العامة، في تصرف يحمل أبعاداً سياسية أكثر من كونه حركة احتجاج ضد الحجاب أو الإسلام، كما أقدمت إيرانيات أخريات على قص أو حلق شعرهن في رفض للمنظومة الدينية السياسية برمتها في إيران، وفي احتجاج شعبي واسع يمثل مطالب في العيش الكريم واحترام المرأة وممارسة الحريات العامة والشخصية، وهو ما يجعل حركة الرفض المجتمعي تتصوب ليس جهة الحجاب بمعناه الديني، ولكن ضد الحجاب الذي أصبح يمثل رمزاً لنظام يراه المحتجون قمعياً، ما يعني أن الاحتجاج ضد الحجاب لا يعني رفض الإيرانيين للقيم الدينية، قدر ما يعني رفضهم للنظام الثيوقراطي الذي قيد حرياتهم وأفقر أغلبيتهم، وعرض بلدهم لعزلة دولية لم تشهدها إيران من قبل، وبشكل يفهم منه أن خلع الحجاب يمثل احتجاجاً على "الجمهورية الإسلامية" لا على الإسلام نفسه، وهي الدلالة التي تُستشف من كون معظم المشاركات في حركة الاحتجاج من المحجبات، ما يشير إلى أن حركة الاحتجاج في نظرهن ليست موجهة ضد الحجاب بمعناه الديني، قدر ما هي موجهة ضد الحجاب بمعناه الاجتماعي الذي يعني "حجب المرأة عن محيطها المجتمعي"، وضد الحجاب بمعناه السياسي الذي يعني "حجب الشعب عن حقوقه الأساسية"، بعد أن حول ذلك النظام الحجاب إلى وسيلة قمع لا تختلف عن وسائل القمع الأمنية الأخرى التي يستعملها ضد مواطنيه، وهذا السلوك يشير إلى خروج الحجاب لدى النظام ولدى المحتجين على السواء عن دلالاته السياقية الدينية إلى دلالات سياسية ورمزية مرتبطة بطبيعة الصراع بين المحتجين والنظام.
التعليقات (1)
أحمد القاضي
الخميس، 08-12-2022 08:27 ص
هذه هي حقيقة مجريات الأمور التي تحصل الآن في إيران و السبب يعود إلى تفوق الثورة الصناعية في الغرب و حاجته إلى مصادر الطاقة الأحفورية التي تتواجد بنسبة 65? في شبه الجزيرة العربية و إيران. الثورة الإيرانية بدأت مدنية و تولى الراحل بني صدر و هو أول رئيس مدني للجمهورية الإيرانية قيادة البلاد و لم تدم طويلا حتى أضطر بني صدر للهروب من إيران و العيش في فرنسا حتى وافته المنية هناك. أضاف الخميني بعدها كلمة الأسلاميه إلى أسم جمهورية إيران و ألقى بظلال ثقيل على الشعب تحت غطاء الثيوقراطية التي تنبه لها الكثير من المثقفين الذين هرب الكثير منهم إلى خارج البلاد و توفي قسم كبير في الزنازين تحت التعذيب. قام الخميني و كما هو الحال في دول مجاورة و لو بصورة مغايرة بوضع الناس وراء بوابة حديدية تحت مسميات لا تمت للأسلام بصلة و صدق الكثير الوعود الكاذبة بالحياة الكريمة و العدالة الأجتماعية فقط، ليستيقظ الشعب على ليل طويل دامس ينظرون بأم أعينهم إلى ثروات البلاد الهائلة تبدد على مشاريع لا فائدة منها و إلى هدر الثروات النفطية التي تباع في السوق السوداء بأقل من سعرها و ثم يعاد تصديرها إلى الأسواق الغربية حيث يتم تخزينها أو إستعمالها و ليس لها بديل حتى الساعة. ثورة الشعب الإيراني هذه المرة تنذر بما هو قادم لا محالة و إن طال الزمن و هو أن النظام الذي لا عدالة إجتماعية فيه، و جل ما يقدمه هو وعود دينية كاذبة، هو إلى زوال. من أراد أن يرى بأم عينه مستوى العدالة الأجتماعية في إيران، ما عليه إلا مشاهدة زوجات رجال النظام في دبي يتسوقن آخر أزياء الموضة و الحاجيات الثمينة حيث لا حسيب و لا رقيب بينما ينتظر الشعب الذي لا يجد قوت يومه ثقافة الموت و الدجل الديني على العقول. لله الحق تبارك و تعالى و نسأل المولى عز و جل الهداية إلى ما يحب و يرضى.