قضايا وآراء

الثورة التي نريد (5)

أحمد عبد العزيز
تحرك الشعب يعني الثورة- جيتي
تحرك الشعب يعني الثورة- جيتي
كما عوَّدنا المشير ياسر جلال في كل ظهور له، أمسك بـ"الحديدة" خلال افتتاحه مدينة "المنصورة الجديدة"، في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري؛ ليلقي كلمة لم تخل (كالعادة) من الدفاع عن سياساته المدمرة، وتحميل شعب المحروسة أو الحكام السابقين المسؤولية عما آلت إليه الأمور من سوء، فوقه سوء، تحته سوء، أمامه ظلام، خلفه دمار!

فقد عزا (في كلمته هذه) التخلف والانحطاط اللذيْن وصلت إليهما المحروسة إلى ما سمّاه "غياب الدولة"! وشوية "كليشيهات" تانية، لا يفتأ يذكرها (في كل مناسبة) منها: "اللي جرى في يناير 2011"، ثم أضاف إليها مؤخرا "اللي جرى في 2013" (رغم أن هذه الأخيرة كانت من تدبيره شخصيا)، والزيادة السكانية، و"الإرهاب" ويعني الإخوان المسلمين، و"أهل الشر" ويعني الإخوان برضه، وأخيرا وليس آخرا "الخطاب الديني" اللي محتاج "تجديد" أو "سمكرة ودوكو"، بلغة "الصنايعية" أرباب الوِرَش، وقد تصدى للقيام بهذه "العَمْرَة" أُسْطَوَات التنوير، أو "الملحدون" على الحقيقة، بإيعاز أو إيحاء أو طلب من "طبيب الفلاسفة"!
هم العسكر الذين استولوا على الحكم منذ 1952، وعادوا بـ"المحروسة" إلى عصر "المماليك"، ومنهم هذا المنتفخ غرورا الذي وصل بها إلى قاع الهاوية، في تسع سنين فقط، رغم ادعائه أن الله فهَّمه كما فهَّم سليمان، وأنه سبحانه أعطاه البركة، وأن عناية الله اختارته؛ لإنقاذ مصر من "أهل الشر" الذين رفعوا عن كاهل الدولة (على مدى أربعين عاما) كثيرا من التزاماتها تجاه الشعب

ما يعنينا من كل هذه "الكليشيهات" (في هذا المقال) كليشيه "غياب الدولة" المستجد! و"غياب الدولة" له صور كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: غياب الحضور والتأثير إقليميا ودوليا، وسقوط السيادة والرضى بالتبعية، والعشوائية في التخطيط، والارتجال في القرارات، وغياب القانون والعدالة، وانعدام الشفافية والمحاسبة، وشراء الولاءات، وشيوع المحسوبية، وتبني فكرة "شراء القوة والنفوذ"؛ لتحصيل حق، أو دفع عدوان، أو إرهاب الغير.. إلخ.. وكل هذا وأكثر واقع في مصر!

فمَن غيَّب "الدولة" في مصر؟!

هل هو الشعب المفعول به دائما الذي يتعرض (من قِبَل أذرع السلطة الإعلامية والفنية) منذ ستينيات القرن الماضي، لأعتى حملات التجهيل والتتفيه والتغريب؛ لسلخه من دينه وقيَمِه سلخا؟!

هل هم الإخوان المسلمون (أهل الشر) الذين قضوا ثلاثة أرباع أعمارهم في السجون والمعتقلات، بتهم ملفقة، وأحكام مسيَّسة؟!

هل هو الرئيس محمد مرسي (رحمه الله) الذي وصل إلى سدة الرئاسة بإرادة الشعب، فلم تمكنه الدولة العميقة من إصلاح الفساد الذي تعتبره إرثا يجب أن تعض عليه بالنواجذ، فانقلبت عليه؛ كي تظل مصر غارقة في مستنقعات العفن، من كل لون؟!

هل هي الأحزاب الكرتونية التي تعتاش على "نفحات" الحكومة؛ ونجحت في تدجينها؟!

هل هي النخبة السياسية التي تقف (في معظمها) إلى جانب النظام الحاكم، أخطأ أو أصاب؛ طمعا في منصب، أو عضوية لجنة، أو مقعد في برلمان يتم هندسته بمعرفة الأجهزة الأمنية؟!

أم هم العسكر الذين استولوا على الحكم منذ 1952، وعادوا بـ"المحروسة" إلى عصر "المماليك"، ومنهم هذا المنتفخ غرورا الذي وصل بها إلى قاع الهاوية، في تسع سنين فقط، رغم ادعائه أن الله فهَّمه كما فهَّم سليمان، وأنه سبحانه أعطاه البركة، وأن عناية الله اختارته؛ لإنقاذ مصر من "أهل الشر" الذين رفعوا عن كاهل الدولة (على مدى أربعين عاما) كثيرا من التزاماتها تجاه الشعب: مستوصفات طبية في الأحياء الشعبية، معامل تحاليل، مستشفيات في المدن، كل ذلك بأسعار رمزية.. معارض للسلع المعمرة بالتقسيط المريح وبأسعار معقولة، معارض العودة إلى المدارس زهيدة الثمن؛ ليتمكن محدودو الدخل من توفير متطلبات الدراسة لأطفالهم، منافذ بيع اللحوم في الأعياد بأسعار اقتصادية، وقبل ذلك وبعده، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد هدى الله بهم خلقا كثيرا..

كم هو مزعج وممل أن يضطر المرء إلى الحديث في أمر بات معروفا للكافة، ولا يحتاج إلى بيان! لكن ماذا عسانا أن نصنع سوى إعادة تعريف المُعرَّف، ما دام بيننا مَن يصدِّق "هبدات" المُخَلِّص المنتظر، لعلهم يعقلون؟!

الدولة في أبسط تعريفاتها: أرض وشعب، تقوم على شؤونها ثلاث سُلطات: السلطة التنفيذية (الرئيس والحكومة، ومهمتها تسيير شؤون الدولة، والسهر على راحة الشعب وأمنه، وتوفير الحياة الكريمة له)، والسلطة التشريعية وتمثل الشعب (مهمتها مراقبة أداء السلطة التنفيذية، وسن التشريعات التي تحقق مصلحة المجتمع)، والسلطة القضائية (لا سلطان عليها إلا الدستور والقانون، وعلى السلطتين التنفيذية والتشريعية احترام أحكامها وتنفيذها).

فهل الحال كذلك في مصر، منذ استيلاء العسكر على السلطة في 1952؟!

الجواب: كلا البتة، وإنما العكس هو الصحيح!
جاء المنقلب، "هدية السماء لشعب إسرائيل" الذي دمر الاقتصاد، وأغرق في الديون البلاد، وشرع في بيع أصولها، ومن قبل باع أرضها (تيران وصنافير)، وتنازل عن حصتها المستحقة من مياه النيل، وفتح المجال للملحدين لزعزعة عقيدة المصريين، وقتل الآلاف ممن عارضوا انقلابه على الرئيس المنتخب، واعتقل آلافا آخرين

فالذي حدث (ووقائع إثباته مبثوثة في مذكرات ضباط يوليو وغيرهم، وهي أكثر من أن تُحصى) أن "السلطة التنفيذية" التي هي مجموعة العسكر التي استولت على الحكم، قد ابتلعت السلطتين التشريعية والقضائية، ومن ثم لم يعد هناك دولة بالمفهوم السياسي، وإنما أصبحت مصر مجرد "عزبة" أو "ضيعة" يديرها "عمدة" أو "مختار" يعاونه "حفنة" من الخفر، على النحو الذي يضمن بقاء هؤلاء في مواقعهم، ويحقق مصالحهم، حتى يوافيهم الأجل، ثم تؤول الأمور إلى مجموعة أخرى تسير على الخط نفسه (الأثرة والاستبداد) وإن اختلفت عناوينه وتباينت ظاهريا!

فبعد الرئيس الاشتراكي والزعيم التقدمي الذي تنازل عن السودان، وأدمن الهزائم، أصبح لدينا الرئيس "المؤمن" راعي الانفتاح، مؤسس المنابر (الأحزاب) وصانعها، ثم الرئيس "اللي كبَّر دماغه ع الآخر"، واستحق (عن جدارة) لقب "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل"، ثم الرئيس الذي كان بمثابة "جملة اعتراضية" سطَّرها الشعب، رغما عن العسكر، فسارعوا إلى محوها، قبل أن تصبح نصا "نورانيا" في سفر الظلام والفساد الذي يكتبونه بمداد من الجور، منذ سبعة عقود!

وأخيرا جاء المنقلب، "هدية السماء لشعب إسرائيل" الذي دمر الاقتصاد، وأغرق في الديون البلاد، وشرع في بيع أصولها، ومن قبل باع أرضها (تيران وصنافير)، وتنازل عن حصتها المستحقة من مياه النيل، وفتح المجال للملحدين لزعزعة عقيدة المصريين، وقتل الآلاف ممن عارضوا انقلابه على الرئيس المنتخب، واعتقل آلافا آخرين، وأقام منشآت على أراضي الدولة، بأموال الشعب، ثم ألزم مؤسسات الدولة باستئجارها لصالح "صندوقه السيادي" الذي لا يخضع لأية رقابة، ومحا مدنا كاملة في سيناء، وهجَّر أهلها قسريا، أو شرَّدهم بالأحرى! وأخيرا وليس آخرا، حط من شأن القضاء، وجعل منه "شُخْشِيخَة" فأفقده هيبته واستقلاله، وصنع برلمانا على عينه؛ ليكون صدىً لصوته، يترجم ما يدور في عقله الذي إن شققت عنه فلن تجد فيه سوى "خِرقة" يريد أن يجعل مصر نسخة عنها!
لقد وصلت مصر إلى حال بلغ من البؤس والتحلل حدا لا يمكن إصلاحه أو استبداله إلا بتحرك قطاع معتبر "فاعل" من الشعب، وإذا ذكرنا الشعب، فإننا نعني "الثورة" بالضرورة، ولا ثورة في غياب "قيادة راشدة متجانسة" لديها رؤية واضحة، وخطة مُحكمة، قادرة على إيجاد أو تكوين هذا "القطاع المعتبر الفاعل" وتحريكه

إن "غياب الدولة" سابق على "الزيادة السكانية"، واللي جرى في 2011 و2013، وقد حاول الرئيس المنتخب (طيب الله ثراه) أن يعيد السلطة والسيادة والكرامة إلى الشعب، وأن يجعل من مصر دولة ذات وزن وحضور وتأثير؛ بأن تنتج غذاءها ودواءها وسلاحها، فلم يمكّنه "أهل الشر الحقيقيون" بأن دعموا هذا المنقلب؛ ليعيد مصر إلى الوراء قرنين من الزمن! ثم يأتي اليوم ليهبد هبدا لم يهبده هابد من قبله، وكأن البلاد لم يبق فيها إلا الأغبياء والسفهاء الذين يصدقونه، ويصفقون له، على صوت زغاريد "الحبالى بنجمه"، ويهتفون "تحيا مصر" ثلاث مرات في اليوم، في مواعيد الوجبات الثلاث التي لا يتحصل معظم الشعب المصري إلا على واحدة منها بشق الأنفس، أحيانا من "القمامة"، وأحيانا من أسواق "بقايا الطعام"!

لقد وصلت مصر إلى حال بلغ من البؤس والتحلل حدا لا يمكن إصلاحه أو استبداله إلا بتحرك قطاع معتبر "فاعل" من الشعب، وإذا ذكرنا الشعب، فإننا نعني "الثورة" بالضرورة، ولا ثورة في غياب "قيادة راشدة متجانسة" لديها رؤية واضحة، وخطة مُحكمة، قادرة على إيجاد أو تكوين هذا "القطاع المعتبر الفاعل" وتحريكه.. فأي تغيير بعيدا عن الشعب، لن يكون إلا من داخل هذا النظام "الفاسد"، ولن يكون إلا برضى المؤسسة العسكرية التي هي "الذراع المسلح للدولة العميقة" الفاسدة! ما يعني دوام هذا الحال الذي لم يعد يُحتمل!

فما ملامح هذه "الثورة التي نريد"؟ وهل هي نسخة من الثورات التاريخية التي سبقتها، أم يجب أن تكون مختلفة عنها؟ وما أدواتها؟ ومن المنوط به قيادتها؟

هذا ما سأحاول الإجابة عنه (بحول الله) في الحلقات القادمة..

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
التعليقات (1)
تاريخ مصر المزيف
الثلاثاء، 06-12-2022 04:38 م
أتمني من الكاتب أن يراجع دراسة تاريخ مصر الحقيقي في فترة الحكم المملوكي وليس ما درسه في المدارس من تاريخ مشوه خطه العلمانيون الذين تربوا في أحضان الغرب وتشربوا كراهيته للإسلام وتشويهه للحضارة الإسلامية التي كانت الدولة المملوكية واحدة من ابرز محطاتها وأقوى حصونها التي حمت العالم الإسلامي و شعوب الأرض جمعاء من همجية التتار وتدميرهم للتراث الحضاري والإنساني أثناء غزواتهم. مصر لم تعرف الانهيار إلى على يد العلماني مجهول الأصل صنيعة فرنسا محمد علي وكان الجيش الذي أسسه وما زلنا نعاني منه حتى يومنا هذا هو سبب البلاء الذي أصاب البلاد.