قضايا وآراء

في بيان كيفية وقوع "المعارضة المصرية" في الفخ؟

محمد ثابت
ما الذي يحتاجه الإصلاح في مصر؟- الأناضول
ما الذي يحتاجه الإصلاح في مصر؟- الأناضول
بداية فإن لدينا عددا من الاعترافات نتمنى أن نستطيع إيجازها في نقاط:

1- لسنا من أنصار لفظة "المعارضة المصرية"؛ ومع الاحترام لجميع مستخدميها فإننا نرى المعارضة جزءا من النظام لكن يريد توليه بدلا من رأسه وصدره وأذنابه. فإن نظرنا في حالتنا حيث اتسع الفتق على الراقع وبلده كله، فإننا أمام "مقاومة سلمية" لا معارضة، أما لماذا لم نذكر هذا في العنوان فخوف التباس أشد إذ قد يظن البعض أننا ندعو لحمل السلاح أو ما شابه، ونحن في غنى شديد -بوازع من الضمير أولا - عن الالتباسات و"أهلها" إلا من حسني النية الذين يؤثرون الفهم على غيره. وعموما فإن البعض قد يكتفي بلفظة المقاومة ويتناسى السلمية، وذلك في خضم حالة من التباس عجيبة بعضها بفعل قسوة اللحظة المستمرة، وبعضها بسبب حب البعض لاستمرار كل لبس ممكن. ورحم الله الشاعر العراقي أحمد مطر لما قال في مقدمة أمسية عن لافتاته موصيا بحسن النقل عنها: "فإنني مستعد لدفع رأسي ثمنا لرأيي لا للرأي الآخر"!

2- لستُ من محبي إلقاء التهم وتحميل الجنرال الحاكم لمصر وأتباعه الظاهرين والمستترين جميع التبعات والمصائب الحالية، إذ إنني من مدرسة رأي تؤثر تسمية الأشياء بمسمياتها، مهما كانت النتائج أو بلغ حجمها، لذا فإنه مستقر بأعماق وجداني ترجمة المقولة العربية السديدة القديمة: "النائم في صحبة اليقظان، والمريض في صحبة المعافى، والمجنون في صحبة العاقل"، وبناء على استقراء لقرابة عشر سنوات مريرة من أقسى ما مر بمصر، فعمرت سجونها، وازدهرت مقابرها بأفضل مَنْ فيها، وأقفرت مطاراتها بعد مغادرة خير رجالها، وعم الصمت أرجاءها بعد صمت أفضل وأجمل الأصوات رأيا وتحليلا وسعيا للخلاص من مصيبة -إلا قليلا- لعل أفضل كوابيسنا كانت أفضل منها؛ وبناء على تسليم مطلق بأنه لا يملك الخير إلا خالقه، وإنك إن اتكلتَ عليه كفاك ما يلقيه البشر عليك من تبعات خطرة عليهم يرونها بقولك، ورحم الله علي بن أبي طالب ورضي عنه لما قال: "كلمة الحق لم تبق لي صديقا".

الحقيقة أننا أمام حقيقتين أكثر إيلاما من بعضهما -مع تقاربهما- فثورة يناير نفسها هي التي أتت بالجنرال ومكنته، ثم انقلب الذين أتوا به عليه -وفق إمكانياتهم- بعدما انقلب عليهم وسط إمكانياته العارمة، لكن يبقى أن التغيير الذي أحدثه لدى خصومه واسع لم يكن متوقعا لدى أكثرهم جنونا

إنني أرى الجنرال رداءً لم تتسربل به البلاد ويُبلى العباد إلا لما تشتت بهم الطرق -بدرجات- ولم يُحسنوا الفهم أو الحراك، أو لم يكملوهما على النحو الأمثل، ولذا فإنني أعتذر وما زلتُ منذ عام 2015م لمن حاولوا القفز فوق مصائبنا الحالية فأبدعوا مقولة رائدة من مثل: "الانقلاب أبرز أسوأ ما فينا"، فإنه للأمانة قد "أبرز أسوأُ ما فينا الانقلابَ والجنرالَ والحالَ الصعبَ" ولا نود الزيادة!

3- بعض الأصدقاء المقربين يعيبون أمرين خاصين بكتابات صاحب هذه الكلمات أولهما: الحزن الشديد، وهم دائما يبعثون في النفس مبدئيا المزيد من الآلام لأننا لا نستطيع وصف الحال إلا بما هو عليه مهما كنا متفائلين، وهو ما يستلزم اعترافا آخر بأن المقاومة السلمية مهزومة في مصر للأسف؛ فضلا عما تبعثه كلمات الأصدقاء من صدى لترديد أبيات رقيقة للشاعر الراحل صلاح عبد الصبور رحمه الله:

"معذرة يا صحبتي، فالضوء خافتٌ شحيح
والشمعة الوحيدة التي وجدتها بجيبِ معطفي
أشعلتُها لكم ..
لكنها قديمة، معروفةٌ لهيبها دموع
معذرة يا صحبتي، قلبي حزين
من أين آتي بالكلام الفرِح؟!".

أما القسم الأخير من أعز الأصدقاء فهم ممن يخافون على "روح الإنسان بالداخل ومظهره الخارجي"، وإنني أحيانا لا أقل عنهم خوفا، فإن الأخير شعور إنساني بشري لا مهرب ولا فكاك منه، بخاصة مع استمرار بل استشراء واشتعال الأزمة المصرية أكثر مع الأيام. ولعل المنهي عنه الذعر -والعياذ بالله - وقصرا للأمور فإننا نردد دائما مع خير الخلق وأفضل العباد: "لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها"!

4 - ذات مساء بعد نجاح 25 يناير الأول تفاءل الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم ربما أكثر من اللازم، فقال إنه يعيب على مَنْ لم يعيشوا حتى يبلغوا 25 يناير 2011م أنهم "خائبون"؛ لم يتمهلوا حتى يروا أفضل أيام حياتهم، ومع التسليم بأن الموت موعد مضروب للجميع، فإن الرسول العظيم في واحد من أحاديثه الشريفة استعاذ بالله من السلب بعد العطاء، فللأسف عاش نجم نفسه سنوات اضطرب الحال فيها في مصر وعانى الجميع انحسارا بل قرب جفاف النبع الثوري، وذلك شعور لا يستطيع شريف مخلص أن ينساه أو يقفز فوقه.

أعترف -أيضا- أن الفترة الحالية الطويلة الممتدة، فلا هي بالسنين السبع العجاف المعروفة في قصة سيدنا يوسف، ولا هي حتى بالمعروفة النهاية؛ وإنما أكثر ما أخشاه مع غيري أن تخوننا حتى صحتنا، ويبقى الجنرال وبعض خصومه من الذين يحبون إطالة هذه الفترة لما يتنعمون به من خيرات خلالها ما يزالون على قيد الحياة. فالحقيقة أننا أمام حقيقتين أكثر إيلاما من بعضهما -مع تقاربهما- فثورة يناير نفسها هي التي أتت بالجنرال ومكنته، ثم انقلب الذين أتوا به عليه -وفق إمكانياتهم- بعدما انقلب عليهم وسط إمكانياته العارمة، لكن يبقى أن التغيير الذي أحدثه لدى خصومه واسع لم يكن متوقعا لدى أكثرهم جنونا. أعتذر عن الوصف لكن يبدو أنه لا فكاك عما يعتذر منه أحيانا، والأسباب لا داعي للمرور بها، فهي كافية لإغراقنا في تفاصيل لا نحبها فضلا عن أنها لا تحبنا.

فوجئنا جميعا بأن طرفا ليس بالقليل من مقاومي الجنرال المصري سلميا لديهم قاموس من الأفعال والأقوال ملغم "فعال" في وجه الثوار وحدهم، وهو ما يجعلنا ندقق بحزن أكثر في فرضية أنك لكي تلتحق بركب السلطة الغاشمة الظالمة في مصر وغيرها ينبغي لك أن تقدم "مفردات ولاء" صعب الفكاك منها، أو خداعها، لكن في المقابل فإنك لكي تلتحق بركب الضفة الأخرى ليس عليك غرم مماثل أو مقارب.

وليست الأزمة في ما سبق وحده، بل في تولي أعلى سدة المقاومين السلميين، مع كون "أحدهم" قد تشي أفعاله بأنه مع الجنرال لا أعدائه، ربما بتبعية مباشرة، أو ربما بالمصلحة وحب التسيد والاستبداد، أو ربما مصداقا للمثل الصيني المعروف: "الطريق إلى جهنم مليء بحسن النوايا"، ونحن لا نحتاج لتحديد أو ضرب أمثلة هنا، فالجراح أعز وأكثر تدفقا من تحجيمها أو إلحاقها بمسمى جمعي أو حتى فردي.

وبالتبعية فإن لدينا قطاعا مستفيدا تسيِّد بدلا من أن يقاوم، ترك الأقران بل الأحباب وأعز الأصدقاء في السجون وتفرغ لحصد المغانم، وفي نفس التوقيت شغل الأتباع والأقران بما هو أقل من التعقل -لا الواجب أو المفترض فضلا عن المعقول- وطرف من أولاء للأسف من مرير وجدوا بغيتهم في مجال كالإعلام، أحيانا دون سابق خبرة أو حتى مجرد تدبر لخطواتهم، ومن هنا جاءت مهازل وما تزال، وكأننا في سباق مظلم لشغل المصريين عن مصائبهم؛ وأحيانا الشماتة بهم وتحميلهم ما لا يطيقون من جانبي المعادلة الصفرية المستمرة!
إننا نرقب مأساة مزدوجة يتمادى الجنرال فيها في إذلال بلد عزيز وتضييع كرامته، وفي نفس الوقت نشاهد عن كثب بعثرة جهود خصومه وسط أمواج من التفنن في الإبقاء على اللحظة الحالية

وعلى ذكر المعركة الصفرية، فإن "لوغريتمات" إعلامية قبل سياسية نعتقد أنها ستسود وقفتنا الاضطرارية ومنها المصطلح الأخير الذي ساد لسنوات، وذلك حتى يأذن الله بإلهام المقاومين السلميين تنقية صفوفهم واستبعاد الذين لا يستحقون، والتطلع للأمام. إن عدم تنقية الصفوف سيبقى إشكالية، ومن هنا فإن من تهوين الأمر الأخير تخيل أن المطلوب استبعاد غير المخلصين، بل المطلوب تعدي قاصري النظرة الذين أبدعوا في ادعاء صفرية المعادلة بين جنرال يملك الأسباب وخصوم بلا حيلة تقريبا إلا من رجاء لدى بعض المخلصين بإدراك رحمة الخالق، والأخيرة لا تتنزل إلا مع العمل، ولا يمكن أن يتنعم بها كسالى أو حالمون فضلا عن المتوكلين. ويبدو في هذا السياق أن استبعاد أفاضل الشباب من معادلة المقاومة السلمية كان غرما كبيرا وما يزال.

لا يختلف مخلصان في أن مشوار إصلاح أحوال المقاومين السلميين طويل ويحتاج جهودا عزيزة، لكنه ليس ميؤوسا منه -إن صحت النوايا وحسنت الأعمال-، لكن يبقى أن نقطة البداية تبدو بعيدة، وهو ما يزيد من متاعبنا جميعا ويضنينا، فضلا عن العداوة المتأزمة من جانب قيادات مفترضة مع كل غير موافق على المسار الحالي؛ أو حتى غير راضٍ عن عدم اكتمال وسائل إصلاحه، وهو النقيض تماما من صفة الإصلاح الحقيقية المحتوية لكل راغب في بعث المنظومة من سباتها.

إننا نرقب مأساة مزدوجة يتمادى الجنرال فيها في إذلال بلد عزيز وتضييع كرامته، وفي نفس الوقت نشاهد عن كثب بعثرة جهود خصومه وسط أمواج من التفنن في الإبقاء على اللحظة الحالية، أما ما نملكه فإطلاق كلماتنا في محاولة لإيصال رسالة أبيَّة لا تزول وتفنى الأعمار في سبيلها، ونثق في وجود مَنْ يقرأ ويعمل، وإن تأخر، وإلا فنحن نعتذر من الخالق ونترك كلماتنا قبل الرحيل؛ ومن هنا وهنالك تأتي الأحزان وتتجدد .. ومجددا:

"معذرة صحبتي

قلبي حزين من أين آتي بالكلام الفرح"!

أو بحسب ترجمة العراقي الراحل أحمد مطر:

"إنني أغني للأمل لما يكون وردة طالعة من رحم الأرض، لكنني أخجل من إيهامكم بالورود المزيفة!".

التعليقات (0)