قضايا وآراء

"تصحيح المسار" ووهم القطيعة: الفرنكفونية نموذجا

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
تصدير: "إن الفرنكفونية ليست مشروعا قديما، بل هي مشروع مستقبلي. فتحدث اللغة الفرنسية يُعدّ فرصة حقيقية على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية" (الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون- 2018).

لفهم السردية الفرنسية المروجة للفرنكفونية، قد لا نجد أفضل مما ورد في تصدير هذا المقال على لسان الرئيس ماكرون. وهي سردية يمكننا أن نختزلها في ثلاثة عناصر أو محاور أساسية: رفض الاعتذار عن الإرث الاستعماري ومحاولة تهميش دوره الكارثي في الوضعية الحالية لأغلب المستعمرات الفرنسية "السابقة"، واعتماد "الثقافة الفرنسية" أو الإرث الاستعماري لشرعنة التدخل الفرنسي، بل الهيمنة الفرنسية على "المستعمرات السابقة"، وإنكار طبيعة الفوائد أو العوائد "الفرنكفونية" اللا متكافئة بين فرنسا و"المستعمرات السابقة"، خاصة الأفريقية منها. وبهذا المنطق تصبح "المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية" التي تشرف على القمم الفرنكفونية (تأسست هذه المنظمة سنة 1970 في العاصمة النيجيرية نيامي) "منحة" فرنسا أو هبتها إلى الدول الأعضاء، لا شكلا جديدا من أشكال الهيمنة والاستعمار غير المباشر الذي أعقب الاستقلال الصوري للدول الأفريقية "الفرنكفونية".

تنعقد القمة الفرنكفونية الثامنة عشرة في جزيرة جربة التونسية يومي 19 و20 تشرين الثاني/ نوفمبر. وهي قمة كانت فرنسا قد مهدت لها منذ 2018 (أي قبل انقلاب 25 تموز/ يوليو) عندما قال الرئيس الفرنسي ماكرون بأن تونس ستصبح خلال سنتين من ذلك التاريخ "قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية". ونحن لا نُذكّر بكلام ماكرون لـ"تنسيب" مسؤولية الرئيس قيس سعيد عن الخيارات الفرنكفونية الاستراتيجية للدولة التونسية منذ الاستقلال فقط (فقد كانت تونس من البلدان المؤسسة لهذه المنظمة)، بل نُذكّر بهذا الواقع التاريخي لبيان أن "تصحيح المسار" وسرديته القائمة على "القطيعة" مع المنظومة القديمة وخياراتها "الفاسدة" لا يرى في المشروع "الفرنكفوني" ما يستدعي "القطيعة" أو على الأقل المراجعة النقدية.
"تصحيح المسار" وسرديته القائمة على "القطيعة" مع المنظومة القديمة وخياراتها "الفاسدة" لا يرى في المشروع "الفرنكفوني" ما يستدعي "القطيعة" أو على الأقل المراجعة النقدية

إن موقف الرئيس "الإيجابي" من الفرنكفونية -وهو الحريص منذ أن كان "خبيرا دستوريا" على الكلام بالعربية الفصحى- هو أمر لا يثير استغراب المراقب الجيد للشأن التونسي. فلا أحد ينسى "اعتذار" الرئيس لفرنسا عن الخطابات المناهضة لها في مجلس النواب، ولا تبني الرئيس للسردية "القانونية" الفرنسية عندما اعتبر الاستعمار "حماية"، ولا قولته الشهيرة في حوار تلفزي مع قناة فرنسية -عندما سئل عن إمكانية أن يطلب من فرنسا الاعتذار عن تاريخها الدموي والتخريبي في تونس-: "من يعتذر يتهم نفسه". ولا شك في أن فرنسا لن تجد حليفا أفضل من هذا الرئيس الذي يقول بالفصحى ما يريده وكلاؤها المحليون، ويرفع عنها -بلغة فولتير- حرجَ الحديث في ما تصرّ فرنسا على أن يبقى خارج دائرة المطالب المشروعة للمستعمرات الفرنسية السابقة (الاعتذار عن المرحلة الاستعمارية وتغيير سياساتها تجاه "المستعمرات السابقة" بالكف عن منطق الوصاية والاستغلال، وبناء شراكات حقيقية تقوم على حق تلك البلدان في "تقرير مصيرها" بعيدا عن الإرث الاستعماري وما شرعنه من "تحديث" زائف).

لفهم أهمية القمة الفرنكفونية ودور تونس فيها باعتبارها "الحديقة الخلفية" لفرنسا قبل الثورة وبعدها، يجب أن نُذكّر بالتغيرات الجيوسياسية التي تعصف بالمصالح الفرنسية في القارة السمراء. ففي منطقة الساحل تواجه فرنسا غضبا عارما بسبب اتهامها من لدن بوركينا فاسو ومالي بالتورط في تمويل الإرهاب (وهو ملف كان وما زال مما يُمنع الحديث/ التفكير فيه في تونس وطرحه للسجال العمومي، خاصة في ملف الاغتيالات السياسية)، كما فقدت فرنسا جزءا مهما من هيمنتها الاقتصادية بعزم ثماني دول أفريقية على التخلي عن "الفرنك الأفريقي" الموروث عن الفرنك الفرنسي والذي يحدد البنك المركزي الفرنسي قيمته. وعلى الضفة الجنوبية من المتوسط تواجه فرنسا تحديات مماثلة بتوجه الجزائر نحو التعريب واعتماد اللغة الإنجليزية (كما ظهر في العملة الأخيرة المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية للمرة الأولى في التاريخ الجزائري)، وبحثها عن التخلص من الشراكة اللا متكافئة مع فرنسا عبر بناء شراكات جديدة مع دول أوروبية أخرى ومع تركيا والصين وروسيا.
فرنسا لن تجد حليفا أفضل من هذا الرئيس الذي يقول بالفصحى ما يريده وكلاؤها المحليون، ويرفع عنها -بلغة فولتير- حرجَ الحديث في ما تصرّ فرنسا على أن يبقى خارج دائرة المطالب المشروعة للمستعمرات الفرنسية السابقة

وتبعا لمقالة كتبها عبد الحفيظ سجال وصدرت في موقع "نون بوست" سنة 2021، فإن فرنسا قد فقدت الكثير من نفوذها الثقافي والاقتصادي في أفريقيا لفائدة الصين التي أصبحت أكبر مستثمر في أفريقيا. فقد بلغ حجم الاستثمارات الصينية في أفريقيا 400 مليار دولار، وبلغ حجم مبادلاتها التجارية مع القارة السمراء سنة 2019 حوالي 208 مليارات دولار (وهو ما يفوق حجم تبادلات أفريقيا مع الولايات المتحدة والهند وفرنسا مجتمعة). كما تنوي تركيا رفع مبادلاتها التجارية مع أفريقيا من 25 مليار دولار إلى 50 مليار دولار في أقرب وقت ممكن. أما روسيا فإن نفوذها السياسي والعسكري آخذ في التزايد بسبب التوجه العام داخل القارة نحو التخلص من الهيمنة الفرنسية المزدوجة: هيمنة لغوية-ثقافية، وهيمنة اقتصادية، وهما يتجسدان معا في نهب الثروات ورعاية الانقلابات والأنظمة الفاسدة.

عندما نستحضر هذه المعطيات ونضيف إليها الالتقاء الموضوعي بين "تصحيح المسار" باعتباره جزءا من الثورة المضادة وبين فرنسا، فإننا سنرى في تنظيم تونس للقمة الفرنكفونية "قبلة الحياة" التي تحتاج إليها فرنسا للتخلص -ولو جزئيا- من مشاريع التحرر من هيمنتها الاقتصادية والثقافية؛ المغلّفة بمنطق "المصالح المشتركة" ووحدة التاريخ والمصير وغير ذلك من الأساطير المؤسسة للاستعمار غير المباشر للقارة السمراء. وهو ما يعني أن "المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية" وقممها ليست في الحقيقة إلا آلية من آليات إدارة الانتقال من الاستعمار العسكري المباشر إلى الاستعمار الثقافي والاقتصادي.
فرنسا الاستعمارية لم تعد محتاجة لتحريك جيوشها -إلا نادرا- لتثبيت واقع التبعية ومنطق التفقير والإذلال الذي يطبع علاقاتها بمستعمراتها "السابقة"، إذ يكفيها أن تحرك طابورها الخامس في المجتمعين السياسي والمدني للدفاع عن مصالحها، بدعوى الدفاع عن مشروع "الحداثة" و"المنظومة الكونية لحقوق الإنسان" و"التعددية الثقافية" وغير ذلك من الحجج

ولا معنى هنا للحديث عن مرحلة "ما بعد استعمارية"، ولا معنى كذلك لحديث الرئيس عن "مشروع التحرر" أو رفضه للتدخل في الشأن التونسي وتغنيه بالسيادة الوطنية. فمثل هذه المنظمة تعكس لحظة جديدة في الاستراتيجيات الاستعمارية الفرنسية ولا تعكس وجود أي "استقلال" حقيقي لدى الدول الأعضاء، خاصة الدول الأفريقية التي تفتقد لكل مقومات السيادة بدءا من السيادة اللغوية أو الثقافية، مرورا بالسيادة الاقتصادية، وانتهاء بالسيادة الديبلوماسية. وهو واقع تريد فرنسا تأبيده عبر أذرعها الثقافية، لأنه ليس من مصلحة باريس أن تبنيَ الدول الأفريقية مقومات سيادتها بعيدا عن الوصاية الفرنسية المباشرة أو عبر وكلائها من سدنة الفرنكفونية.

إذا كان مصطلح "الفرنكفونية" مصطلحا استعماريا بامتياز (مصطلح وضعه الجغرافي الفرنسي أونسيم رومولو سنة 1880)، فإن وظيفته الأصلية لم تتغير بعد مرحلة "الاستقلال الصوري" إلا من جهة الأدوات المعتمدة لضمان المصالح الفرنسية. ولعلّ ما ضمنته فرنسا من مصالح خلال المرحلة الاستعمارية غير المباشرة أكبر دليل على ذلك، ففرنسا الاستعمارية لم تعد محتاجة لتحريك جيوشها -إلا نادرا- لتثبيت واقع التبعية ومنطق التفقير والإذلال الذي يطبع علاقاتها بمستعمراتها "السابقة"، إذ يكفيها أن تحرك طابورها الخامس في المجتمعين السياسي والمدني للدفاع عن مصالحها، بدعوى الدفاع عن مشروع "الحداثة" و"المنظومة الكونية لحقوق الإنسان" و"التعددية الثقافية" وغير ذلك من الحجج.
تموقع النظام التونسي في المحور الفرنسي يفسّر إلى حد كبير الموقف الرسمي من القضايا الإقليمية (خاصة القضية الليبية) وموقفه السلبي من تركيا (هو موقف يتجاوز الشأن التونسي إلى ما تمثله تركيا من تهديد للمصالح الاقتصادية الفرنسية في أفريقيا)، كما أن هذا "التحالف الاستراتيجي" قد يفسر جزئيا الموقف الرسمي من "الإسلام السياسي"

ليس المشروع "الفرنكفوني" في الوقت الحالي إلا جزءا من الاستراتيجية الاستعمارية الجديدة التي تُوفر لفرنسا مدخلا "لغويا" لمواجهة التراجع الكبير لنفوذها في القارة الأفريقية ثقافيا واقتصاديا. أما بالنسبة للنظام التونسي فإن القمة الفرنكفونية هي "رسالة طمأنة" لفرنسا ووكلائها المحليين بأن "الجمهورية الجديدة" لن تمس بالمصالح الفرنسية في تونس، سواء في ذلك تلك المصالح الاقتصادية أو الثقافية.

ولعل تموقع النظام التونسي في المحور الفرنسي يفسّر إلى حد كبير الموقف الرسمي من القضايا الإقليمية (خاصة القضية الليبية) وموقفه السلبي من تركيا (هو موقف يتجاوز الشأن التونسي إلى ما تمثله تركيا من تهديد للمصالح الاقتصادية الفرنسية في أفريقيا)، كما أن هذا "التحالف الاستراتيجي" قد يفسر جزئيا الموقف الرسمي من "الإسلام السياسي" باعتباره تهديدا للنموذج اللائكي الفرنسي ولأطروحة "الاستثناء الإسلامي" التي تصرّ باريس على تبنيها داخل التراب الفرنسي (قانون مكافحة الانفصالية) وخارجه (استهداف الدين الإسلامي واعتباره -دون سائر الأديان- يعيش أزمة حادة في علاقته بـ"الحداثة").

وقد يقودنا كل ما تقدم إلى أن نختم هذا المقال بالسؤال التالي: هل يمكن بناء مشروع وطني في تونس في ظل استمرار الهيمنة الفرنسية على تونس، أو بالأحرى في ظل عجز أو عدم رغبة كل الأنظمة المتعاقبة على الحكم -قبل الثورة وبعدها- في قطع "الحبل السري الاستعماري" مع فرنسا؟

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)