كتاب عربي 21

إن قلت ما تخاف شي..

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)

لم أكتب مقالي في الأسبوع الماضي، لأنني خشيت من تأثير كلماتي المحبطة على "ثورة 11/11"، وكدت أؤجل كتابة مقال هذا الأسبوع لنفس السبب، فبرغم عدم وقوع الزلزال إلا أن "التوابع" تواصلت واستمر الحديث عن الحدث الذي لم يحدث: فريق الموالاة يشمت في عدم قدرة الشعب المنهك على التظاهر (محدش خرج)، وفريق المعارضة بأطيافها توزع بين التبرير، والتنصل، وإعطاء الدروس في كيفية التنظيم والترتيب للثورات المقبلة!

فكرت في آرائي وما يمكن أن أقوله، ولم أجد ما يشجعني على الكتابة، فأنا مثل الجميع: أتمنى التغيير والثورة ولا أقدر على إنجاز شيء من هذا، فأمنيات الفرد لا تكفي لإحداث التغيير، ولا تساوي الكثير في أي عمل جماعي مثل التظاهرات السياسية. وأزيد فأقول إن "الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام أو خداع الناس وتبشيرهم بما لا نملك، وبما لم نرتب له بجدية وإخلاص.

(2)

هذا الكلام ثقيل وسخيف ويوحي بأن أحد العاجزين يحاول تجميل موقفه، فيستسهل إلقاء المواعظ على غيره ممن يحاولون التغيير وتغذية روافد الرفض والاحتجاج ضد نظام فشل في كل شيء إلا القمع والتخويف..
"الأمنيات الجماعية" نفسها لا تكفي لإنجاز مهمة معقدة كالثورات وإطاحة السلطات، لأن المهمة يلزمها الكثير من التنظيم، والتمويل، والوصول إلى درجة من التوافق والترتيب مع التيارات السياسية الفاعلة على الساحة، ولأن هذا لم يحدث، ولا تنبئ الأحوال بأنه سيحدث قريبا، فإن انتظار التغيير لمجرد غلاء المعيشة وتذمر الناس من السياسات، يدخل تحت عنوان "الأمنيات"، إذا لم يتدنّ التفكير إلى درك الأوهام

(3)

اعترافي بسخافة إلقاء المواعظ لا ينفي أنها صحيحة، لكن لياقة التعامل مع الجماهير تقتضي في كثير من الأحيان تأجيل التصريح بالصحيح، لأسباب تتعلق بالحشد الجماهيري وعدم إحباط الناس، ولهذا لا بد لي أن أكمل اعترافي فأقول إن هذا المقال ليس للناس، لكنه لنفسي، ولمن هم في موقفي: أولئك الذين يدركون أن الثورة التي نحلم بها بعيدة ومجهدة، لأنها بلا قادة على الأرض، والأسوأ أنها بلا جنود (إلا القليل البعيد عن الضجيج). صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود.

فالساحة الآن تحت سيطرة نفس العينة من السلوك، لكنهم ينقسمون إلى فريقين متضادين: كلاهما يستخدم الخداع والأكاذيب، كلاهما يستخدم الناس في لعبة الكيد بصرف النظر عن المصلحة الفردية والمجتمعية للأفراد، كلاهما يشتم ويسب ويخرج عن الأخلاق في صراعه مع الآخر، حتى بات الصراع الثوري في مصر صراعا بين خروف ومعزة، كما انتهى الخطاب السياسي السائد. وفي هذا المثال الساقط تتجلى صورة الصراع المتدني، بحيث يشعر قطاع كبير من الطبقة الوسطى بحرج إذا شارك في صراع كهذا، لأن الكثير من أفراد هذه الطبقة المسحوقة هم بقايا برجوازيات صغيرة لا زالت تتمسك بالحد الأدنى من الأخلاق، ولا يتصور معظمهم أن يتحول مقاول شارك النظام في فساده إلى قائد ثوري تلبي الجماهير دعوته للتظاهر، بينما خطابه السياسي لا يرتقي كثيرا عن خطاب السيسي، بل إن السيسي لم يهبط بعد إلى خطاب من نوع "المعلقة" و"الأوزعة"، ومساعدة الأمن على الزج بالشباب في السجون بدون عائد سياسي مقبول..

(4)

هذه الإشارة المختصرة ليست غمزا شخصيا ضد أحد، ولا رفضا طبقيا لالتحاق كل الناس بالعمل السياسي، فقط أنبه إلى علاقة "الخطاب" بالعمل الذي نقوم به وندعو إليه، فالخطاب (أي خطاب) هو رسالة تصل إلى أصحابها وأشباهها، وتجهل عناوين بقية الفئات في المجتمع. وهذا يكشف أن الدعوة للثورة أو التغيير السياسي في مصر انزلقت إلى ما يسميه الباحث باتريك هايني "سلوك السوق"، فلم تعد تخرج عن التراشق والكيد واستثمار المواسم في "التنكيد" على الخصم، لتستمر اللعبة تراوح مكانها حتى تنتهي بزوال الطرفين كما أوحى لنا هيجل، وكما صور لنا صلاح أبو سيف مآل الصراع بين أبو زيد وهريدي في فيلم "الفتوّة"، بينما الثوري لا يخوض المعركة بنفس معايير الخصم وأدواته وسلوكه وأخلاقه، أو كما قال نيتشة في أحاديث زرادشت: لا تحارب الوحوش بنفس أسلوبهم، لأنك إذا فعلت، فلن تختلف عنهم في شيء..
صحيح أن لدينا قائمين بالأمور يسدّون الفراغ في مواقع القيادة وفي الميدان المقفر، لكن هؤلاء ليسوا "أهل ثورة"، ولا يحملون قيمها، ولا يهتمون بما يراعيه كل ثوري أصيل في التزامه بما نعرفه وقرأناه عن "الأخلاق الثورية" ومطابقة السلوك للمجتمع المنشود لا للمجتمع الموجود

(5)

لا أعتذر عن صراحتي المتخففة من المجاملات، فنقد المعارضة أولى عندي من نقد السلطة، لأن قبول النقد الذاتي هو أول الطريق للتصحيح وللتنظيف ولإثبات الجدارة في التصدي للتغيير الحقيقي، وليس استبدال الأسماء والوجوه لتقديم نفس العشوائية في السياسات ونفس التدني في الخطاب، ونفس الممارسة في الإعلام ونفس الفُجر في الخصام.

وفي تقديري أن هذا التشابه العميق بين النظام السائد وبين منافسيه على السلطة (وهم موزعون على كل التيارات) هو الخطأ الأكبر الذي أهدر فرصة الربيع العربي، والذي يهدد بإجهاض أي عملية تحول حقيقي نحو مجتمع جديد، لأن البدائل المطروحة لا تختلف عن السلطة كثيرا في جوهرها: لا تختلف في طريقة تعاملها مع القوى الإقليمية والدولية، ولا تختلف في نظرتها للجمهور، ولا تنتمي إلى القيم المرفوعة في شعارات الثورات منذ "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وحتى "عيش حرية كرامة إنسانية".

فالسعودية موّلت الطرفين بحسب طبيعة علاقتها مع النظام في مصر، وأمريكا هي الإمام الذي يتبعه النظام كما يغازله الإسلاميون والليبراليون على السواء. لذلك تظل الثورة التي نحلم بها ونسعى من أجلها شريدة لا يهتم بها أحد، إلا كما اهتم السيسي بالسيدة منى، سائقة التروسيكل، أو كما اهتم ظاهريا بثورة يناير فسجلها كـ"مرجعية مكرمة" في دستوره، بينما يلعنها ويحذر منها في سياساته وخطابه العلني!!

(6)

أعرف أن هناك حسابات عملية، وأعرف أن الطموح للحكم مشروع، وأعرف أن السلطة لها جاذبيتها عند الجميع، لكنني أعرف أيضا أن الحالمين بثورة شعب من أجل حياته وكرامته وحريته، لا يهمهم الوصول إلى كرسي الحكم، لأن الكرسي لن يتسع لكل الناس، لذلك فإن الثوار لا يكترثون بألاعيب الانتخابات ولا يقدمون الوعود الكاذبة ولا يخدعون غيرهم بالشعارات، وإذا استخدموا لغة الإخوان سيقولون بصدق: نحن طلاب نهضة ولسنا طلاب سلطة ولن نترشح للرئاسة، وإذا استخدموا لغة الجنرال سيقولون: لن نقترب من الحكم ولن أسمح أن يقال إن جيش مصر تحرك من أجل السلطة..
لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة

الفارق أن الثوري الأخلاقي لا يخون ولا يحنث، ولا يخدع حتى من خدعوه، لأنه لا يتحرك من أجل سلطة ومنصب، بل يسعى لامتلاك مصيره وتعظيم حريته وصون كرامته وتحسين معيشته ومعيشة كل الناس من حوله، وفق قواعد اتفاقية ملزمة للجميع، ويُحترم القانون من غير قداسة للسلطة ورئيسها، لأن الرئيس عند الثوري ليس مقدسا يُهاب ولا زعيما يُتّبع ولا إماما يطاع، لكنه موظف خادم للشعب مقابل أجر، إذا أجاد كوفئ وإذا أخطأ وجبت محاسبته..

وبكل أسف أقول: لن تقوم لنا ثورة ولن ينجح لنا تغيير صائب إلا إذا أخلصنا لقيم الثورة (وليس لشخص)، وإذا التزمنا بأخلاقياتها (ولم نبرر سقطاتنا بأن خصمنا يفعل مثلها وأسوأ)، وحين يخرج المحتجون من أجل حريتهم ومعيشتهم وكرامتهم وليس من أجل صراع انتخابي بين الباشا والعمدة، أو صراع في مزاد بين أبو زيد وهريدي..

(7)

سيقول كثيرون إن هذا الكلام غير واقعي، وإن هذه الأفكار من خيال، لا بأس فأنا أؤمن أن الثورة ليست عملا واقعياً، لكنها إعادة صياغة للواقع بمقاييس الخيال، وأنا أحلم بما ليس موجودا، فمن السذاجة أن أحلم بالموجود، ومن الظلم أن أنشد ما أغضب منه عندما يفعله غيري، وأعتقد أن في البلاد كثيرين مثلي..

هل أنت أيضا كذلك؟

[email protected]
التعليقات (4)
Elnashar
الأحد، 11-12-2022 07:05 م
"وأعتقد أن في البلاد كثيرين مثلي." أتمنى هذا ....بل أريد أن أصدق هذا ، السؤال أين هم ؟ وكيف نجمعهم ؟ وكيف يظهر صوتهم ؟ وهل هم موجودين فيما يسمى الحوار الوطني ؟ ولو الإجابة نعم فمن هم ؟ولماذا أنت مش موجود بينهم ؟ ولو الإجابة لا فكيف نرفع صوت هؤلاء مثلك ؟ "أصوات الخرفان والمعيز" التي تكلمت عنها تعم ، والوصوليون والإنتهازيون والمنافقون والكذابون يسودون ، وهذا يقتل الأمل والروح ،وأهم شيء الوطن في خطر داهم لأن المسؤول عن هذا لم ولن يعترف بالخطأ . تحية للكاتب وتحية لإستمراره رغم كل مايحدث
Elnashar
السبت، 10-12-2022 03:16 م
"وأعتقد أن في البلاد كثيرين مثلي." أتمنى هذا ....بل أريد أن أصدق هذا ، السؤال أين هم ؟ وكيف نجمعهم ؟ وكيف يظهر صوتهم ؟ وهل هم موجودين فيما يسمى الحوار الوطني ؟ ولو الإجابة نعم فمن هم ؟ولماذا أنت مش موجود بينهم ؟ ولو الإجابة لا فكيف نرفع صوت هؤلاء مثلك ؟ "أصوات الخرفان والمعيز" التي تكلمت عنها تعم ، والوصوليون والإنتهازيون والمنافقون والكذابون يسودون ، وهذا يقتل الأمل والروح ،وأهم شيء الوطن في خطر داهم لأن المسؤول عن هذا لم ولن يعترف بالخطأ . تحية للكاتب وتحية لإستمراره رغم كل مايحدث
الكاتب المقدام
الجمعة، 18-11-2022 02:29 م
*** -2- ولكن الكاتب بثقافته الموسوعية أحياناُ ما يجهدنا نحن القراء البسطاء في محاولة فهمه، مثل قوله: "أن الدعوة للثورة في مصر انزلقت إلى ما يسميه باتريك هايني "سلوك السوق"، وباتريك هذا سويسري معاصر عاش في مصر حيناُ، وتزوج مغربية، ويقال بأنه اعلن إسلامه، وله كتاب منشور عنوانه "إسلام السوق" وليس سلوك السوق. كما يقول جمال: "لتستمر اللعبة حتى تنتهي بزوال الطرفين كما أوحى لنا هيجل"، وهيجل فيلسوف الماني مات 1830، ولم يوحي لنا بشئ ذو قيمة، لأنه عنصري بغيض كان يروج أن: "الأفريقي من قردة الأرض البرابرة المتوحشين، لا ثقافة له ولا حضارة، ووجود الزنجي وكينونته عقدة نقص له لا تفارقه، وأفريقيا محكومة بأن تظل خارج التاريخ"، فما الذي يوحيه إلينا هيجل؟. أما نيتشة الذي يستدعيه جمال، فهو فيلسوف ألماني آخر مات سنة 1900م بعد فقدانه لكامل قواه العقلية في السنوات العشر الأخيرة من حياته، نتيجة إصابته بمرض الزهري العصبي، الذي ينتقل بالعدوى بين الشواذ ومعاشروا العاهرات، وعاش حياته مروجاُ للفلسفة العدمية الملحدة مع إنكاره لوجود روح للإنسان، وأهم كتبه التي يشير إليها جمال "هكذا تحدث زرادشت"، وزرادشت هذا عاش قبل الميلاد في مناطق فارس، ودعى بأنه مبعوث دين الزرادشتية المجوسية، فمالنا نحن ومال هيجل ونيتشة وزرادشت هؤلاء؟.
الكاتب المقدام
الجمعة، 18-11-2022 02:26 م
*** -1- الظاهر أن الكاتب كان في حالة نفسية سيئة، كما حالة كثير غيره من المؤيدين لثورات الربيع العربي على الاستبداد والتخلف وحكم العسكر، عندما وصف نفسه بقوله: "كلماتي المحبطة.. لم أجد ما يشجعني على الكتابة.. أتمنى الثورة ولا أقدر على إنجاز شيء.. كلامي سخيف ويوحي بأن أحد العاجزين يحاول تجميل موقفه بإلقاء المواعظ على غيره"، ونحن نرى خلاف ذلك، فجمال الجمل بمواقفه الشجاعة، وآرائه الإيجابية، ليس محبطاُ ولا سخيفاُ ولا عاجزاُ، وهو يقوم بما يستطيعه في مجاله، في زمن ارتد فيه الكثيرون وتلونوا وتغيروا، وله جمهوره وقراءه ممن يقدرون مواقفه وكتاباته التي تحفز على التفكر والإيجابية، حتى ولو اختلفوا معه أحياناً.